الأحد، 29 يناير 2023

قراءة عابرة في بعض كتابات فوزي الديماسي بقلم الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

الأستاد: مختار الماجري/ تونس
 

قراءة عابرة في بعض كتابات فوزي الديماسي

بقلم الأستاذ: مختار الماجري

فوزي الديماسي "رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه" بتعبير بديع الزمان الهمذاني، فحين تقرأ كتاباته السرديّة تخال نفسك في حضرة الشعر، فسرديّات الرجل مضمّخة بمزيج من النّثر الشّعريّ، وحين تحاول استيعاب هذا المزيج تجد نفسك حيال شذرات فلسفيّة كامنة في ذات الكاتب تصبو إلى الخروج نثرا أو شعرا.

    هو سبيل ارتآه فوزي الديماسي ليرسم من خلاله -عبر لغة تجمع بين العامي والفصيح- نهجا في الكتابة التجريبيّة يلبّي غاية كامنة فيه تنمّ عن اعتراف بفضل مدينة هي بالنسبة إليه "الولاّدة والوسّادة" في الآن ذاته. فانبرى يسجّل كلّ كبيرة وصغيرة مرّت بذاكرته في رحاب مدينة قصر هلال. تلك المدينة الموطن، المدينة الأمّ بما تحمله من ذكريات وعادات وتقاليد وحياة نابضة بالخصوصيّة والتفرّد تنبئ عن اعتزاز الكاتب بانتمائه لهذا الموطن العزيز، فيبدو مأخوذا بتفاصيله وجزئيّاته غارقا في عشقه حدّ النخاع.

    يحاول فوزي الديماسي أن يرسم طريقا يبدو فيه مختلفا عن الكتابات المعهودة، فكتاباته لا تنتمي بشكل واضح إلى السيرة الذاتيّة وإن أوهمتنا بذلك، ولا هي إلى الكتابة الواقعيّة الصّرفة، فكاتبنا يضيف من الخيال الشّيء الكثير على ما يكتب، فيزاوج بين الخياليّ والواقعيّ ليتحرّر من إسار الواقعيّة ويتمرّد على تهويمات الخيال. ولعلّ وسم البعض من كتبه بعنوان يحمل اسم المدينة "قصر هلال" لخير دليل على العلاقة الحميميّة بينهما، فأحدها: " قصر هلال، ذاكرة طفولة... طفولة ذاكرة"، وثانيها "قصر هلال... سيرة مكان". وثالثها "قصر هلال... من هنا عبروا".

فــــــــــ "قصر هلال، ذاكرة طفولة... طفولة ذاكرة" كتابٌ بُني في ثلاثة فصول تتّصل جميعها بنهج الجمهوريّة؛     

1-    من أيام نهج الجمهورية،

2- ما بعد نهج الجمهورية،

3- نهج الجمهورية أكبر ممّا كنت أتصوّر طفلا.

  إنّ الاهتمام بالمكان واضح من خلال عناوين الفصول إلاّ أنّ هذا المكان لم يكتسب أهمّيّته لو لم تكن له علاقة متينة وروابط حميمة بمن سكنوه من جهة وبذكريات الكاتب من جهة أخرى. فالكتاب ضرب من السّيرة والتّوثيق فيهما احتفاء ملحوظ بالتّفاصيل المتنوّعة زمن طفولة الكاتب، وبذلك حمى الكاتب كمّا هائلا من الأخبار والأحداث والذّكريات من الاندثار عبر معطيات توثيقيّة تكون أحيانا مؤرّخة بأزمنة ومواقيت دقيقة كما جاء في مقدّمة الكتاب: "سنة 1995، وتحديدا يوم الأربعاء 1 نوفمبر تاريخ وفاة والدتي سعاد صالح رحمها الله..."1، إلاّ أنّ هذه الدقّة التأريخيّة  كانت إشارة من الكاتب إلى سبب دخوله عالم الكتابة من جهة و إلى  أهمّية الحدث من جهة أخرى، لأّنّها ليست غاية الكاتب الأولى  ولذلك لم تتواصل في كتاباته واقتصر الكاتب على التّسجيل المفصّل دون تواريخ دقيقة لإيمانه بتوجّهه الأدبيّ لا التاريخيّ أو التّوثيقيّ بما في الكلمة من معنى، بل نجد فوزي الديماسي نفسه يستبعد -تواضعا منه- أن يكون مؤرّخا أو موثّقا، و إنّما يرجع ذلك إلى ضرب من النوستالجيا  أو الحنين إلى ماض يرى فيه صورة طفولته السّعيدة فيعيش على وقع ذكراها من جهة ومن جهة أخرى اعتراف منه بفضل هذه المدينة "قصر هلال" عليه، حين احتضنته صغيرا  وعلّمته من تقاليد حياتها الشّيء الكثير. يقول كاتبنا: "إنّ كتاباتي في هذا المنجز ليست بالتوثيقية، أو التأريخيّة، وأنَّى لي بلوغ درجات المؤرّخين وأهل الذّكر في السيوسيولوجيا والأنتروبولوجيا ، و إنّما هي إطلالة يغلب عليها طابع الحنين، ومشاعر النوستالجي..."2 

بل لعلّ الكاتب أدرك الغاية الأساسيّة من هذه الكتابة وهي الاعتراف بجميل المدينة، يقول: "ثمّ إنّ كتابتي هذه ما هي بالكتابة المجانيّة، أو من باب البكاء على الأطلال. وإنّما هي لمسة وفاء لأرض طيّبة عشنا على أديمها حياتنا بحلوها ومرّها، وتقلّبنا بين أحضانها.." 3.

أمّا "قصر هلال... سيرة مكان" فهو كتاب قامت بنيته على فصلين يُختمُ كلّ منهما بهامش مطوّل يشرح فيه الكاتب كمّا هائلا من معاني المصطلحات العاميّة الّتي تمّ توظيفها. ويرسم صاحبه مشاهد واقعيّة وصفا دقيقا تستحيل المشاهد فيه إلى لوحات فنّية تتحرّك أبطالها   أمام أعين القرّاء دارت أحداثها في مدينة قصر هلال، فالكاتب اختار عمدا التّكثيف من استعمال المحلّي اللّهجوي للإبقاء على طبيعة الموضوع وغاياته البعيدة وفاءً لمنهج يتناغم فيه المبنى مع المعنى فيشكّلان معا صورة واضحة لنوستالجيا مفقودة تستأنس بها الذّات عبر الذاكرة.

  أمّا " قصر هلال... من هنا عبروا" فهو مازال قيد الطباعة و إن لم يختلف عن سابقيه من حيث الاحتفاء بتسجيل الوقائع المتّصلة بقصر هلال والسّاحل عموما، وذكر أهمّ الشخصيّات الّتي مرّت بذاكرة الكاتب، فإنّه يختلف من حيث تناول القضايا وبعض المسائل، وقد مكّنني صاحبه مشكورا من الفصل الأوّل قبل طباعة الكتاب، وقد تكون لنا وقفة أكثر دقّة مع بعض مؤلّفاته الأخرى وهي عديدة.

         يحاول فوزي الديماسي أن يرسم طريقا يبدو فيه مختلفا عن الكتابات المعهودة، فكتاباته لا تنتمي بشكل واضح إلى السّيرة الذّاتيّة وإن أوهمتنا بذلك، ولا هي إلى الكتابة الواقعيّة الصرفة، فكاتبنا يضيف من الخيال الشّيء الكثير على ما يكتب، فيزاوج بين الخياليّ والواقعيّ ليتحرّر من إسار الواقعيّة ويتمرّد على تهويمات الخيال. كما نراه يؤلّف بين جملة من الثنائيّات المتضادّة: العامّي والفصيح/ السّرديّ والشعريّ/ الواقعيّ والخياليّ... بحثا عن سبل تجريبيّة في الكتابة لم تُطرق بعد.

مختار الماجري/ تونس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الهوامش:

1- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص9.

2- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص10.

3- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص11.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم نشر التعليق بعد المراجعة

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين