الخميس، 3 نوفمبر 2022

التوحيدي بين المسامرة والترشيد،،، الأستاذ مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس
 

التوحيدي بين المسامرة والترشيد

عرف القرن الرابع للهجرة نهضة أدبية ملحوظة تجلّت معالمها في مختلف الآثار الأدبية في تلك الفترة، كـ “المقامات" لبديع الزمان الهمذاني و "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي و" الإمتاع والمؤانسة" لأبي حياّن التوحيدي. وتكمن أهميّة هذه المؤلّفات في كشفها لملامح مجتمع القرن الرابع في تلك الحقبة الزمنية، وخاصّة مسامرات التوحيدي لابن سعدان التي تبدو في ظاهرها مؤانسات أديبٍ لسائس تحقّق له الإمتاع ولكن في باطنها مساهمة من مثقّفي القرن الرابع في ترشيد السلوك السياسي للإمارة البويْهيّة قولا وفعلا.

فكيف تمّت مسامرات التوحيدي لابن سعدان؟ وهل كانت فعلا إمتاعا ومؤانسة للوزير أم هي ضرب من الإسهام الثقافي في ترشيد السلوك السياسي أم مجرّد متكسّب يُرضي طلبات وليّ النعمة؟

     تقوم بنية المسامرة بشكل عام على التدرّج من الطلب إلى الاستجابة فالتعليق. وأمّا أطراف الخطاب فتتكوّن من وزير متقبّل وأديب باثّ ورسالة ممتعة. وداخل سؤال الوزير وفي أجوبة التوحيدي المتوالدة عن بعضها البعض والمتفرّعة داخليّا وفق أسلوب التداعي نجد تضمين الأخبار والأشعار والطرائف في المسامرة. فما هي مظاهر الإمتاع والمؤانسة في مسامرات التوحيدي؟

      تتجلّى مظاهر الإمتاع والمؤانسة في الإطار المجلسي، وهو إطار ليلي ومجلِسُ خاصّةٍ في قصر وزير، وهي سنّة تقريب الأدباء من المجالس. أمّا المواضيع فكانت متنوّعة بفعل الثقافة الموسوعية والاستطرادات اللذيْن يسمحان بتنوّع ممتع ومثير. وكلّ ذلك صيغ بلغة وأسلوب مخصوصيْن من خلال تنميق العبارة وسلاستها وبلاغة الجملة ودقّة تركيبها واعتماد محسّنات البيان بكثافة. فبدا كتاب "الإمتاع والمؤانسة" موسوعة حضارية وأدبية وعلميّة وظّفها التوحيدي في إمتاع السّائس. هذا التوظيف الظاهر لا يُعتبر مهمّا في نظر الناقد أمام توظيف باطن جعل الكتاب يخدم وظيفة الترشيد السياسي. فما الأساليب المعتمدة في ذلك؟

      من أهمّ أساليب الترشيد السياسي نذكر التوجيه والإرشاد والموعظة والتذكير في الخطاب المباشر وأساليب الإسناد في الرواية والنقل عن علماء العصر في الخطاب المباشر كإسناد الأقوال إلى أبي سليمان المنطقي وأبي سعيد السيرافي ومتّى بن يونس. وتنزع هذه الأساليب بالترشيد في "الإمتاع والمؤانسة" نزعتين إحداهما نقلية دينيّة مستفيدة من أدب المناصحة في تحقيقه لوظيفة المشورة، والأخرى عقلية من خلال أقوال التوحيدي كالحجاج والتعليم والاعتبار، وتحقّق هذه الأساليب وظيفة نقدية للسلوك السياسي وتضمن تأثيرا أوسع للمثقفين في البلاط. أمّا الترشيد بالأفعال فيتجلّى من خلال تدخّل مباشر يغيّر قرارات سياسية جائرة في حقّ الرعيّة، ومثال ذلك توسّط العلماء لخوف العامّة من الروم ومن آثار الفتنة مع معزّ الدولة البويهي وتأثيرهم على موقفه في صالح حماية الرعية. وكذلك تدخّل التوحيدي لدى الوزير ليسعّر الخبز ويكلّفه مجانا للفقراء بعد حادثة باب الطاق. أو تدخّل التوحيدي مع الوزير في إسكات غضبه مِنْ تكلّمِ العامّة في سياسته.

     إنّ القرار السياسي مجال من مجالات تأثير المثقّف، إذ لا يتمّ تنفيذ حاسم دون استشارته ممّا حوّل المسامرات مطارحات وتناصحا واستفادة سياسية. ولكن لا يمكن الجزم بأنّ دور المثقّف يقتصر على الجانب الإيجابي وحسب، فحين ننظر في الفترات التي تولّى فيها المثقّفون الوزارة من ابن عبّاد إلى ابن العميد إلى ابن يوسف إلى ابن سعدان نجدهم رؤوس فتنة شقّت البلاط البويهي. ولكنّ التوحيديّ في "الإمتاع والمؤانسة" آثر الترشيد السياسي على الإمتاع والمؤانسة رغم أنّ عنوان الكتاب يوحي بالأنس والمتعة. فالإمتاع والمؤانسة عنصر محدود في الكتاب بينما الترشيد السياسي عنصر موسّع.

      فلئن وُسِم الكتاب من خلال عنوانه بـ "الإمتاع والمؤانسة" فإنّ هذه الصفة كانت نسبتها ضعيفة مقارنة بنسبة الوظيفة الاجتماعية للكتاب، سيما والتوحيدي يعرض على الوزير مشاغل التدهور السياسي وصور انهيار الدولة ومظاهر معاناة العامّة. ورغم هذا التفاوت يمكن القول إنّ التكامل بين الوظيفتين ممكن مادامت النصيحة تُغلّفُ بالأسلوب الممتع حتى تضمن التأثير المناسب وتلقى القبول الحسن كما نهج ابن المقفّع في كتابه كليلة ودمنة.  

    إنّ كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لا يخرج عن خصائص أدب المجلسيّات وإنْ مال أكثر إلى الإحاطة بالواقع واستيعاب الثقافة بحكم سعة اطّلاع صاحبه وفضله في تجميع معارف العصر، وبذلك يحقّق التوحيدي لنفسه غايتين: أن يكون أديب بلاط، وأن تعلو قيمته بين أدباء عصره، كما يمثّل في تجربته نموذج المثقّف الوسيط يُناصح السّائس ويشير عليه ولا يتمرّد على سلطانه مادام البلاط راعيا للأدب.

 

مختار الماجري/ تونس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم نشر التعليق بعد المراجعة

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين