الأستاذ: مختار الماجري/ تونس |
مفهوم
الحياة عند ميخائيل نعيمة في كتابه "من وحي المسيح"¹
فصل "يسوع
والسامريّة"² نموذجا
بقلم: مختار الماجري/ تونس
يختلف مفهوم الحياة من مفكّر إلى آخر
انطلاقا من زاوية النظر التي يطلّ منها كلّ ناقد أو أديب أو عالم، فها هو نعيمة
يعاطينا الحديث عن معنى الحياة من داخل كتابه "من وحي المسيح" وتحديدا
من خلال فصل "يسوع والسامريّة" الّذي يقع بين الصفحتين 161 و171 من الكتاب المذكور، وإذا أردنا أكثر دقّة نقول يقع بين الفصلين "السبت
والإنسان" و "يسوع والإيمان". وفي هذا النصّ يشير نعيمة إلى حديث
يسوع إلى فرقة السامريّة³ لتلقينها تعاليم عديدة، ويتّخذ الكاتب من هذا الحديث منطلقا
لتوضيح مسائل تبدو مهمّة في المعتقد المسيحي كمسألة "الخلاص". وهذه
الأخيرة تُعدَّ أرضيّة انطلاق خصبة بالنسبة إلى نعيمة توصله حتما إلى ضالّته
المنشودة الّتي شغلت باله طويلا وهي "مفهوم الحياة"، وعبر التدرّج
المنطقي وجد في حديث المسيح عن "ماء الحياة" ما من شأنه أن يطفئ ظمأه ويوصله
إلى شاطئ السلام. ومن "ماء الحياة" ينتقل إلى "شجرة الحياة"
ثمّ إلى إشكالية " المعرفة"، ومن هنا يقرّ كاتبنا بأنّ الخلاصَ رهين
المعرفة. فما المقصود بالخلاص؟ وكيف تبدو المعرفة
سبيلا إلى الخلاص؟ وأيّ نوع من المعرفة يقصد المؤلّف؟
لئن
كان مطمح الكاتب في هذا النصّ الوصول إلى ملامسة الهدف الرئيس والغاية القصوى
ونقصد "مفهوم الحياة" فإنّه مرّ بمسائل أخرى يُفضي بعضها إلى بعض
تُعتَبَرُ مُمهّدةً للمسألة الأمّ. وبفضل هذه المسائل ينقسم النصّ إلى أربع وحدات
معنويّة تتّصل كلّها بـ "الحياة". وسوف نعمد إلى عدم رسم الحدود الشكلية
لكلّ وحدة إيمانا منّا بأنّ التحديد الشكلي ليس سوى عمل إجرائي لا غير، فالخطاب والخبر
كلّ لا يتجزّأ – حسب تودوروف - إذ لا يمكن الفصل بينهما. إضافة إلى إمكانية الوقوع
في التكرار المعنوي لفكرة قد تُعاد في أكثر من وحدة معنوية. فما محتوى الوحدات المذكورة؟
تتناول
الوحدة الأولى الحديث عن ماء" الحياة الأبدية" ونوعيّته، أمّا الوحدة
الثانية – التي تُعتبر همزة وصل بين الوحدة الأولى والثالثة - فموضوعها حول
الخطيئة الأولى للإنسان لمّا أكل من الشجرة المحرّمة. ويوضّح لنا الكاتب مفهوم تلك
الشجرة ثمّ ينتقل بنا إلى الوحدة الثالثة للتعريف بشجرة ثانية تفوق الأولى من حيث
الأهميّة وهي "شجرة الحياة"، ويقرن المؤلف هذه الشجرة بمسألة
"المعرفة". وأمّا الوحدة الرابعة فقد اشتملت على كلّ ما ورد في الوحدات
السابقة من معان ومفاهيم لتصيغ مفهوما لمعنى الحياة".
استُهلّ
هذا النصُّ بمقولة كان المسيح قد وجّهها إلى فرقة السامريّة لتلقينهم أشياء
يجهلونها، أو قل شيئا يجهلونه وهو الماء "الذي يتفجّر حياة أبدية". إنّ
المعروف عن الأنبياء والرسل أنّهم جاؤوا لنشر الدين، أي أنّ رسالة دينية أُنيطت
بعهدتهم، فما علاقة "الماء" بالدين؟ هل هو
ماء مادّي أم معنوي؟ لماذا الماء بالذات دون العناصر الطبيعية الأخرى؟
في البدء، نشير إلى أنّ المعجم المقدّس أشار إليه البلاغيون حين تحدّثوا عن المجاز في المعجم المقدّس والقرآن خصوصا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ الماء مصدر أساسي للحياة به تحيا كافة المخلوقات، فهل تستقيم الحياة بلا ماء؟ ولكن هل إنّ يسوع يتحدّث عن الماء والحياة المادّيين؟
حين يذكر نعيمة الماء يقرنه بأزليّة الحياة
فيقول على لسان المسيح عليه السلام "ماء يتفجّر حياة أبدية"⁴، وبالتالي فهذا الماء هو غير
المألوف لدى المخلوقات جميعا في حياتنا المعهودة، بل هو "غير الماء المألوف
وهو لا ينبع من أشياء محسوسة بل من ينابيع خارج نطاق
المحسوسات"5. إنّنا إزاء كلام قد يعسر فهمُه على العامّة لا
تفهمه سوى نخبة معيّنة من الناس قد تفهم المجرّدات بحكم طبيعة الوسائل المعرفية
التي تمتلكها. وهذا ما سنوضّحه في الوحدة المعنوية الثالثة إضافة إلى " شجرة الحياة"
التي تمثل ينبوع هذا الماء أو مصدره. ولكن قبل ذلك يعرّج نعيمة – في الوحدة
المعنوية الثانية – على قصة الخطيئة الأولى تعريجا ليست الغاية منه سرد أحداث
القصّة بقدر ما يريد أن يذكر مصدر الخطأ المتمثل في "الشجرة المحرّمة" وكأنّه
يريد مقارنة بين هذه الشجرة و "شجرة الحياة" التي سنتعرّض إليها فيما
بعد.
إنّ الكاتب يضعنا حيال قصّة هامة ذكرتها كلّ
المصادر الدينية أو أغلبها وتتمثّل في الخطيئة الأولى للإنسان التي تسببت في عقابه
بحرمانه من البقاء في الجنة والنزول به إلى الأرض حين أكل من ثمار الشجرة
المحرّمة. وقد استقى الكاتب هذا الخبر من التوراة من خلال قوله: «حسب الأسطورة
التي جاء بها موسى»6. ولكنّ اللافت للانتباه أنّ هذه القصّة على أهميتها اختزلها
الكاتب في خمسة أسطر، وهو ما يؤكّد لنا أنّ هذه القصة ليست غاية بقدر ما هي وسيلة
عن طريقها يريد الكاتب أن يطرح مسائل تكاد تكون فلسفية لِما تتسم به من طابع
تجريديّ بحت يتصل بمفاهيم من قبيل "المعرفة"، "الخير"،
"الشر" وغيرها. "والشجرة المحرّمة هي شجرة معرفة الخير والشر"7. إنّ الأمر لا يتعلّق البتّة بمصطلح
"الشجرة" في حدّ ذاته بقدر ما يتّصل بمسألة فلسفية عالجها العديد من
المفكرين هي ثنائية الخير والشر. ولعلّ تأصيلَهما في الذات البشريّة استدعى حضور لفظ "شجرة" لِما
ترمز إليه هذه الأخيرة من تأصّل وتجذّر وثبات. ولكن إذا كانت ثنائية الخير والشرّ
متصلة بما هو جِبِلّةٌ في الإنسان، فكيف يتحدث كاتب النص عن إمكانية الخلاص من خلال "شجرة
الحياة"؟
قبل المرور إلى الوحدة الثالثة المتعلّقة بـ
“شجرة الحياة" فحريّ بنا أن نوضّح مصطلح "الخلاص". هو مصطلح ديني
عادة ما يُستعمل في الخطابات الصوفية، ولئن لم يذكره نعيمة ذكرا صريحا في هذا النصّ
فإنّنا نستوحيه – من خلال طرحه للمسألة – إيحاء جدوليا حسب التداعي الجدولي في
اصطلاح دي سوسير.
فالخلاص إذن متّصل بالمعنى الصوفي، أي أنّ
الخلاص- حسب نعيمة – هو التخلّص من المعارف الحسّية إلى معارف أخرى تمكّن الإنسان
من إدراك ما هو غير حسّي، أي من إدراك "شجرة الحياة". وبذلك يكتسب
الإنسان نوعا من الوعي يسمّيه نعيمة بِـ "الوعي الشامل"، يقول: "إنّه
حالة من وعي الإنسان لنفسه وعيا شاملا لا مجال فيه لأيّ فاصل أو حاجز بينه وبين ربّه
الّذي منه وفيه"8. فالخلاص إذن يتصل بـ “الوعي الشامل" وهذا الوعي
يتّصل بالاتّحاد بالذّات العلويّة، وبذلك يكون الإنسان قد حقّق الخلاص وأصبح روحا محضا وتمكّن من معرفة الحياة. وهذه المعرفة لا
تتمّ إلاّ بعد تذوّق ثمار "شجرة الحياة" وهي الشجرة التي " لم
يتذوّق بعدُ ثمارَها الإنسانُ وهو يوم بتذوّقها يصبح في غنى عن الطعام والشراب فلا يجوع أبدا ولا يعطش أبدا"9.
إنّ
الحياة التي يعنيها المؤلّف هي حياة تُدرك بوسائل معرفية غير عادية، إنّها الحياة
التي بموجب معرفتها يتخلّص بالإنسان من أدران المادّة ليتّحد بالذّات العلويّة ويحلّ
فيها. إنّها فلسفة الحلول عند نعيمة أو ما تُسمّى بِـ"الأُحادية الروحانية"،
وذلك ما يسمّيه نعيمة بـ “معرفة الحياة". ويعتبرها المعرفة الحقيقية الوحيدة
وكل ما عداها جهل يقول في هذا السياق: «فمعرفة الحياة هي وحدها المعرفة وكل ما
عداها جهالة، إنها وحدها النور وكلّ ما عداها ظلام، تلك المعرفة أدركها يسوع عندما
أدرك أنّ الله هو الحياة»10. ولعلّ أبرز وسائل هذه المعرفة هي: الإيمان والحدس، وقد أشار
نعيمة إلى ذلك في كتابه "اليوم الأخير"، كما أشار إلى ذلك محمد شفيق
شيّا في دراسته النقديّة لفلسفة نعيمة في "اليوم الأخير". يقول نعيمة في
كتابه: "من وحي المسيح": فالإيمان في أسمى مظاهره اعتراف المؤمن بحدود
العقل المقيّد بالمحسوسات ثمّ تخطّيه تلك الحدود إلى حقيقة الوجود الّتي لا
تُحس... ذلك هو الإيمان المبصر. وقليل هم المبصرون»11. أمّا الحدس فهو ضرب من
المعرفة الباطنية أو ما يُطلق عليه اسم " الحاسّة السادسة"، فهو نوع من
الإبصار الداخلي، ولعلّه يكون عن طريق القلب، إنّه الإبصار بعين غير العين
المألوفة، فهو بتعبير هنري برغسون «النظر بعين غير العين العادية»12. ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الحدس هو «التجربة الميتافيزيقية» التي فيها تنكشف لنا
ذواتنا، فندرك «المطلق» في صميم نفوسنا.
إنّ الوسائل المعرفية التي يطرحها المؤلّف
تبدو مستعصية على العامة من الناس، إنها موجّهة إلى فئة معيّنة قد تكون المتصوّفة
أو غيرها من الفئات القادرة على استيعاب تلك الوسائل وهم قلّة، ألم يقل هو نفسه: «وقليل
هم المبصرون»؟ نلاحظ أنّ نعيمة يسعى جاهدا إلى بلورة مفهوم الحياة من خلال مفاهيم ومصطلحات
تنحو منحى تجريديا تتّضح معالمها في الوحدة الرابعة.
لقد عبّر صاحب الأثر - في أسلوب يقوم على
الحدّ والتعريف - عن صفة توحي بنظرته للحياة قائلا: «فالحقيقة هي الحياة والحياة
التي هي الروح»13. فنحن إزاء معادلة رياضية كالتالي:
الحقيقة = الحياة
الحياة= الروح
فنستنتج أنّ الحقيقة =
الروح.
وإذا أردنا أكثر دقّة يمكن
أن نرمز إلى الحقيقة بِـالحرف(أ) وإلى الحياة بالحرف (ب) وإلى الروح بالحرف(ج)
فنقول:
(أ) = (ب)
(ب) = (ج)
إذن (أ) = (ج)
ومن هنا نلاحظ منطقيّة
نعيمة في الإدلاء بآرائه واستنتاجاته من جهة، ومن جهة أخرى نشير إلى أنّ نعيمة منذ
البداية يريد أن يصل بالقارئ إلى هذه النتيجة التالية: الحقيقة تساوي الروح، بمعنى
أنّ الحياة الحقيقية هي فناء في الروح التي لا تُدرك بالعقل المحدود. بل الحياة هي
الاتّحاد بالله، بل الحياة هي أن يكون الإنسان إلاها، ألم يقل نعيمة في
"اليوم الأخير": لا قيمة للإنسان ما لم يصبح إله نفسه»؟ إذا كانت هذه
الدعوة ممكنة، فكم من إله يصبح في العالم؟ ولئن اعتمد نعيمة النص الإنجيلي وأشار
إلى نظرية الحلول محيلا على إنجيل يوحنّا المعمدان وتحديدا الأصحاح الرابع عشر
وكذلك الأصحاح العاشر، فإنّ النص يقرّ بوحدانية الله " أحبّوا الربّ إلهكم «،
وإن كانت الدعوة غير ممكنة فلِم يدعو إليها نعيمة؟ هل إنّ تصوّر نعيمة للإله هو ما
نملكه نحن من تصوّر أم له معنى آخر؟ يقول
نعيمة بأنّ الكون مجموعة عوالم ولكل عالم ربه الذي يهيمن عليه لكنّ الأرباب جميعا
خاضعون لسلطان الله. ولقد بيّن نعيمة الفوارق بين الألوهية والربوبية. أمّا الله
فقد عرّفه بأنّه الحياة التي لا نعرف لها بداية ولا نهاية، وهو روح وهو منزّه عن
الشكل والصورة - وفي هذا السياق تلتقي المسيحية مع الإسلام - وهو مختلف عن الربّ ولا
يمكن أن يدرك بالحواس لأنّه روح والروح لا تُدرك إلاّ بالروح. كما تلتقي المسيحية
مع الإسلام في مسألة الوحي حين نقرأ ما قيل على لسان السيد المسيح «لأنّي لا أتكلم
بشيء من عندي بل الأب الذي أرسلني وأوصاني ما أقول لكم... فالكلام الذي أفوه به
أقوله كما قاله لي الأب»14
أمّا
مسألة المعرفة التي يطرحها نعيمة من حيث النوع فهي المعرفة المطلقة التي تسبر
أغوار الماضي والحاضر والمستقبل؛ ما كان وما هو كائن وما يجب أن يكون. وأمّا
أدواتها فمختلفة، منها "روح القدس" وهو ما يسمّيه نعيمة "روح الوعي
الشامل"، إضافة إلى أداة "الحدس" وكذلك أداة
"الإشراق"... وهي الأدوات الوحيدة الموصلة إلى الحقيقة التي هي "
شجرة الحياة".
وفي ختام هذا المبحث حريّ بنا أن نشير إلى
أنّ ميخائيل نعيمة قد تجشّم صعوبة خوض غمار مثل هذه المسائل التي لا تبدو سهلة البتّة،
الأمر الذي جعله يقع في التناقض في العديد من المواضع رغم محاولته إضفاء الطابع
المنطقي على خطابه. وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر أنّ موضوع الاتّحاد مع الذات
العلوية والأدوات المعرفية المعتمدة في فلسفة الحلول تبدو كلّها مستمدّة من الفكر
الصوفي من خلال خطابات روّاده كالحلاّج وابن الفارض وابن عربي والسهروردي وغيرهم،
إلاّ أنّ نعيمة يـُنكر اعتماده على رجال الدين، يقول: «إنّني لا أكتب لرجال
اللاهوت ولا بوحي منهم...بل بوحي من أعمق أعماقي»15، وهنا يتجلى التناقض. كما
يتّضح أيضا في إقرار النص الإنجيلي بأنّ الله له عرش وله يمين ويسار "...وله
عرش في ذلك المقر وله يمين ويسار، واليمين هو مقام الشرف. ومن هنا قول يسوع إنه
يجلس عن يمين الآب"16. بينما يقول في موطن آخر: «لا يمين له ولا يسار ولا
عرش له ولا صولجان».
لقد كان نعيمة معجبا بالمسيحية مأخوذا بها إلى
حدّ الانبهار، يقول: «يا مسيحي! أشهد أنّك حاضر أبدا في حياتي منذ أن وعيتُ
نفسي وحتّى الساعة»17، فكانت كل أفكاره نتاج هذا العشق العاطفي الوجداني فبدت أقرب
إلى الانطباعية منها إلى المعقولية، يقول موجّها خطابه إلى المسيح: «وأنا
فيما أستنتج لا أسير على هدى عقلي بل على نور محبّتي لك ومحبتك لي»18. ولعلّ هذا
الإعجاب المفرط بالمسيحية وعدم تحكيم العقل في مثل هذه المسائل هو الذي أوقعه في
بعض التناقضات فغابت الموضوعية عن أغلب مواقفه وآرائه.
صحيح إنّ عيسى بن مريم عليه السلام رسول
ذُكر في القرآن الكريم عدّة مرّات، بل دعانا الله سبحانه إلى عدم التفريق بين
الرسل إذ جاء في أواخر سورة البقرة «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن
رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»19. فالدين المسيحي دين
تسامح وهي سمة حميدة، غير أنّه مُغال ومغرق في تلك السّمة مقارنة بالدين الإسلامي
الذي هو دين علم وعمل، وتتّضح تلك المغالاة حين اجتمع السيد المسيح بالجموع على
الجبل لكي يعلّمهم دستورا أخلاقيا لهدوء النفس وسلامها وسعادتها أيضاً في الحياة فقال
لهم: حينما يؤذيك أحدهم لا تقابل الشَر بمثله بل من لطمك على خدك الأيمن (أي فعل
الشَر بك) فحوّل له الخد الآخر أيضاً (أي أظهر له الجانب الأخر وهو المحبّة
والتسامح. وتتجلى صفة التسامح بوضوح في الإنجيل الرابع ليوحنّا المعمدان.
رغم بعض المواقف والرؤى الانطباعية عند
نعيمة الناتجة عن عشقه اللامتناهي للمسيحيّة ممّا وسم كتابه"من وحي
المسيح" بطابع يسوّغ لنا تسميته بالإنجيل الخامس، فإنّنا لا يمكن أن ننكر
مجهود الرجل في تقصّية كلّ التعاليم والمبادئ التي تقوم عليها المسيحية. ومن كلّ
هذا استقى مفهوما للحياة يتماشى مع تلك التعاليم التي تأخذ طابعا صوفيّا يصعب
تطبيقه في واقع الحال. ومفهوم الحياة بهذا المعنى تناولته مصادر أخرى ذات طابع
فلسفي- ديني إلاّ أنّ نعيمة تصرّف في المسألة ليضفي عليها طابع التفرّد وطابع
التفلسف بحكم ثقافة الرجل الشاملة.
ولئن اكتسى مفهوم الحياة عند نعيمة طابع الفرادة
في اغلب جوانبه فإنّه ظلّ يتأرجح بين النصرانية والإسلام نظرا لطبيعة المسألة وارتباطها
بالمقدّس، فالأديان المتصلة بالرّسل وتشهد لها الكتب المقدسة بذلك فهي مهما تنوّعت
تسمياتها واختلفت تفاصيلها فإنها سليلة مصدر واحد يمتح من رافد واحد مهما اختلفت
المشارب، ويصعب على من يحاول الفصل بينها فصلا جذريا. فأفكار نعيمة القريبة من
الفلسفة هي بمثابة أسئلة تلقي بضلالها على مفاهيم مجرّدة أبوابها مشرعة على البحث.
وضلال الأسئلة هو التعبير عن الفرادة المكرورة أو عن قدامة الجدّة وعن تصارب
الاقتدار والانعتاق تصاربا هو منهما كالجذمور أو الأرمولة الممتدّة بعيدا في أرومة
الوجود.
بقلم:
مختار الماجري- أستاذ أوّل مميّز لغة عربية/ تونس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- "من وحي المسيح" مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، الطبعة
الثانية 1987
2 - هذا الفصل يقع بين فصليْ " السبت و الإنسان" و "
يسوع و الإنسان" من كتاب " من وحي المسيح" لميخائيل نعيمة.
3-سُمّيت بـ"السامريّة" نسبة إلى السامرة في نابلس وهم
طائفة من اليهودلا تعترف من العهد القديم إلاّ بالأسفار الخمسة الأولى التي تشتمل
على الشريعة. وقد قبلوا رسالة المسيح ولم يكن بينهم وإيّاه صدام عقدي، أمّا
علاقتهم باليهود فتقوم على التنافر والتضاد.
4 - " من وحي المسيح" مؤسسة نوفل ،بيروت ، لبنان، الطبعة
الثانية 1987 ص 163.
5 – المصدر نفسه ص 169.
6 - المصدر نفسه ص 169.
7- المصدر نفسه ص 169.
8 - المصدر نفسه ص 63.
9 - المصدر نفسه ص170
10 - المصدر نفسه ص170
11 - المصدر نفسه ص175
12 – انظر : Henri Bergson : Essai sur
les données immédiates de la conscience, EDITION ORIGINALE, (1889).
13 - " من وحي
المسيح" مؤسسة نوفل ،بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية 1987 ص171
14 – المصدر نفسه
ص112
15 - المصدر
نفسه ص35
16 - المصدر نفسه ص103
17 - المصدر نفسه ص7
18
– المصدر نفسه ص8
19 - سورة البقرة الآية 285
بقلم: مختار الماجري- أستاذ أوّل مميّز لغة عربية/ تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يتم نشر التعليق بعد المراجعة