‏إظهار الرسائل ذات التسميات ورقات نقدية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ورقات نقدية. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 13 يونيو 2023

"وقائع حارة الزعفراني" لجمال الغيطاني رواية الحدث الواحد رغم الإيهام بالتعدّد،،، مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس
 

"وقائع حارة الزعفراني" لجمال الغيطاني

رواية الحدث الواحد رغم الإيهام بالتعدّد

إنّ الكتابات الروائية الحديثة النازعة إلى التحضّر، كتابات مغامِرة تنحو منحى التعدّد، وفي نهجها ذاك تقطع مع المعتاد في الكتابة الروائية مبنى ومعنى وبصفة خاصة على مستوى البنية المشكّلة للرواية وأعني بها بنية السرد خصوصا.

يُعَدّ الإيهام بالتعدد من الخصائص الأسلوبية المميزة في الرواية العربية الحديثة، ويعني إيصال المؤلف لمعانٍ متعددة للكلمات والجمل بمعنى واحد. ويتم ذلك عن طريق استخدام تقنية اللفظ بالمعنى المجازي، أو تشكيل الجمل بطريقة ملتبسة أو غامضة تفتح المجال لتفسيرات مختلفة.

ويتمثل الإيهام بالتعدد في الرواية العربية الحديثة في استخدام الأساليب اللغوية والأدبية المختلفة مثل التشبيه والاستعارة والمجاز والاستدراك، وغيرها من الأساليب التي تساعد على تحقيق هذا الغرض. ويهدف الإيهام بالتعدد إلى إثراء المعنى وتعميقه، وترك الباب مفتوحاً لتفسيرات متعددة، ما يجعل القارئ يتفاعل مع النص ويستمتع بالتأمل والتفكير في معانيه المختلفة. غير أنّ هذه الروايات المتجاوزة للمألوف في مختلف أنساقها نجدها – بعد قراءة متأنية – تقتضي دقّة في النظر، فهي توهم المتلقّي – من خلال قراءته الأولى- بالتعدّد في جل منعطفاتها ومواطن تأسيسها. لكنّ الثّلَجَ في أمرها هو وحدة الواحد المختفي وراء المتعدّد المختلف، وفي صلب هذا التوجّه الروائي تُطالعنا رواية "وقائع حارة الزعفراني" للروائي المصري جمال الغيطاني المنتمي إلى تيار التجريبيين في عالم الرواية. وقد كتب الرواية المذكورة في بداية السبعينات (1973) مصوّرا فيها موقفه من العالم عموما والعالم العربي خصوصا والعالم الأدبي بصفة أخصّ، فكانت رواية الواحد المسكون بالتعدّد.

فكيف تبدو رواية «وقائع حارة الزعفراني» لجمال الغيطاني، رواية الحدث الواحد الموهم بالتعدّد؟ بصيغة أخرى، أين تتجلّى الفرادة الموهمة بنقيضها في الرواية المذكورة؟

أُلّفت الرواية عام 1973 أي في مرحلة ما بعد الناصريّة مباشرة، تلك المرحلة التي شهدت هزّات سياسية واجتماعية عنيفة أفضت إلى تفكك المجتمع العربي والأفراد وانعكست على مختلف البنى فأفضت إلى نثرية العلاقات الاجتماعية.

    ولئن بدت الرواية خارجة عن سياقها التاريخي والمجتمعي فإنّ الروائي حريص على جعلها شاهدا على تلك الأوضاع أو تلك المرحلة الزمنية المخصوصة لا سيما وأنّ الغيطاني صرّح باهتمامه "المبكّر، منذ فترة بعيدة، بالتاريخ"، فهو يعود إلى التاريخ ويعتمده من مراجع الكتابة الروائية ليحوّله إلى دلالة رامزة فيما يكتبه، فهو لا يستنسخ الحادثة التاريخية وإنما يُحييها لتتضمّن الواقع المعيش الراهن.

     وللحديث عن مظاهر الفرادة الموهمة بالتعدد في " وقائع حارة الزعفراني" لا بدّ من التساؤل عن بنية الرواية المذكورة؟ ونستهل الإجابة عن هذا السؤال بالنظر في العناوين أوّلا لأنها تساعدنا على تمثّل نسيج الرواية العام. فالعنوان الرئيسي "وقائع حارة الزعفراني"؛ نحن إزاء ثلاث معطيات: "وقائع" – "حارة" – "الزعفراني". فلِمَ هذه المعطيات بالذات دون سواها من المرادفات؟ وما هي دلالاتها وأبعادها؟ بصيغة أخرى: لِمَ لَمْ يقل بدل "وقائع" أحداث أو أخبار؟ ثمّ هل إنّ الحارة تمثّل المكان في هذه الرواية الذي يستقطب الشخصيات والأحداث ويسِم خصوصية البناء الروائي؟ و "الزعفراني" هل هو مكان محدّد في القاهرة أم هو من نسيج المتخيّل الروائي؟

      لو نظرنا في التعريف اللغوي لكلمة "الوقائع" نجدها لا تخرج عن حيّز المصائب والحروب، وقد عرّفها ابن منظور في "لسان العرب" حيث تناول الجذر الثلاثي للكلمة "وَقَعَ" ومنها الواقعة التي عرّفها بالداهية أو النازلة وهي كذلك القيامة واستدلّ بالقرآن «إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة»، ومنها " الوقيعةُ والوَقْعَة’: الحرب والقتال وقيل المعركة، الجمع: وقائع. ووقائع العرب: أيام حروبهم"². أمّا "حارة الزعفراني" فهو تركيب إضافي يُعرّفُ فيه المضاف عن طريق المضاف إليه، أي تُعرّفُ الحارة بالزعفراني.

ويختزل لفظ "حارة" دلالات مختلفة:

*دلالة المكان: وما فيه من تفاصيل الحياة اليومية.

*دلالة المجتمع: فالحارة حيّ، مجمع سكنيّ، تساكُن ٌ وتجاورٌ: مجموع صلات بشرية.

*دلالة التاريخ: فالحارة تركيب معماري يجسّم تاريخا قديما أو حادثا.

*دلالة الوجود: وذلك في مواصلة الحياة عن طريق توارث الأبناء الحياة عن الآباء.

إضافة إلى هذه الدلالات نجد علامات كثيرة في النص تؤكّد أنّ "حارة الزعفراني" كائنة في القاهرة.

    أما العناوين الفرعية فتمثل نسيج الرواية عامة، والرواية ملفات، والملف يحيل على عديد السياقات. إذ نجد مثلا ملفا إداريا وآخر صحافيا، ومثل هذه الملفات لا تهمنا بقدر ما يهمنا الملف البوليسي، إذ كلمة ملف كما وضعها جمال الغيطاني تعني في مستوى أوّل ما يحيل على دلالة الملف البوليسي ويظهر ذلك في الترقيم وفي التفصيل أحيانا وفي الإيجاز أخرى والتجميع أيضا (تجميع الأخبار). وهي ملفات أربعة يبدأ أولها بتعريف الشخصيات الأساسية في حارة الزعفراني و "معلومات مستقاة عنها من مصادر شديدة العلم بما يجري في الحارة"² أما الملف الثاني فهو ينطلق من الأحداث -على عكس الملف الأوّل الذي انطلق من الأسماء- وكذلك الملف الثالث والرابع وكلاهما مواصلة للملف الثاني، أي مواصلة للأحداث التي جرت يوم الجمعة وأيام تالية لذلك اليوم³ وتضم هذه الملفات بعض المشاجرات و الأحداث التي وقعت في الزعفراني و خاصة في الملف الرابع وهو ملحق للملف الثالث إذ فيه ما يدل على الوقائع من مشاجرات عديدة أغلبها مشاجرات نساء لانتشار المرض (العُنّة) و اختلال التوازن النفسي.

        وحريّ بنا في هذا المبحث أن نعود إلى الإجابة عن السؤال المركزي حول مظاهر الفرادة الموهمة بالتعدد، فالرواية واحدة والحال أنّ عنوانها يحمل في ذاته التعدّد (وقائع)، كما أنّ الرواية حاملة للغز واحد أو ما يشبه اللغز على حين تتجمّع حوله وحدات سردية عديدة، أي في الرواية وضع إشكالي واحد وهو الحدث الأساسي: العنّة بينما المظاهر الدالة عليه متعددة. إنّ نظام السرد في الرواية نقطة واحدة غير أنها تتكاثر حدثيّا لتظلّ مشدودة إلى موقع واحد الذي هو موقع حابس وحبيس معا. فالرواية توهم بالانفتاح صوب زمن مستقبلي إلاّ أنها لا تخترق حدود ذاتها، وكذلك السرد يبدو مفكّكا في الاتجاهين: ما قبل السرد وما بعده بينما هو رهين لحظة واحدة هي الآن. أمّا الزمن في الرواية فيختصر الماضي وينفي المستقبل في الظاهر ويؤدي إلى مستقبل مجرّد لا وجود فيه للحركة ولتمثّل الأشياء والتفاصيل، إذ يوهم بانفتاح الأفق ولا أفق. كما نلاحظ أنّ بنية الأحداث في الرواية تمثّل انغلاقا داخل اللحظة المترسّبة على حين أومأ السارد إلى أزمنة متلاحقة، ولا ننسى التتابع الموحي بالتعدّد ويتجلّى في تعاقب الأحداث الفرعية (1949 – 1954 – 1964) في مدار الحدث الواحد المركزي (العُنّة)، هذا التتابع نجده في ملف خاص "الثورة". كما أنّ النصّ يرد في تقارير والحال أنّ الكاتب واحد، والموضوع لا يخرج عن حيّز حارة الزعفراني، والزمن يبقى الماضي. هذا وإنّ تقنيات الرجوع إلى الماضي عديدة بيد أنّ هذه الوحدات الاستطرادية لا يمكن قراءتها خارج نمط التطوّر العام. ويُلاحظُ أنّ العناوين كثيرة على امتداد النص ولكن كلها تتصل بحدث واحد: العنّة، وكذلك الأساليب: تضخيم الحرف كتابيّا، استخدام الترقيم (3،2،1....) أو الترتيب الأبجدي (أ، ب، ج..) أو التنقيط، كل هذا التنوّع والحدث واحد. ولعلّ التعدّد الجدير بالذكر في هذه الرواية هو تعدّد الأجناس الأدبية داخل هذا الأثر الواحد، حيث نجد القصّة والنادرة والحدث اليومي والمذكرات والشعر، وهذا التعدّد في تركيب الخطاب الروائي يعني التداخل بين نصوص مختلفة ضمن بناء واحد.

        إنّ "وقائع حارة الزعفراني" رواية الانحباس داخل الحدث الواحد وهي وإن تضمّنت عديد التفاصيل والأحداث الجزئية لم تقدر على تجاوز ذاتها بفكّ الطوق الذي لازمها طيلة مسار السرد، هي رواية التوتّر ممثّلا في تكاثر الأحداث داخل موقع واحد.

إنّ الرواية وإن حملت أزمة مجتمع وفاجعة تاريخ فإنها تخطّط لكتابة جديدة يظهر ذلك في مستوى التشكيل الفنّي، وهي وإن بدت لنا رواية الهزيمة والانحباس داخل الموقع الواحد والوضعية الجامدة فإنها تحمل تاريخا ممكنا ومجتمعا بديلا، فرمّانة الساسي لم يُهلك تماما، وتمرّد المجموعة ممكن، والاعتقاد في الشيخ قد يضمحلّ، والنقيض يولد نقيضه. ذلك هو الحلم وإن غيّب وراء ضخامة الفاجعة فإنّه الاستحالة الممكنة في تاريخ مستقبلي.

مختار الماجري/ تونس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  الهوامش

  1- لسان العرب - ابن منظور - ج 8 - الصفحة 403

2- وقائع حارة الزعفراني، الطبعة الثانية، مايو 1985 مطبعة مدبولي ص 6

3- المصدر السابق ص 57

الأحد، 29 يناير 2023

قراءة عابرة في بعض كتابات فوزي الديماسي بقلم الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

الأستاد: مختار الماجري/ تونس
 

قراءة عابرة في بعض كتابات فوزي الديماسي

بقلم الأستاذ: مختار الماجري

فوزي الديماسي "رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه" بتعبير بديع الزمان الهمذاني، فحين تقرأ كتاباته السرديّة تخال نفسك في حضرة الشعر، فسرديّات الرجل مضمّخة بمزيج من النّثر الشّعريّ، وحين تحاول استيعاب هذا المزيج تجد نفسك حيال شذرات فلسفيّة كامنة في ذات الكاتب تصبو إلى الخروج نثرا أو شعرا.

    هو سبيل ارتآه فوزي الديماسي ليرسم من خلاله -عبر لغة تجمع بين العامي والفصيح- نهجا في الكتابة التجريبيّة يلبّي غاية كامنة فيه تنمّ عن اعتراف بفضل مدينة هي بالنسبة إليه "الولاّدة والوسّادة" في الآن ذاته. فانبرى يسجّل كلّ كبيرة وصغيرة مرّت بذاكرته في رحاب مدينة قصر هلال. تلك المدينة الموطن، المدينة الأمّ بما تحمله من ذكريات وعادات وتقاليد وحياة نابضة بالخصوصيّة والتفرّد تنبئ عن اعتزاز الكاتب بانتمائه لهذا الموطن العزيز، فيبدو مأخوذا بتفاصيله وجزئيّاته غارقا في عشقه حدّ النخاع.

    يحاول فوزي الديماسي أن يرسم طريقا يبدو فيه مختلفا عن الكتابات المعهودة، فكتاباته لا تنتمي بشكل واضح إلى السيرة الذاتيّة وإن أوهمتنا بذلك، ولا هي إلى الكتابة الواقعيّة الصّرفة، فكاتبنا يضيف من الخيال الشّيء الكثير على ما يكتب، فيزاوج بين الخياليّ والواقعيّ ليتحرّر من إسار الواقعيّة ويتمرّد على تهويمات الخيال. ولعلّ وسم البعض من كتبه بعنوان يحمل اسم المدينة "قصر هلال" لخير دليل على العلاقة الحميميّة بينهما، فأحدها: " قصر هلال، ذاكرة طفولة... طفولة ذاكرة"، وثانيها "قصر هلال... سيرة مكان". وثالثها "قصر هلال... من هنا عبروا".

فــــــــــ "قصر هلال، ذاكرة طفولة... طفولة ذاكرة" كتابٌ بُني في ثلاثة فصول تتّصل جميعها بنهج الجمهوريّة؛     

1-    من أيام نهج الجمهورية،

2- ما بعد نهج الجمهورية،

3- نهج الجمهورية أكبر ممّا كنت أتصوّر طفلا.

  إنّ الاهتمام بالمكان واضح من خلال عناوين الفصول إلاّ أنّ هذا المكان لم يكتسب أهمّيّته لو لم تكن له علاقة متينة وروابط حميمة بمن سكنوه من جهة وبذكريات الكاتب من جهة أخرى. فالكتاب ضرب من السّيرة والتّوثيق فيهما احتفاء ملحوظ بالتّفاصيل المتنوّعة زمن طفولة الكاتب، وبذلك حمى الكاتب كمّا هائلا من الأخبار والأحداث والذّكريات من الاندثار عبر معطيات توثيقيّة تكون أحيانا مؤرّخة بأزمنة ومواقيت دقيقة كما جاء في مقدّمة الكتاب: "سنة 1995، وتحديدا يوم الأربعاء 1 نوفمبر تاريخ وفاة والدتي سعاد صالح رحمها الله..."1، إلاّ أنّ هذه الدقّة التأريخيّة  كانت إشارة من الكاتب إلى سبب دخوله عالم الكتابة من جهة و إلى  أهمّية الحدث من جهة أخرى، لأّنّها ليست غاية الكاتب الأولى  ولذلك لم تتواصل في كتاباته واقتصر الكاتب على التّسجيل المفصّل دون تواريخ دقيقة لإيمانه بتوجّهه الأدبيّ لا التاريخيّ أو التّوثيقيّ بما في الكلمة من معنى، بل نجد فوزي الديماسي نفسه يستبعد -تواضعا منه- أن يكون مؤرّخا أو موثّقا، و إنّما يرجع ذلك إلى ضرب من النوستالجيا  أو الحنين إلى ماض يرى فيه صورة طفولته السّعيدة فيعيش على وقع ذكراها من جهة ومن جهة أخرى اعتراف منه بفضل هذه المدينة "قصر هلال" عليه، حين احتضنته صغيرا  وعلّمته من تقاليد حياتها الشّيء الكثير. يقول كاتبنا: "إنّ كتاباتي في هذا المنجز ليست بالتوثيقية، أو التأريخيّة، وأنَّى لي بلوغ درجات المؤرّخين وأهل الذّكر في السيوسيولوجيا والأنتروبولوجيا ، و إنّما هي إطلالة يغلب عليها طابع الحنين، ومشاعر النوستالجي..."2 

بل لعلّ الكاتب أدرك الغاية الأساسيّة من هذه الكتابة وهي الاعتراف بجميل المدينة، يقول: "ثمّ إنّ كتابتي هذه ما هي بالكتابة المجانيّة، أو من باب البكاء على الأطلال. وإنّما هي لمسة وفاء لأرض طيّبة عشنا على أديمها حياتنا بحلوها ومرّها، وتقلّبنا بين أحضانها.." 3.

أمّا "قصر هلال... سيرة مكان" فهو كتاب قامت بنيته على فصلين يُختمُ كلّ منهما بهامش مطوّل يشرح فيه الكاتب كمّا هائلا من معاني المصطلحات العاميّة الّتي تمّ توظيفها. ويرسم صاحبه مشاهد واقعيّة وصفا دقيقا تستحيل المشاهد فيه إلى لوحات فنّية تتحرّك أبطالها   أمام أعين القرّاء دارت أحداثها في مدينة قصر هلال، فالكاتب اختار عمدا التّكثيف من استعمال المحلّي اللّهجوي للإبقاء على طبيعة الموضوع وغاياته البعيدة وفاءً لمنهج يتناغم فيه المبنى مع المعنى فيشكّلان معا صورة واضحة لنوستالجيا مفقودة تستأنس بها الذّات عبر الذاكرة.

  أمّا " قصر هلال... من هنا عبروا" فهو مازال قيد الطباعة و إن لم يختلف عن سابقيه من حيث الاحتفاء بتسجيل الوقائع المتّصلة بقصر هلال والسّاحل عموما، وذكر أهمّ الشخصيّات الّتي مرّت بذاكرة الكاتب، فإنّه يختلف من حيث تناول القضايا وبعض المسائل، وقد مكّنني صاحبه مشكورا من الفصل الأوّل قبل طباعة الكتاب، وقد تكون لنا وقفة أكثر دقّة مع بعض مؤلّفاته الأخرى وهي عديدة.

         يحاول فوزي الديماسي أن يرسم طريقا يبدو فيه مختلفا عن الكتابات المعهودة، فكتاباته لا تنتمي بشكل واضح إلى السّيرة الذّاتيّة وإن أوهمتنا بذلك، ولا هي إلى الكتابة الواقعيّة الصرفة، فكاتبنا يضيف من الخيال الشّيء الكثير على ما يكتب، فيزاوج بين الخياليّ والواقعيّ ليتحرّر من إسار الواقعيّة ويتمرّد على تهويمات الخيال. كما نراه يؤلّف بين جملة من الثنائيّات المتضادّة: العامّي والفصيح/ السّرديّ والشعريّ/ الواقعيّ والخياليّ... بحثا عن سبل تجريبيّة في الكتابة لم تُطرق بعد.

مختار الماجري/ تونس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الهوامش:

1- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص9.

2- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص10.

3- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص11.

 

الأحد، 22 يناير 2023

تقديم "جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان، بقلم النّاقد محمّد سلاّم جميعان

 

الشاعر والنّاقد: محمّد سلاّم جميعان/ الأردن

تقديم "جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان،

بقلم الأديب والشاعر والنّاقد محمّد سلاّم جميعان

 

[رؤية إبداعيّة متميّزة قدّمها النّاقد والمفكّر الشّاعر محمّد سلّام جميعان في حفل توقيع كتاب "جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان يوم الأربعاء 18/ 1/ 2023 في مركز الملك عبد الله الثاني الثقافي- الزرقاء]:

"لا أدبَ بدونِ حياةٍ أو شعور. ومِثلما أنشأَ اللهُ العظيمُ الكونَ بكلمة، علَّمَ الإنسانَ -أحبَّ المخلوقاتِ إليه- علّمه بالقلم، فطارَ الإنسانُ على أجنحةِ خياله إلى آفاقِ أمانيه وأحلامه، وطاف يُناجي الفكرَ والشُّعورَ عبر أطوار حياته المختلفة.

فمنذ أنْ علّمَ اللهُ آدمَ الأسماءَ، لم يَطْوِ الإنسانُ شِراعَ قلمه. ومازالَ الخَلْقُ يسْطُرون، تارةً يكتبونَ أنفسَهم، وتارةً أخرى يكتبون الناسَ من حولهم والحياةَ ومجالي الفكرِ وخلجات الأحاسيس.

رويداً رويدا، وبخطوٍ واثقٍ مطمئنّ تَعبرُ الأديبةُ كفاية عوجان صرْحَ الأدبِ المُمَرَّدِ بثلاث قواريرَ حِسانٍ ملأتْها من ينابيع نفسها الخصبةِ بالمعنى، وروحِها العالية في مدارج جمالِ الحَرْف.

نعم، ثلاثُ قواريرَ حِسانٍ تعبقُ برؤاها وتسيلُ منها في خاطرِ كيف قارئها الصورةُ والكلمةُ والفكرة.

أنا أعني ما أقولُ، ولا أنفثُ في العُقَدِ، ولا أقولُ أحاجيَ وألغازًا.

تأمَّلوا معي كيف ملأتِ الكاتبةُ قواريرَها الثلاث، كلُّ قارورةٍ منها حَمْلُها وفِصالُها في عامين:

-              حديثُ الصمت عام 2018

-              من فيض الوجدان عام 2020

-              جارة القمر عام 2022

لقد وقفتُ متأمّلاً عند هذه العناوين، وقلتُ لن أُلقيَ رحلي قبلَ أنْ أقصَّ عليكم نبأً عنها، وأولُّها زمانا "حديث الصمت". فاجتماعُ الحديث والصّمت فيه مفارقةٌ لطيفة بين أمرين متباينين، فكأنَّ للصمتَ فمًا يتكلّم محاطاً بهالةٍ رهيبة من الهمس الشّفيف المليء بالموجات الصّوتيّة شديدةِ الانتظام. تسمعُها وتكاد تلمسها من شدّة وضوحها ونجواها. فالصّمتُ هو اللّغةُ الّتي تحوي كلَّ اللّغاتِ. ففي حديث الصّمت يسكتُ اللّسان ويتكلّم القلب، فهي تستمدُّ كلماتِها من قلبِها وروحِها بنفسٍ راضيةٍ مطمئنّة، تتوارى خلف صمتها وهي تتحدَّثُ للعالَم الخارجيّ من وراءِ حجاب.

أمّا في فيضِ الوجدان، فتخرجُ قليلاً من ثوبِ تقمُّص الذاتِ وتَتَّشِحُ بقوسِ قُزَح، فصار الصمتُ فيضًا مُشمِسًا.

حتّى إذا صارت " جارة القمر" أضاءتْ من علٍ بكمال الصّورة والإيقاعِ والمشهد، علامةً على الزّمنِ والتاريخ. وجارة القمر هو كوكبُ الزُّهرةِ لا ينفكُّ عن القمر مكانًا ولا زمانًا، حتّى وإنْ كان القمرُ كلَّ يومٍ هو في شأن... يضيء اليومَ من مكانٍ، وغدا من مكانٍ آخر... يبدأُ هلالاً ثمّ يأخذ بالامتلاء والاكتمال والتزايد، ويتوسَّطُ السماءَ بدراً منيراً.

وقد تسألونَ أين تجدون في "جارة القمر" معنى المفردة وروحها، وكيف رنَّتها وصِبغَتها ولونها؟

فأقولُ بإشارة سريعة: لا تنفصمُ القصيدةُ عن السياق الدلاليِّ للعنوان. وتأمّلوا معي حين تقرأون "جارة القمر" عناوين القصائد التالية وكيف حلّت في بنيتها الشفيفة مفردةُ القمر: منزل الروح، نبض مشاغب، مناجاة تبعثرها الريح، تأويل، خشوع.

ففيها يعلنُ القمرُ عن نفسه لفظاً ومعنىً ومنزلة، كقولها:

ما زالَ يسكُنُ خَلْفَكُم فوقَ الجِدارِ

بقيّةٌ من ذكرياتٍ

نَبْضُها هذي الصُّوَرْ

فَلِمَنْ سأهديها إذا ناجاكمُ ضوءُ القمرْ؟

كنتم هنا الجنائنَ المعلَّقةْ

فكيف أضحتْ رِعشةُ الحنين

في صدوركم ممزَّقةْ.

ففي الروحِ الإنسانيّة عطشٌ لا ينطفئ إلى هذا الجمال التعبيريّ وهذه الموسيقى المتناغمة كخرير الماء، وحفيف أوراق الشجر.

ففي كلمات كفاية نغمٌ وموسيقى عند حدود كلِّ مقطعٍ وانطلاقةٍ مع موجاتِ الأثير وهي تنتقلُ من وحدةٍ تعبيريّة إلى أُخرى كما ينتقلُ القمرُ من فَلَكٍ إلى فلك.

لا أقول لكم اقرأوا الكلمات، بل اقرأوا الخلجات والشعورَ في الكلمات، ليظلَّ دمُ العبارات دافئاً في مشاعركم.

بلغةٍ شاعريّةٍ كتبت كفاية عوجان نصوصها. وما أشقانا نحنُ الأدباء حين نشغل بالنا وفكرنا في الأجناس الأدبيّة ونمنحها صكوك الغفران في الشّعر والنثر... دعونا نعرف معنى التسامح والغفران ونعيشُ حالة من التعايش الفنّي الّذي تعيش فيه المذاهب الفنّيّة على تباينها جنباً إلى جنب حتّى يتولّى الزمانُ أمر الفصل في هذه المذاهب، ولنَنْتَصرْ للجمال حيثما كان في أيِّ لونٍ أدبيٍّ جاء.

لقد قرأتُ "جارة القمر" مرّات؛ مرّة بخشوعٍ متصوّفٍ عابد، ومرّة بإحساس شاعر، ورأيتُ بعين القلب كيف تفتحُ نصوصُ كفاية أذرُعَها للعصافير الزائرة، ولا تبخلُ على واحدٍ بعريشةِ ظلّ، أو ورقٍ أخضر. ففي نصوص كفاية من شاعريّة الحسّ والشعور ما يكفي مزاجَكَ ليشعر كيف كلُّ نغمةٍ تجذبُ نغمة وكيف كلُّ قرارٍ ينادي قراراً حتّى تكتمل سمفونية النصّ عندها فتغدو عالَماً كاملاً بشموسه ومحيطاته ومجرّاته، سواء ما كان من هذه النصوص نشيجاً مكتوماً أو بسمةً مُخْضرّة.

الفنّ الأدبي في طراز هذه النّصوص كالفنِّ المعماريّ، يمكن من خلاله توليد أشكالٍ لا حصر لها. فكما أنّ الفنّ المعماري يعتمد وحدةً أساسيّة هي الحجر لإخراج ألوف التصاميم فإنَّ الوحدة الأساسيّة في هذه النصوص هي النغم.

أحيي كفاية عوجان إنسانة وأديبة، تعمل بصمتِ، كالزهرةِ ترسلُ أريجها بلا ضوضاء، وتبثُّ كلَّ حينٍ في قنديل إبداعها زيتاً جديداً يضيء نصوصها كسنا البرق.

وأحيّيي أُسرتها وعائلتها وهي ترى شريط حياتها وإبداعها ممتدًّا في الزمان.

وأحيّي حضوركم وإصغاءكم

وأُسلِّمُ عليكم "

محمّد سلاّم جميعان/ الأردن

الخميس، 3 نوفمبر 2022

التوحيدي بين المسامرة والترشيد،،، الأستاذ مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس
 

التوحيدي بين المسامرة والترشيد

عرف القرن الرابع للهجرة نهضة أدبية ملحوظة تجلّت معالمها في مختلف الآثار الأدبية في تلك الفترة، كـ “المقامات" لبديع الزمان الهمذاني و "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي و" الإمتاع والمؤانسة" لأبي حياّن التوحيدي. وتكمن أهميّة هذه المؤلّفات في كشفها لملامح مجتمع القرن الرابع في تلك الحقبة الزمنية، وخاصّة مسامرات التوحيدي لابن سعدان التي تبدو في ظاهرها مؤانسات أديبٍ لسائس تحقّق له الإمتاع ولكن في باطنها مساهمة من مثقّفي القرن الرابع في ترشيد السلوك السياسي للإمارة البويْهيّة قولا وفعلا.

فكيف تمّت مسامرات التوحيدي لابن سعدان؟ وهل كانت فعلا إمتاعا ومؤانسة للوزير أم هي ضرب من الإسهام الثقافي في ترشيد السلوك السياسي أم مجرّد متكسّب يُرضي طلبات وليّ النعمة؟

     تقوم بنية المسامرة بشكل عام على التدرّج من الطلب إلى الاستجابة فالتعليق. وأمّا أطراف الخطاب فتتكوّن من وزير متقبّل وأديب باثّ ورسالة ممتعة. وداخل سؤال الوزير وفي أجوبة التوحيدي المتوالدة عن بعضها البعض والمتفرّعة داخليّا وفق أسلوب التداعي نجد تضمين الأخبار والأشعار والطرائف في المسامرة. فما هي مظاهر الإمتاع والمؤانسة في مسامرات التوحيدي؟

      تتجلّى مظاهر الإمتاع والمؤانسة في الإطار المجلسي، وهو إطار ليلي ومجلِسُ خاصّةٍ في قصر وزير، وهي سنّة تقريب الأدباء من المجالس. أمّا المواضيع فكانت متنوّعة بفعل الثقافة الموسوعية والاستطرادات اللذيْن يسمحان بتنوّع ممتع ومثير. وكلّ ذلك صيغ بلغة وأسلوب مخصوصيْن من خلال تنميق العبارة وسلاستها وبلاغة الجملة ودقّة تركيبها واعتماد محسّنات البيان بكثافة. فبدا كتاب "الإمتاع والمؤانسة" موسوعة حضارية وأدبية وعلميّة وظّفها التوحيدي في إمتاع السّائس. هذا التوظيف الظاهر لا يُعتبر مهمّا في نظر الناقد أمام توظيف باطن جعل الكتاب يخدم وظيفة الترشيد السياسي. فما الأساليب المعتمدة في ذلك؟

      من أهمّ أساليب الترشيد السياسي نذكر التوجيه والإرشاد والموعظة والتذكير في الخطاب المباشر وأساليب الإسناد في الرواية والنقل عن علماء العصر في الخطاب المباشر كإسناد الأقوال إلى أبي سليمان المنطقي وأبي سعيد السيرافي ومتّى بن يونس. وتنزع هذه الأساليب بالترشيد في "الإمتاع والمؤانسة" نزعتين إحداهما نقلية دينيّة مستفيدة من أدب المناصحة في تحقيقه لوظيفة المشورة، والأخرى عقلية من خلال أقوال التوحيدي كالحجاج والتعليم والاعتبار، وتحقّق هذه الأساليب وظيفة نقدية للسلوك السياسي وتضمن تأثيرا أوسع للمثقفين في البلاط. أمّا الترشيد بالأفعال فيتجلّى من خلال تدخّل مباشر يغيّر قرارات سياسية جائرة في حقّ الرعيّة، ومثال ذلك توسّط العلماء لخوف العامّة من الروم ومن آثار الفتنة مع معزّ الدولة البويهي وتأثيرهم على موقفه في صالح حماية الرعية. وكذلك تدخّل التوحيدي لدى الوزير ليسعّر الخبز ويكلّفه مجانا للفقراء بعد حادثة باب الطاق. أو تدخّل التوحيدي مع الوزير في إسكات غضبه مِنْ تكلّمِ العامّة في سياسته.

     إنّ القرار السياسي مجال من مجالات تأثير المثقّف، إذ لا يتمّ تنفيذ حاسم دون استشارته ممّا حوّل المسامرات مطارحات وتناصحا واستفادة سياسية. ولكن لا يمكن الجزم بأنّ دور المثقّف يقتصر على الجانب الإيجابي وحسب، فحين ننظر في الفترات التي تولّى فيها المثقّفون الوزارة من ابن عبّاد إلى ابن العميد إلى ابن يوسف إلى ابن سعدان نجدهم رؤوس فتنة شقّت البلاط البويهي. ولكنّ التوحيديّ في "الإمتاع والمؤانسة" آثر الترشيد السياسي على الإمتاع والمؤانسة رغم أنّ عنوان الكتاب يوحي بالأنس والمتعة. فالإمتاع والمؤانسة عنصر محدود في الكتاب بينما الترشيد السياسي عنصر موسّع.

      فلئن وُسِم الكتاب من خلال عنوانه بـ "الإمتاع والمؤانسة" فإنّ هذه الصفة كانت نسبتها ضعيفة مقارنة بنسبة الوظيفة الاجتماعية للكتاب، سيما والتوحيدي يعرض على الوزير مشاغل التدهور السياسي وصور انهيار الدولة ومظاهر معاناة العامّة. ورغم هذا التفاوت يمكن القول إنّ التكامل بين الوظيفتين ممكن مادامت النصيحة تُغلّفُ بالأسلوب الممتع حتى تضمن التأثير المناسب وتلقى القبول الحسن كما نهج ابن المقفّع في كتابه كليلة ودمنة.  

    إنّ كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لا يخرج عن خصائص أدب المجلسيّات وإنْ مال أكثر إلى الإحاطة بالواقع واستيعاب الثقافة بحكم سعة اطّلاع صاحبه وفضله في تجميع معارف العصر، وبذلك يحقّق التوحيدي لنفسه غايتين: أن يكون أديب بلاط، وأن تعلو قيمته بين أدباء عصره، كما يمثّل في تجربته نموذج المثقّف الوسيط يُناصح السّائس ويشير عليه ولا يتمرّد على سلطانه مادام البلاط راعيا للأدب.

 

مختار الماجري/ تونس


الأحد، 25 سبتمبر 2022

البحر في رواية محجوب العياري: "أمجد عبد الدايم يركب البحر شمالا" الجسد التّرابي يُغمّس في الماء،،، عبد المجيد يوسف/ تونس

عبد المجيد يوسف/ تونس
 

البحر في رواية محجوب العياري: "أمجد عبد الدايم يركب البحر شمالا"

الجسد التّرابي يُغمّس في الماء

عبد المجيد يوسف/ تونس

كتاب الرّافدين

يحضر البحر في عديد الرّوايات تيمة مركزيّة هو فيها مدار العملية السّردية برمّتها، كما أنّ له حضورا سوسيولوجيا مفرزا لنمط مخصوص من العيش، فتقام حوله بيئة لها طابعها المخصوص ويؤثر في نفسية الناس وكيفية وجودهم وسبل معاشهم. (انظر روايات حنا مينا)

 والرواية التي نحن بصددها اليوم دارت وقائعها في بيئة بحريّة... بيد أنّ بطل هذه الرّواية الطارئ من بيئة قارّية سوف تجمعه بالبحر علاقات مخصوصة هي بين الحبّ والارتياب والرّهبة والحياة والموت... هو لن يباشر البحر على أنّه ذلك الحوض المليء بالملح... ولكن سيعاشر امتداده في اليابسة... في هذا الامتداد أيْ في زواج الماء بالتربة أمكن أن يجد بعضا من وهم الطمأنينة وسرابا من التّوازن وبعض اللّذة... لكنّ الماء المحض لن يكون بالنسبة إليه إلا سبيلا للاغتراب وللتلف.

صدرت هذه الرواية سنة 2006 ولصاحبها كما هو معلوم خمسة مجاميع شعريّة، ثم كتب هذه الرّواية خاتمة لمنجزه الأدبيّ قبل تعريبه لرواية أخرى لمنصور مهنّي "العنكبوت". وعندما يتسرّب شاعر وقارئ نهمٌ إلى مجال السّرد يأتي فيه بما يخالف المعهود، فهو إمّا أن ينجز سردا مُشبعا بالمجازات، تطغى فيه الصّور وربما طغى البيان كذلك على الحدث حتى لا يكاد يُرى، وإمّا أن يأتي فيه بكلّ طريف مع اقتصاد في العبارة الشّعرية كما هو الشّأن في رواية محجوب العياري من جهة البحث عن شكل مستطرف غريب.

وجدّة هذه الرّواية ومظهر الابتكار فيها متمثل في اختراق الملحوظات النّقدية للمتن الرّوائيّ أي في تداخل الفضاءات بالمعنى الذي وضعته منظومة جيرار جينيت في كتاب "طروس"...  فالأصل أنّ ما سُمّي بالميتانص "كما نقله سعيد يقطين" Métatexte  مقيم خارج فضاء المتن بينهما برزخ لا يبغيان...  وهو متنوّع المادة شامل لما ينشأ حول النّص من نقود وملحوظات وتقييم وهوامش وإحالات.

نجد رواية أولى يمكن تسميتها بالرّواية الظرف تحتلّ ممهّداتها Paratexte الغلافَ الخارجيّ وهي العنوان "أمجد عبد الدايم يركب البحر شَمالا" واسم المؤلف محجوب العياري وعبارة تحدّد الجنس الأدبيّ وتخاطب القارئ وتوجّه القراءة. وفي الدّاخل يعترضنا نصّ داخلٌ في ما عينّاه بـ"ما فوق النّص" متميّز طباعة بالخط الغليظ، يتحدّث بضمير المتكلّم ويروي قصّة تلقّي هذا المتكلم لمخطوط من مؤلف شابّ، ويتخلل كلّ ذلك  -إلى جانب الملحوظات النقدية-  فقراتٌ عن المؤلف ووقائع من سيرته ثمّ  تحتلّ نهاية الكتاب في فضاء صفحاتٍ عشرٍ حيث يُصبح السّرد غير متعلق بأمجد عبد الدايم بل بالضّمير الذي تلقى المخطوط وقرأه.

أمّا الرّواية المظروفة فمتميّزة بالخطّ الدّقيق المستعمل في المتون وبعتباتٍ خاصّة بها من اسم مؤلفها "أمجد عبد الدايم" ومن عنوان "المرافئ السّراب" ومن عبارة لتوجيه القراءة "رواية"... ثمّ وقع تسييجها بعبارة "تمت" في نهايتها قبل أن يتواصل الرواية الظرف حتى نهاية الكتاب.

نصّان متمايزان شكلا ووظيفة وطباعة لكنّهما متداخلان دلاليّا وشكليّا حيث تداخلت فضاءات النص حتى يلتقي الرّافدان في الخاتمة في مصبّ واحد حين يقرأ الضّمير المتكلم في الرواية الظرف نعيَ أمجد عبد الدايم في إحدى الصّحف ويكتشف أنّ الشخوص الافتراضيّة التي في رواية عبد الدايم هي شخصيات حقيقية ذات وجود فعليّ.

لقد وضعنا هذا التقديمَ في محاولة للتّعريف بالشّكل المبتكر لكتاب محجوب العياري هذا واشتغاله في الكتابة السّردية على المزج بين فضاءين للنّص دأبهما الانفصال وذلك بطريقة تُربك القارئ فيختلط عليه الخيال الرّوائي بالحقيقة والوجود الرّوائي بالوجود الواقعيّ والنّصّ الخيالي بالنّصّ السّيرذاتي.

الجسد التّرابيّ المبلّل

قدّمنا في مطلع هذا الحديث ما يلمس منه أن أمجد عبد الدايم قد نشأ في بيئة قارّيّة وأن ظروفا محدّدة دفعت به إلى أن يقترب من اليمّ... وعندما ينظر المرء في الطبيعة يتبيّن له أنّ في كائناتها ما هو بريّ وما هو مائي وما هو برمائيّ... وأمجد عبد الدايم هو ابن القارة بامتياز، جُرّ إلى البحر قسرا بعد إذ فشل في تأمين معاشه بالوسائل البرّيّة.... يقول: " في بداياتي اشتغلت خضارا ثم ماسح أحذية ثم بائع خرداوات وسائق عربة موتى ثم عرّافا، وبعدها حين فشلت في كلّ ذلك أصبحت بحّارا" ص 14

كلّ هذه الحِرَف المستعرَضة ليست مجرّد مهن اتّخذها بطل الرّواية لكسب العيش فحسب ولكنّها فضلا عن ذلك تقلباتٌ في الموجد واختبار لوضعيات الكائن القلق وتنويع في التّجريب، ويتجلّى البحر مجالا للتّجربة الأقصى والأقلّ أمنا... تقوم التّجربة البحريّة على تخوم الحياة لأنّها تحمل الإنسان على نقيض طبعه ومفارقة ما جُبل عليه من الطّمأنينة على اليابسة. يقول "رغم يقيني أنّي ما خلقت لأكون بحارا" ص 75 ويقول أيضا " ولكن فكّرت في أخطار البحر، أنا الذي لم أتعلّم السّباحة يوما" ص 76

ورغم أنّه تبرّم بالعيش فإنّه، عندما ركب البحر وتوغّل به مركب الرّايس حمزاوي وانقطع عن اليابسة، لم تتمثل له صورة المطلق الجميل ولا أوحى له ذلك برهبة ميتافيزيقية منبهرة ولم يقرّبْه ذلك من السّماء ولكن تمثّلت له صورة العدم وغياب المكان الموفّر لطمأنينة الجسد والرّوح بسبب غياب كامل لصورة المعالم ذات المراجع المألوفة المطمْئنة الحاصلة من تجاربه السّابقة وغياب العالم المرئيّ وحلول صورة أشبه بالعماء تغيب منها المعالم وتنعدم مقاسات الأبعاد. والدّخول في جاذبية البحر لم يفقده المعالمَ المألوفة فحسب، ولكن أفقده الخبرات السّابقة التي حصّلها باعتباره كائنا مجرّبا، فهو في البحر كائن يبدأ تجاربه من الصّفر ويلغى كلّ ما حصّل من الخبرات .... وأفقده الاتّجاهات وأفقده الألوان المميّزة للأشياء وأفقده الأشكال من أعراض وأطوال. فتوغّلُ الكائن الترابيّ في البحر أفقد معالم الوجود مجتمعة...

 بيد أنّ الرّواية لم تتحدّث عن ثقل وخفّة على سطح الماء... وهو أمر كانت القراءة تنتظره في مثل هذه الحالة، ولا نتحدّث هنا عن الكتلة الفيزيائية فحسب بقدر ما نشير إلى فراغات الرّوح وامتلائها بالشّعور بالفقد وبالنّسيان وبضياع الأمكنة والاتّجاه. قال: "البحر ليلا... يا لهذا الامتداد الذي لا يحدّ لا شيء غير هذا الأزرق الكحليّ يطوقنا من كلّ جانب" ص 77 ثم قال في نفس الصّفحة: "أحسست بدوار شديد ... ضحك البحّارة وأنا أنازع الموت."

... لقد تجلّى البحر فضاء عصيّا على الامتلاك  مثل القارّة تماما حيث  التّنقل في المكان وامتلاكه والإقامة فيه  أمر أهونُ على عسره... والبحر كثيف، سميك، مائع، غامض، ومشحون بقوة يمكن أن تقلب سفينة وتحْطمها، وفضلا عن كلّ ذلك فإنّ التّجربة البحريّة ركّزت على تفاعلات الجسد باعتباره ظاهرة بيولوجية واجتماعية كذلك... وأمجد عبد الدايم شخص طردته اليابسة من كلّ ركن آمن فيها... حتى الدّخول في مؤسّسة الزّواج كان في مرحاض قطار، كما طردته من  مؤسّساتها التي قد تكون إطارا مساعدا على نحت كينونة ما: طُرد من المعهد الثّانوي ومن الجامعة ومن مؤسّسة الزّواج ومن مؤسّسة الحبّ،  أهانه والد زميلته ورماه بالسّرقة وأخزاه، وهجرته سلمى لأنّه لم يقدر على الدّخول بعواطفه وبجسده لا في حيّز اللغة ولا في حيّز الفعل، فلم يخبرها بحبّه ولم يأخذ جسدها بل تركه لزوجها واكتفى منها بملامسة اليدين في هوس تميميّ لا جدوى منه... وبدا له أنْ سيجدُ في البحر ملاذا فدخله بلا خبرة  مشحونا بجملة من الدّلالات الاجتماعية باعتباره سليلا لقرية في الرّيف لا عهد لأهلها بالبحر وبنشاط النّاس فيه وبالخبرات المطلوبة  لمجابهته والإقامة فيه.

 سوف يقضي أمجد عبد الدايم بضعة أيام في البحر حتى أعجبته الحياة البحريّة  فأنكر البرّ وكره الرّجوع إلى اليابسة... لكنّه كان واهما، فرُهاب البحر عَلِقٌ بعمق روحه وإن انجذب إلى البحر  فبفعل الرّغبة اللاواعية في الموت... ها هنا يتجلى البحر ذا أبعاد ميتافيزيقية مرتبطا بحتمية لا فكاك منها، فهو إن لم يقتله في الأولى بقوة العاصفة فقد أسلمه في الثانية إلى الاعتقال فالموت في ظروف غير معلومة... ها هنا يرتبط العنوان، وهو العتبة المقيمة على التّخوم، بعمق دلالة البحر في هذه الرّواية، فأمجد عبد الدايم ركب البحر شَمالا قاصدا أن يموت... كائنا لعينا  لم يتّسع له البرّ كما لم يتّسع له البحر ... وهو يموت في البرّ مَيْتته الثانية، فقد كان شقيقه  التّوأم الذي توفّي حاملا لاسمه هو... فكأنّ تلك التّسمية التي اتُّخِذت له من أخيه  ورمت به في مسار غير مساره وفي قدر غير قدره هي الحاملة للعنة.

البحر يستلقي على اليابسة

والبحر في هذه الرّواية ليس حبيس الوهد، تطغى لججه ثم تتراجع دأبًا، ولكنّه ممتدّ داخل اليابسة بما استحُدِث حوله من المؤسّسات المتّصلة به والمستمِدّة منه علّة وجودها وهي العلامات التي تميّز بيئة بحريّة عن مثيلتها القارّيّة.

فإذا كان البحر بأمواجه وبزوابعه الأكول وبطبيعته المائعة غير المستقرّة قد مثّل مجالا لاختبار شخص غير مؤهّل لذلك، كما مثل فوبيا مجسِّدة في طائفة من المكاره كالغثيان والإغماء والمغص وفقدان ما ألف أمجد عبد الدايم من معالم الاستدلال الثابتة وتجسيدا لصورة العدم حيث لا مكان ولا اتجاه، ولطريقة الموت البحريّ حيث تنهش الجثةَ الحيتانُ والغيلان ممّا جعله يفضّل الطريقة البريّة عليها... فإنّ وفرة البراديقمات في السّجلّ الاستبدالي للمؤسّسات المتعلقة بالبحر والممثلة امتدادا له على اليابسة لا تثير أيّ هاجس، بل  هي مرتبطة بجملة من المباهج كالصّداقة والحبّ والخمرة وتَلقّي الرّسالات، وكانت مسرحا مناسبا لبحث أمجد عبد الدايم عن أفق يهرب إليه من خيباته المتتالية...

إن وفرة البراديقمات المعيّنة للمؤسّسات التابعة للبحر كالحانة والمقهى والميناء والمركب وما حايثها من الأعمال كالسّكر ومواعدة سلمى وتناول الطعام بغلال البحر وما شابه من تسميات تعيّن المكان وتخصّصه وتحدّد موقعه (مقهى الشاطئ، حانة الموجة الضاحكة، حانة النورس، مقهى الدلافين...) تقوم نقيضا للسّديم البحريّ الذي ينتفي فيه كلّ اتجاه وكلّ بعد وكلّ استدلال ويكرّس بطلَ الرواية كائنا غريبا منبتّا لا صلة له بالبحر، ويؤكّد مفهوم الاغتراب الذي لازمه على ظهر اليابسة، فهو منبوذ أينما حلّ. ويتجلّى من خلال كلّ هذا البعدُ الوجوديّ للرّواية حيث يبدو أمجد عبد الدايم شخصا اغترابيا غير قادر على تحقيق أيّ شيء من انتظارات مجتمعه (فشل في أن يكون شرطيا مثلا وفشل في العهد الثانوي وفشل في الجامعة التي دخلها بهوية زائفة هي هوية شقيقه التوأم المتوفّى) كلّ ذلك ولّد لديه شعورا بالانفصام جعل علاقاته الاجتماعية غير وديّة ولامبالية وجعل حياته دون برنامج محدّد لأنّه فاقد للهدف.

****

ونقول على سبيل الخاتمة إنّ رواية "أمجد عبد الدايم يركب البحر شمالا" رواية "بحريّة" تدور أحداثها حول البحر وفيه، تروي لقاء غريبا بين كائن قارّي الطباع، ترابيّ الرّوح وبين عالم الماء المكتنَف بالغموض... يُدفع هذا الكائن التّرابيّ إلى البحر قسرا كالمجرور إلى نهايته.

وهي رواية الاغتراب الوجودي بمعنى الانسلاخ عن المجتمع واعتزاله والعجز عن التكيّف مع الأوضاع التي حدّدها له الأهل ومع المسارات التي سطروها لكينونته واللامبالاة وانعدام الشّعور بالانتماء لا إلى أهل ولا إلى مكان، فاستقرت الغربة في ذاته حتى أضحى غريبا عنها.

وهي أيضا رواية الاغتراب الاجتماعيّ بمعنى فقدان المعايير والقيم الاجتماعية، أو ما أسماه دوركهايم باللامعيارية، ففقد ضابط السّلوك السّويّ بحيث أصبحت مواقفه متّسمة بضعف الحافز واللامبالاة وسطحيّة الشّعور. ولنُشِرْ فقط إلى طريقة زواجه في مرحاض قطار بامرأة التقاها للتوّ أو احتراف العِرافة أو خداع المرأتين في الباخرة...  فقد كانت علاقة أمجد عبد الدايم بمنظومة القيم تلك التي تركها في قريته أو التي وجدها في المدينة قد غدت علاقة تنافر وعدم تطابق في كلّ شيء، حتى صارت غريبة عنه.

وعلى العموم فقد عاش أمجد عبد الدايم هذا الاغتراب على أكثر من وجه: اغتراب ذاته عن جوهرها بفقدان مرتكزات الانسجام الدّاخليّ واغتراب عن البنية الاجتماعيّة بفقدان الدّور والهدف والمعايير القيميّة واغتراب عن المكان باعتبار البحر عالما أجبر على تجريب العيش فيه دون أن يكون مؤهلا لتلك التّجربة.

 ولعلّ من  تجسّد غربة الكائن التّرابيّ في عالم الماء أن المؤلف  وهو شاعر (كان مولده في بيئة قارّية لكنّه يُدفع هو الآخر إلى البحر في بنزرت أوّلا ثم في نابل ويعاشر البحر على نحو ما)، فإنّنا لا نعثر في الرّواية على ما يمكن أن ينسج خيال الشّاعر من صور متعلقة بالبحر ولا ما تدير الثقافة حوله من الأساطير ومن الابتهاج به  ومن التّغنّي بجماله ومن تجلّيات المقدّس، بل على عكس ذلك اقتصر الحديثُ عن البحر عند المظهر التّجريبيّ قوّةً أكّالة للبشر حمّالة لهم إلى نهاياتهم  ومجالا لاختبار الجسد التّرابيّ لمجموعة من المكاره مثلما اختبر الموتَ الوشيكَ ... قبل أن يُودي البحر به إلى نهاية مأساوية غامضة في أرض غريبة.

عبد المجيد يوسف/ تونس

 

الجمعة، 26 أغسطس 2022

السعادة: واقع أم خيال؟،،، الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

السعادة: واقع أم خيال؟

 لطالما أرّقتني مسألة وجودية ولاتزال منذ أمد إلى اليوم، فجعلتني “تائها في ظلام شكّ ونحس" بتعبير الشابي، ولا أستطيع تلذّذ أيّ شيء، أو أن أعيش الفرحة بعمق مادامت تُراودني أسئلة من هذا القبيل: هل يمكن للإنسان أن يعيش السعادة فعلا والحال أنّه ينتظره يوم "تشخص فيه الأبصار"؟[1] وهل يمكنه أن يسعد بنجاح أو فوز أو تألّق أو مكافأة  في هذه الحياة التي يعقبها يوم فيه "تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَمَا هُم بسُكارى وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ..."[2] ؟ وهل يمكن للإنسان أن يسعد بعد أن يقرأ قول الله تعالى"{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلًّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}[3]. وقد اختلف علماء الدين في تفسير معنى الورود، فمنهم من يقول بأنّه لا يعني الدخول بقدر ما يعني الإشراف عليها والقرب منها استنادا إلى الآية الكريمة (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ)[4]، أي أشرف عليه لا أنّه دخله، ويُؤكّده حديث حفصة الذي رواه مسلم قال الرسول "صلى الله عليه وسلم ـ" لا يدخل النارَ أحدٌ من أهل بَدْر والحديبية"، وقيل ورُود المؤمنين النار هو الحُمَّى التي تصيبهم في الدنيا، كما روي في حديث”الحُمَّى حظُّ المؤمن من النار" وقيل الورود هو النظر إليها في القبر، وقيل غير ذلك. هذا من منظور ديني للمسألة. أمّا إذا ألقينا نظرة فاحصة على الواقع واستحضرنا تفاصيل حياتنا اليومية بوقائعها المؤلمة لنا أن نتساءل: ما الذي يشرّع اليوم للحديث عن السعادة ونحن نعاصر المقت والجور والاستخذاء والتماثل والامتثال وكثرة الحاجة؟ أهي أزمة الفكر العاطل انسدّت أمامه السبل فارتدّ يُقلّبُ تكريرا ما تصرّم من المباحث والمشاغل؟ ألا يكدّر الموت صفاء النفس ونشوة الحياة؟ وهل نحن في حاجة اليوم إلى مزيد الحديث عن الموت ونحن نراه تعيّنا حدثيا في الزرع والضرع والنسل؟ أهو الإحساس العدمي والكارثي باللاجدوى وبموت المعنى ممّا يدفع إلى التوجّه جهة الموت يأسا من الحياة؟ أهو الحزن يطبق على الذات فينهك اقتدارها فتلجأ إلى فكرة الموت تأسّيا وملاذا؟ 

           وإذا كان لابدّ من الوجود، فيجب أن يكون هذا الوجود جميلا. فجمالية الوجود ليست اعتباطا ساذجا يجهل الواقع إنما هي فعل وعمل ودلالة بها يرتقي الإنسان إلى حرّيته. هي سلوك راق يقرّب الإنسان من الإنسانية من حيث هي فنّ حياة وليست حنينا رومنسيا إلى براءة أنطولوجية مفقودة أو طلبا لانكفاء الذات على ذاتها لحظة تأزم الوجود الجماعي ولحظة العجز عن إصلاح فساد الساسة والسياسة.

       وبما أنّ السعادة هي الهدف النهائي للوجود الإنساني كما يقول أرسطو، فهل يمكن للسعادة أن تتحقّق بعيدا عن الحريّة؟ وهل الحرّية لقمة سائغة تُقدّم لمريديها على طبق من ذهب؟ ألم يقل الشاعر:

" وللحريّة الحمراء بــــــــــــــــــــــــــــــابٌ         بكلّ يد مضرّجة يُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدقُّ"؟

   ففي خضمّ توتّر الذات الباحثة عن السعادة وبلغة" المثقّف الشمولي"[5] يجب أن تكون الغلبة دائما للغضب وللمقاومة وللرغبة حين تُقبل جميعها جذلى تتصادى بين التوصيف والتاريخ، وبين الخرائط والأجساد امتدادا من فينومينولوجيا الفقر إلى أنطولوجيا المحبّة مثلما كان يقول أنطونيو نغري. الفقر قوّة حيويّة مولّدة للمقاومة، والمحبّة جمع ودوام وإيقاع وحراك يستصحب القاطن والراحل. الفقر والمحبّة معا يحرّكان المادّة ويفتحان اللغة ويصنعان وجوها أخرى للواقع. ولسنا نقول ذلك تعبيرا عن تفاؤلية فجّة بل نحن نقوله مدركين مأساة الأحداث وأقدار التاريخ وأعراس الحريّة ودلالات الصيرورات العينية وصخب الذاكرة خارج مدن الأموات ومقابر الأحياء. ورغم أهميّة المحبّة ودورها في تغيير الواقع، فإنّ هذه القيمة وأيّ قيمة بشكل عام في هذا العصر لم تعد مرجعا متعاليا، بل أصبحت القيم معايير نسبية صائرة صيرورة الوضع الإنساني العطوب والمتناهي والسائر من تعاريق الحياة إلى وجاهة الموت.

             قبل النظر في آليات تحقيق "السعادة" لا بدّ أن نقف على هذا المفهوم الغامض لنكشف حقيقته وجوهره وما يكونه. فهل السعادة تحقيق لكلّ الرغبات والاستئثار بالمال والسلطة؟ أم هي الرضا بالواقع والبحث عن حياة سالمة وسليمة بعيدا عن الصراعات والمشاحنات؟ أم هي شعور داخلي يشعر به الإنسان ليمنحه راحة النفس والضمير وانشراح الصدر وطمأنينة القلب؟ فما هي السعادة؟ وأين تكمن؟ وهل هي قرارٌ أم قدرٌ محتوم؟ وما نظرة الإسلام لها؟   

             يَختلفُ مفهوم السّعادة من شخصٍ لآخر، وقد اختَلفَ في تعريفها الفلاسفة كذلك؛ إذ إنّها مُصطلحٌ نسبيّ، فقد يُسعدُ الإنسانَ شيءٌ يُعدّ لدى غيره عاديّاً، ويودّ الجميع لو يصبحون سعداء، بيدَ أنّك حين تسألهم: ما معنى السعادة؟ لن يستطيع أكثرهم الإجابة بشكلٍ صحيح، ويرجعُ ذلك إلى أنّ المفاهيم تعقّدت وتشابكت، فما عاد غالب النّاس يُفرّقون بين السّعادة والرفاهية والرّضا، وبين النجاة من الموت والألم والسّعي خلف الرّزق ورفاهيّات الحياة. تُعدّ السعادة مفهوماً مجرّداً لا ينحصرُ بنطاقٍ حسيّ ولا عقلانيّ، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو خياليّ، ومن هُنا تكمنُ صعوبة حصره وضبطه في بضع كلمات تصفه، ولذلك يذهب الفيلسوف الفرنسيّ نيكولا شامفور إل القول بأنّ السعادة ليست بالأمر الهيّن، فمن الصعب أن نعثُر عليها في دواخلنا، ومن المُستحيل أن نعثر عليها في الخارج. ويُعرِّفُ أرسطو السّعادة بأنها (اللّذّة، -أو على الأقل أنها تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باللذة- واللذة بدورها يتمّ تفسيرها باعتبارها غياباً واعياً للألم والإزعاج) حيثُ يحصرُ الفضيلة بالتّأمُّل والفلسفة في التفكير، ويصلُ أخيراً إلى أنّ الحياة التي تتصّف بالسّعادة هي الحياة التي تُعنى وتتمحور حول النشاط العقليّ، أمّا سبينوزا فيقول في كتابه الأخلاق: (السعادة هي الغبطة التي ندركها حينما نَتحرّر من عبوديّة الأهواء ومن الخرافات والأحكام المسبقة). وقد تطرّقت خبيرتا السّعادة لارا كور وديبرا ريكوود لمعنى السّعادة، فقالت كور: (السعادة من وجهة نظري هي القُدرة على تجربة أوسع نطاق من العواطف والمشاعر بطريقة صحية)، كما قالت ريكوود: (السعادة هي الشّعور بالرضا في ظلّ غياب القلق أو الاضطراب أو تعكّر المزاج). أمّا الإمام الغزاليّ، فيقول: (إنّ اللذة والسعادة عند بني آدم هي معرفة الله عز وجل)، ويُتبع ذلك بقوله: (اعلم أنّ سعادة كلّ شيء ولذته وراحته تكون بمقتضى طبعه، كل شيء خلق له، فلذة العين الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة، ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ القلب مخلوق لها).[6]

السعادة -إذن- هي شعور ممكن دائما؛ فهي لا تكمن في سعادة المترفين وذوي البطون المشبعة؛ بل تكمن في بهجة الحياة حينما نحبّ، وحينما نبدع فنّا، وحينما نسعد بولادة حقيقة ما. نحن نسعد بكلّ تغيير بهيج لما يحدث لنا. حيث أنه لا ينبغي أن نتأمّل الوجود وأن ننعم بدفء أحضان مساحة الراحة والروتين؛ إنّما علينا الذهاب دوما لملاقاة الحدث وتعلم الجديد. حدث ما؛ هو ذاك الذي يغيّر نظام العالم. وكي ننعم بالسعادة ويتسنّى لنا عيشها واقعيّا فيجب القيام بأحد الأمرين: إمّا أن نتناسى كلّ ما يهدّد حياتنا ونتظاهر بالتفاؤل، وهذا قد ينتج سعادة بتراء نتاج انشغال العقل بتلك الأكذوبة المفتعلة ولن يستطيع التخلّص منها ونسيانها مهما حاول. وإمّا أن نزاوج بين الوعد والوعيد ونغلّب الأوّل على الثاني بوعي تام وقناعة ثابتة لا يزحزحها شكّ، وهذا يتطلّب جهدا جهيدا يمكّن من نحت كيان، "وإنّ كلّ كيان لجَهدٌ    وكسبٌ منحوت" بتعبير محمود المسعدي.

 

       وبناء على ما تقدّم، فإنّ السعادة ليست وهما أو خيالا، إنما تحقيقها رهين اختيارات الكائن البشري وطبيعة سلوكه ومبادئه وأفكاره ونظرته للحياة. فالسعي إلى تحقيق السعادة مشروع حتّى في أحلك الظروف ولكنّ منهجية السعي إليها وآليات تحقيقها وزمنها ومكانها كلّها شروط لابدّ من توفرها مجتمعة لتمهيد السبيل وتعبيد الطريق الموصلة إليها دون عراقيل أو حواجز من شأنها أن تربك السعي وتجهض المشروع. ولا أحد ينكر أنّ تحقيق السعادة المرْضيّة - إن لم أقل المطلقة – صعب المنال، ولكن حتّى وإن لم نستطع أن نكون سعداء كما نريد فإننا بالضرورة سنكون أقلّ شقاء.

 

الأستاذ: مختار الماجري / تونس

الهوامش:


[1] إبراهيم، الآية 42

[2] الحج، الآية 2

[3] مريم: 71، 72

[4] القصص: 23

[5] "المثقف الشمولي" بتعبير فوكو هو الذي يتكلّم باسم الحقيقة والإنسانية والمستقبل، فهو حامل راية الحق المطلق وبشارة الغد المشرق. 

[6] أبو حامد الغزالي، "كيمياء السعادة" ، فصل: ما هي أعظم اللذات؟ ص 139

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين