‏إظهار الرسائل ذات التسميات عبد المجيد يوسف. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات عبد المجيد يوسف. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 25 سبتمبر 2022

البحر في رواية محجوب العياري: "أمجد عبد الدايم يركب البحر شمالا" الجسد التّرابي يُغمّس في الماء،،، عبد المجيد يوسف/ تونس

عبد المجيد يوسف/ تونس
 

البحر في رواية محجوب العياري: "أمجد عبد الدايم يركب البحر شمالا"

الجسد التّرابي يُغمّس في الماء

عبد المجيد يوسف/ تونس

كتاب الرّافدين

يحضر البحر في عديد الرّوايات تيمة مركزيّة هو فيها مدار العملية السّردية برمّتها، كما أنّ له حضورا سوسيولوجيا مفرزا لنمط مخصوص من العيش، فتقام حوله بيئة لها طابعها المخصوص ويؤثر في نفسية الناس وكيفية وجودهم وسبل معاشهم. (انظر روايات حنا مينا)

 والرواية التي نحن بصددها اليوم دارت وقائعها في بيئة بحريّة... بيد أنّ بطل هذه الرّواية الطارئ من بيئة قارّية سوف تجمعه بالبحر علاقات مخصوصة هي بين الحبّ والارتياب والرّهبة والحياة والموت... هو لن يباشر البحر على أنّه ذلك الحوض المليء بالملح... ولكن سيعاشر امتداده في اليابسة... في هذا الامتداد أيْ في زواج الماء بالتربة أمكن أن يجد بعضا من وهم الطمأنينة وسرابا من التّوازن وبعض اللّذة... لكنّ الماء المحض لن يكون بالنسبة إليه إلا سبيلا للاغتراب وللتلف.

صدرت هذه الرواية سنة 2006 ولصاحبها كما هو معلوم خمسة مجاميع شعريّة، ثم كتب هذه الرّواية خاتمة لمنجزه الأدبيّ قبل تعريبه لرواية أخرى لمنصور مهنّي "العنكبوت". وعندما يتسرّب شاعر وقارئ نهمٌ إلى مجال السّرد يأتي فيه بما يخالف المعهود، فهو إمّا أن ينجز سردا مُشبعا بالمجازات، تطغى فيه الصّور وربما طغى البيان كذلك على الحدث حتى لا يكاد يُرى، وإمّا أن يأتي فيه بكلّ طريف مع اقتصاد في العبارة الشّعرية كما هو الشّأن في رواية محجوب العياري من جهة البحث عن شكل مستطرف غريب.

وجدّة هذه الرّواية ومظهر الابتكار فيها متمثل في اختراق الملحوظات النّقدية للمتن الرّوائيّ أي في تداخل الفضاءات بالمعنى الذي وضعته منظومة جيرار جينيت في كتاب "طروس"...  فالأصل أنّ ما سُمّي بالميتانص "كما نقله سعيد يقطين" Métatexte  مقيم خارج فضاء المتن بينهما برزخ لا يبغيان...  وهو متنوّع المادة شامل لما ينشأ حول النّص من نقود وملحوظات وتقييم وهوامش وإحالات.

نجد رواية أولى يمكن تسميتها بالرّواية الظرف تحتلّ ممهّداتها Paratexte الغلافَ الخارجيّ وهي العنوان "أمجد عبد الدايم يركب البحر شَمالا" واسم المؤلف محجوب العياري وعبارة تحدّد الجنس الأدبيّ وتخاطب القارئ وتوجّه القراءة. وفي الدّاخل يعترضنا نصّ داخلٌ في ما عينّاه بـ"ما فوق النّص" متميّز طباعة بالخط الغليظ، يتحدّث بضمير المتكلّم ويروي قصّة تلقّي هذا المتكلم لمخطوط من مؤلف شابّ، ويتخلل كلّ ذلك  -إلى جانب الملحوظات النقدية-  فقراتٌ عن المؤلف ووقائع من سيرته ثمّ  تحتلّ نهاية الكتاب في فضاء صفحاتٍ عشرٍ حيث يُصبح السّرد غير متعلق بأمجد عبد الدايم بل بالضّمير الذي تلقى المخطوط وقرأه.

أمّا الرّواية المظروفة فمتميّزة بالخطّ الدّقيق المستعمل في المتون وبعتباتٍ خاصّة بها من اسم مؤلفها "أمجد عبد الدايم" ومن عنوان "المرافئ السّراب" ومن عبارة لتوجيه القراءة "رواية"... ثمّ وقع تسييجها بعبارة "تمت" في نهايتها قبل أن يتواصل الرواية الظرف حتى نهاية الكتاب.

نصّان متمايزان شكلا ووظيفة وطباعة لكنّهما متداخلان دلاليّا وشكليّا حيث تداخلت فضاءات النص حتى يلتقي الرّافدان في الخاتمة في مصبّ واحد حين يقرأ الضّمير المتكلم في الرواية الظرف نعيَ أمجد عبد الدايم في إحدى الصّحف ويكتشف أنّ الشخوص الافتراضيّة التي في رواية عبد الدايم هي شخصيات حقيقية ذات وجود فعليّ.

لقد وضعنا هذا التقديمَ في محاولة للتّعريف بالشّكل المبتكر لكتاب محجوب العياري هذا واشتغاله في الكتابة السّردية على المزج بين فضاءين للنّص دأبهما الانفصال وذلك بطريقة تُربك القارئ فيختلط عليه الخيال الرّوائي بالحقيقة والوجود الرّوائي بالوجود الواقعيّ والنّصّ الخيالي بالنّصّ السّيرذاتي.

الجسد التّرابيّ المبلّل

قدّمنا في مطلع هذا الحديث ما يلمس منه أن أمجد عبد الدايم قد نشأ في بيئة قارّيّة وأن ظروفا محدّدة دفعت به إلى أن يقترب من اليمّ... وعندما ينظر المرء في الطبيعة يتبيّن له أنّ في كائناتها ما هو بريّ وما هو مائي وما هو برمائيّ... وأمجد عبد الدايم هو ابن القارة بامتياز، جُرّ إلى البحر قسرا بعد إذ فشل في تأمين معاشه بالوسائل البرّيّة.... يقول: " في بداياتي اشتغلت خضارا ثم ماسح أحذية ثم بائع خرداوات وسائق عربة موتى ثم عرّافا، وبعدها حين فشلت في كلّ ذلك أصبحت بحّارا" ص 14

كلّ هذه الحِرَف المستعرَضة ليست مجرّد مهن اتّخذها بطل الرّواية لكسب العيش فحسب ولكنّها فضلا عن ذلك تقلباتٌ في الموجد واختبار لوضعيات الكائن القلق وتنويع في التّجريب، ويتجلّى البحر مجالا للتّجربة الأقصى والأقلّ أمنا... تقوم التّجربة البحريّة على تخوم الحياة لأنّها تحمل الإنسان على نقيض طبعه ومفارقة ما جُبل عليه من الطّمأنينة على اليابسة. يقول "رغم يقيني أنّي ما خلقت لأكون بحارا" ص 75 ويقول أيضا " ولكن فكّرت في أخطار البحر، أنا الذي لم أتعلّم السّباحة يوما" ص 76

ورغم أنّه تبرّم بالعيش فإنّه، عندما ركب البحر وتوغّل به مركب الرّايس حمزاوي وانقطع عن اليابسة، لم تتمثل له صورة المطلق الجميل ولا أوحى له ذلك برهبة ميتافيزيقية منبهرة ولم يقرّبْه ذلك من السّماء ولكن تمثّلت له صورة العدم وغياب المكان الموفّر لطمأنينة الجسد والرّوح بسبب غياب كامل لصورة المعالم ذات المراجع المألوفة المطمْئنة الحاصلة من تجاربه السّابقة وغياب العالم المرئيّ وحلول صورة أشبه بالعماء تغيب منها المعالم وتنعدم مقاسات الأبعاد. والدّخول في جاذبية البحر لم يفقده المعالمَ المألوفة فحسب، ولكن أفقده الخبرات السّابقة التي حصّلها باعتباره كائنا مجرّبا، فهو في البحر كائن يبدأ تجاربه من الصّفر ويلغى كلّ ما حصّل من الخبرات .... وأفقده الاتّجاهات وأفقده الألوان المميّزة للأشياء وأفقده الأشكال من أعراض وأطوال. فتوغّلُ الكائن الترابيّ في البحر أفقد معالم الوجود مجتمعة...

 بيد أنّ الرّواية لم تتحدّث عن ثقل وخفّة على سطح الماء... وهو أمر كانت القراءة تنتظره في مثل هذه الحالة، ولا نتحدّث هنا عن الكتلة الفيزيائية فحسب بقدر ما نشير إلى فراغات الرّوح وامتلائها بالشّعور بالفقد وبالنّسيان وبضياع الأمكنة والاتّجاه. قال: "البحر ليلا... يا لهذا الامتداد الذي لا يحدّ لا شيء غير هذا الأزرق الكحليّ يطوقنا من كلّ جانب" ص 77 ثم قال في نفس الصّفحة: "أحسست بدوار شديد ... ضحك البحّارة وأنا أنازع الموت."

... لقد تجلّى البحر فضاء عصيّا على الامتلاك  مثل القارّة تماما حيث  التّنقل في المكان وامتلاكه والإقامة فيه  أمر أهونُ على عسره... والبحر كثيف، سميك، مائع، غامض، ومشحون بقوة يمكن أن تقلب سفينة وتحْطمها، وفضلا عن كلّ ذلك فإنّ التّجربة البحريّة ركّزت على تفاعلات الجسد باعتباره ظاهرة بيولوجية واجتماعية كذلك... وأمجد عبد الدايم شخص طردته اليابسة من كلّ ركن آمن فيها... حتى الدّخول في مؤسّسة الزّواج كان في مرحاض قطار، كما طردته من  مؤسّساتها التي قد تكون إطارا مساعدا على نحت كينونة ما: طُرد من المعهد الثّانوي ومن الجامعة ومن مؤسّسة الزّواج ومن مؤسّسة الحبّ،  أهانه والد زميلته ورماه بالسّرقة وأخزاه، وهجرته سلمى لأنّه لم يقدر على الدّخول بعواطفه وبجسده لا في حيّز اللغة ولا في حيّز الفعل، فلم يخبرها بحبّه ولم يأخذ جسدها بل تركه لزوجها واكتفى منها بملامسة اليدين في هوس تميميّ لا جدوى منه... وبدا له أنْ سيجدُ في البحر ملاذا فدخله بلا خبرة  مشحونا بجملة من الدّلالات الاجتماعية باعتباره سليلا لقرية في الرّيف لا عهد لأهلها بالبحر وبنشاط النّاس فيه وبالخبرات المطلوبة  لمجابهته والإقامة فيه.

 سوف يقضي أمجد عبد الدايم بضعة أيام في البحر حتى أعجبته الحياة البحريّة  فأنكر البرّ وكره الرّجوع إلى اليابسة... لكنّه كان واهما، فرُهاب البحر عَلِقٌ بعمق روحه وإن انجذب إلى البحر  فبفعل الرّغبة اللاواعية في الموت... ها هنا يتجلى البحر ذا أبعاد ميتافيزيقية مرتبطا بحتمية لا فكاك منها، فهو إن لم يقتله في الأولى بقوة العاصفة فقد أسلمه في الثانية إلى الاعتقال فالموت في ظروف غير معلومة... ها هنا يرتبط العنوان، وهو العتبة المقيمة على التّخوم، بعمق دلالة البحر في هذه الرّواية، فأمجد عبد الدايم ركب البحر شَمالا قاصدا أن يموت... كائنا لعينا  لم يتّسع له البرّ كما لم يتّسع له البحر ... وهو يموت في البرّ مَيْتته الثانية، فقد كان شقيقه  التّوأم الذي توفّي حاملا لاسمه هو... فكأنّ تلك التّسمية التي اتُّخِذت له من أخيه  ورمت به في مسار غير مساره وفي قدر غير قدره هي الحاملة للعنة.

البحر يستلقي على اليابسة

والبحر في هذه الرّواية ليس حبيس الوهد، تطغى لججه ثم تتراجع دأبًا، ولكنّه ممتدّ داخل اليابسة بما استحُدِث حوله من المؤسّسات المتّصلة به والمستمِدّة منه علّة وجودها وهي العلامات التي تميّز بيئة بحريّة عن مثيلتها القارّيّة.

فإذا كان البحر بأمواجه وبزوابعه الأكول وبطبيعته المائعة غير المستقرّة قد مثّل مجالا لاختبار شخص غير مؤهّل لذلك، كما مثل فوبيا مجسِّدة في طائفة من المكاره كالغثيان والإغماء والمغص وفقدان ما ألف أمجد عبد الدايم من معالم الاستدلال الثابتة وتجسيدا لصورة العدم حيث لا مكان ولا اتجاه، ولطريقة الموت البحريّ حيث تنهش الجثةَ الحيتانُ والغيلان ممّا جعله يفضّل الطريقة البريّة عليها... فإنّ وفرة البراديقمات في السّجلّ الاستبدالي للمؤسّسات المتعلقة بالبحر والممثلة امتدادا له على اليابسة لا تثير أيّ هاجس، بل  هي مرتبطة بجملة من المباهج كالصّداقة والحبّ والخمرة وتَلقّي الرّسالات، وكانت مسرحا مناسبا لبحث أمجد عبد الدايم عن أفق يهرب إليه من خيباته المتتالية...

إن وفرة البراديقمات المعيّنة للمؤسّسات التابعة للبحر كالحانة والمقهى والميناء والمركب وما حايثها من الأعمال كالسّكر ومواعدة سلمى وتناول الطعام بغلال البحر وما شابه من تسميات تعيّن المكان وتخصّصه وتحدّد موقعه (مقهى الشاطئ، حانة الموجة الضاحكة، حانة النورس، مقهى الدلافين...) تقوم نقيضا للسّديم البحريّ الذي ينتفي فيه كلّ اتجاه وكلّ بعد وكلّ استدلال ويكرّس بطلَ الرواية كائنا غريبا منبتّا لا صلة له بالبحر، ويؤكّد مفهوم الاغتراب الذي لازمه على ظهر اليابسة، فهو منبوذ أينما حلّ. ويتجلّى من خلال كلّ هذا البعدُ الوجوديّ للرّواية حيث يبدو أمجد عبد الدايم شخصا اغترابيا غير قادر على تحقيق أيّ شيء من انتظارات مجتمعه (فشل في أن يكون شرطيا مثلا وفشل في العهد الثانوي وفشل في الجامعة التي دخلها بهوية زائفة هي هوية شقيقه التوأم المتوفّى) كلّ ذلك ولّد لديه شعورا بالانفصام جعل علاقاته الاجتماعية غير وديّة ولامبالية وجعل حياته دون برنامج محدّد لأنّه فاقد للهدف.

****

ونقول على سبيل الخاتمة إنّ رواية "أمجد عبد الدايم يركب البحر شمالا" رواية "بحريّة" تدور أحداثها حول البحر وفيه، تروي لقاء غريبا بين كائن قارّي الطباع، ترابيّ الرّوح وبين عالم الماء المكتنَف بالغموض... يُدفع هذا الكائن التّرابيّ إلى البحر قسرا كالمجرور إلى نهايته.

وهي رواية الاغتراب الوجودي بمعنى الانسلاخ عن المجتمع واعتزاله والعجز عن التكيّف مع الأوضاع التي حدّدها له الأهل ومع المسارات التي سطروها لكينونته واللامبالاة وانعدام الشّعور بالانتماء لا إلى أهل ولا إلى مكان، فاستقرت الغربة في ذاته حتى أضحى غريبا عنها.

وهي أيضا رواية الاغتراب الاجتماعيّ بمعنى فقدان المعايير والقيم الاجتماعية، أو ما أسماه دوركهايم باللامعيارية، ففقد ضابط السّلوك السّويّ بحيث أصبحت مواقفه متّسمة بضعف الحافز واللامبالاة وسطحيّة الشّعور. ولنُشِرْ فقط إلى طريقة زواجه في مرحاض قطار بامرأة التقاها للتوّ أو احتراف العِرافة أو خداع المرأتين في الباخرة...  فقد كانت علاقة أمجد عبد الدايم بمنظومة القيم تلك التي تركها في قريته أو التي وجدها في المدينة قد غدت علاقة تنافر وعدم تطابق في كلّ شيء، حتى صارت غريبة عنه.

وعلى العموم فقد عاش أمجد عبد الدايم هذا الاغتراب على أكثر من وجه: اغتراب ذاته عن جوهرها بفقدان مرتكزات الانسجام الدّاخليّ واغتراب عن البنية الاجتماعيّة بفقدان الدّور والهدف والمعايير القيميّة واغتراب عن المكان باعتبار البحر عالما أجبر على تجريب العيش فيه دون أن يكون مؤهلا لتلك التّجربة.

 ولعلّ من  تجسّد غربة الكائن التّرابيّ في عالم الماء أن المؤلف  وهو شاعر (كان مولده في بيئة قارّية لكنّه يُدفع هو الآخر إلى البحر في بنزرت أوّلا ثم في نابل ويعاشر البحر على نحو ما)، فإنّنا لا نعثر في الرّواية على ما يمكن أن ينسج خيال الشّاعر من صور متعلقة بالبحر ولا ما تدير الثقافة حوله من الأساطير ومن الابتهاج به  ومن التّغنّي بجماله ومن تجلّيات المقدّس، بل على عكس ذلك اقتصر الحديثُ عن البحر عند المظهر التّجريبيّ قوّةً أكّالة للبشر حمّالة لهم إلى نهاياتهم  ومجالا لاختبار الجسد التّرابيّ لمجموعة من المكاره مثلما اختبر الموتَ الوشيكَ ... قبل أن يُودي البحر به إلى نهاية مأساوية غامضة في أرض غريبة.

عبد المجيد يوسف/ تونس

 

الثلاثاء، 12 يوليو 2022

قراءة في رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف المجهر اللّغويّ النّافذ من الظّواهر إلى الباطن (4) بقلم: صالح مورو/ تونس

قراءة في رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف

المجهر اللّغويّ النّافذ من الظّواهر إلى الباطن (4)

بقلم: صالح مورو/ تونس

 

*الاسترجاع ودوره في الفواصل الزّمنيّة التّاريخيّة

*لوّاجيست الماضي، رجل المقعد الأمامي-الخلفي:

*حاضره: أواخر العشريّة الأولى من الرّبيع العربي، واقعه بين يدي خليفة حفتر وفايد السّرّاج والمبعوث الأممي... كان سائق سيارة أجرة بليبيا 2007 وسائق شاحنة إغاثة تابعة للأمم المتحدة بجنوب ليبيا باتجاه دارفور، واليوم أصبح لا مقود بين يديه ولا نجمة بكامل دلالاتها. يعيش التيهَ والضياع.              

*ماضيه القريب والبعيد: "عهد القذافي وكيف كانت جرائم القتل تتحل داخل القبيلة والحاكم ما يتدخّلش فيها واللّيبيّة اليوم يتقاتلو موش باسم القبيلة ولكن باسم المصالح الفرديّة... لحساب القوى الأجنبيّة." حنينه وشوقه لتاريخ مدينة غمراسن بولاية تطاوين والتي كانت عاصمة دولةٍ ما بين القرنين الخامس عشر والسّادس عشر، كان اسمها "قصر حمدون". هذه العاصمة سَاسَها رجل بمن فيها وما حواليها من قبائل عربيّة وبربريّة، بعد أن جمع رؤساءها وصالح فيما بينهم فأصبحوا بذلك قوّة إقليميّة اتحاديّة. هذا الرّجل القائد، جاء من السّاقية الحمراء بالمغرب على ظهر ناقة، والذين معه ستّةٌ من رفاقه، غلاظ شداد، لا يعصون سيّدهم ما أمرهم... رحماءُ بينهم، أشدّاءُ على الأعداء... اسمه "الشّريف الإدريسي" قائدُ دولةِ ورغمّة وعاصمتها "قصر حمدون".                                                              

*مُستقبله: يَحلمُ بعودة الماضي التّليد. قال: "شوف يا ولدي، التقدّم الي صارت عليه الشعوب حكاية فارغة... والموديرنيزم والدّيمقراطية والأحزاب والتعدّدية وحقوق الإنسان والانتخابات... موش متاعنا... يحبُّو يلبّسو برطلّة الانتخابات للقبائل اللّيبيّة... حتّى لينا نحن التوانسة خاطيتنا الدّيمقراطيّة... القبيلة مازالت في أعماقنا... والدين والدّيمقراطيّة كيف الشّمس والظّل... يَا مدّيّن، يا ديمقراطي... الاثنين مع بعض موش ممكن. أروبّا ما صارتْ ديمقراطيّة إلا ما خلعت الدّين وخلّاتو في الكنيسة... اليوم ليبيا يلزمها راجل يرجّع اتحاد القبائل... لو يطل علينا (الشريف إلادريسي) فجأة... نأكّدلك اللّوّاج الماشية من تونس لبنقردان وإلا لتطاوين تتعبّا في ربع ساعة"... كانت هذه رؤية لوّاجيست الماضي وما تمثّله خلال فترة العشريّة الأخيرة وما قبلها... قبل ثورة الربيع العربي بالجارة ليبيا... لكنّ السّيلَ جارف والأمر خلاف ما يرى...                                                                                                  

لوّاجيست الحاضر... القائد:

*لوّاجيست الحاضر: واقعهُ حاضرٌ مَعيش... ضمن واقعٍ مُعاصر وجبتْ مسايرته داخل فترة تاريخيّة تشهد تحوّلات عالميّة عميقة بحكم العولمة والمسار الحضاري... وهو ما يقتضي الصبر والأناة والتّروّي والكثير من الحكمة... وبما أنّ هذا اللّواحيست هو قائد المركبة... مركبة تسلّمها للقيادة أواخر العشريّة الأخيرة من ثورة الرّبيع العربي... قيادة كان يحلم بها كمن يحلم بحيازة "نجمة" مُضيئة في ركن من السماء... فيها ما فيها من الآمال والأحلام حياةً، قيمًا، حبّا، حرّيّة... تلك النجمة المضيئة هي "نجمة الرّاعي"، تلك الأسطورة... أسطورة لا ككلّ الأساطير، نزلت من عليائها لتكون بين يدي هذا القائد باعتباره راعٍ لما يقود وأسبغت عليه اسما جديدا "راعي النّجمة" وما تعنيه من دلالات... فإمّا أن يكون في مستوى الرّعاية كما تمّ العهد بينهما، وإمّا فنصيبه الصَّلبُ... ليخرجَ البطل الثّاني... المنتظَر... سيكون ذلك الطفلَ غيرَ المُتوقَع... ذلك النّشء المنتظرَ الذي لن يخيب إطلاقا...   أ لمْ نقلْ إنّه ابن أمّه؟ تلك السيّدة الشابّة السمراء الجميلة، ذاتُ الجسدِ الأسطوري، بضفيرةٍ طويلةٍ تنسكبُ على طهرها، مثلُ هذه الأمّ ما ولدتْ عقيمَا...                                                                                       

 

*مواطن التّناصِّ القرآني داخل الرواية

*(وتبسّم ضاحكا من قولها) مجزوء من الآية 19 من سورة النمل ((فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ...)) والمقصود بالمتبسّم سليمان مع النملة...                                   

*(يُقلّبه ذات اليمين وذات الشمال) في إشارة إلى سورة الكهف، الآية 18 ((وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال))                                                                           

*(جعلوا الليل معاشا والنّهار سُباتا) عكس مفهوم الآية 47 من سورة الفرقان ((وهو الذي
جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا))                                                    

*(وأسرّها في نفسه) في إشارة إلى الآية 77 من سورة يوسف ((قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرّها يوسف في نفسه ولم يُبدها))                                                                     

*(هي والرّجل في قميص واحد) في إشارة إلى قميص يوسف شاهدا على صراعه مع امرأة العزيز الآية 25 من سورة يوسف ((واستبقا البابَ وقدّتْ قميصه من دُبر وألفيا سيّدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يُسجن أو عذاب أليم)).                                                                

*(بينهما برزخ لا يبغيان) في إشارة إلى الآيتين 19 و20 من سورة الرّحمان: ((مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان)).                                                                                           

*أكله الذئبُ وأنتَ (عنه غافلون) في إشارة إلى يوسف وما قاله أبوه لإخوته حين أرادوا أن يذهبوا به معهم. الآية 13 من عنه غافلون سورة يوسف (قال إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ ((عنه غَافِلُونَ))                                                                                   

*(وبالنّجم هم يهتدون) في إشارة إلى الآية 16 من سورة النّحل ((وعلاماتٍ وبالنّجمِ هم يَهتدون))                                                                                                          

                                                             

بقلم صالح مورو/ تونس

 

الجمعة، 1 يوليو 2022

قراءة في رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف،،، دلالات الظّواهر والبواطن وما صدر عنها، بقلم صالح مورو/ تونس

 

قراءة في رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف

دلالات الظّواهر والبواطن وما صدر عنها

بقلم صالح مورو/ تونس


...
حين الوصول إلى صفاقس، صعدتْ سيّدة مع ولدها ذي السنواتِ العشر وابنتِها ذاتِ السّنوات السِّتّ في اتّجاه مدنين. وبذلك أصبح عدد المسافرين سبعة. كانت هذه السيّدة شابّة سمراء جميلة، ذاتَ جسدٍ أسطوريّ، بضفيرةٍ طويلةٍ تنسكبُ على ظهرها. انطلقت السّيّارة في اتجاه "الصّخيرة" حيث ستكون الاستراحة. مسافةٌ ليست بالطّويلة، لكن ما حدث خلالها كان من الغرابة بمكان، نشب صراع بين الطّفل ابنِ السيّدة السّمراء ورجلِ المقعد الخلفي حيث جلس ذلك الطفل، أمّا أمّه وأخته فقد جلستا أمامه. الرّجل الخلفيّ يُهيْمن فيه على كامل الرّؤية الأماميّة والجانبية. وفجأة صاح الرّجل الخلفيّ متألّما فالتفتَ كلّ مَنْ في السيّارة مُتفاجئا، لقد ركل الطفل الرّجل ركلة قويّة على ساقه وهو يصرخ: "ما تخزرش لأمّي... مِن وقت طلعنا وأنتَ تبقّقْ عينيك فيها... أخزرْ قدّامك"...

ابتلع الرّجل الخلفيّ الصّدمة مُحاولا مُحاورةَ الطفل: "وعلاش ما تحبّشْ نخُزرْلها؟" فأجابه: "مَامَا متاعي أنا موش متاعك أنتَ. ما نحبْ حتّى حدْ يخُزرْلها."

حاولت الأمّ تهدئة ولدها، لكنّه كان قاطعًا، حاسمًا. أجبرته أمّه على مبادلة أخته بالمكان. لمّا استقرّ بالقرب من والدته ظلّ يلتفتُ ويُرسلُ بنظراتٍ شزراءَ باتّجاه الرّجل. أمّا أخته فقد التصقتْ بالنّافذة. اعتذرت السيّدة للرّجل، أمّا هو فقد حاول أن يفسّر الأسباب، لكنّ الطفل انتصبَ واقفا مُتمرّدا، رافضٍا كلَّ تعليل. وتواصلت السفرة حتّى الصّخيرة حيث نزل الجميع للاستراحة والغداء... لسوء الحظّ أو لحسنه، لاحظتْ دوريّةُ أمنٍ الرّجلين المُتكتّمين والسّاكتين طوال السفرة، أوقفتهما، طلبت هويّتهما فإذا بهما مطلوبان لديها. تمَّ تَكبيلهما، هما جزائري ومغربي مهرّبان للسّلاح من ليبيا إلى الارهابيّين، مطلوبان من الأمن الجزائري. انتهت الاستراحة والغداء وانطلقت السّيّارة بمن تبقّى من المسافرين في اتّجاه مدنين فتطاوين...

عَنوَنَ الروائيُّ عبد المجيد يوسف روايته بِــــــــ "اللّواجيست أو نجمة الرّاعي" لغايةٍ في نفس يعقوب. الإشارة إلى "نَجمة الرّاعي" هذه، وقعتْ عند فجر اليوم الثاني، بعد وصول اللّوّاجيست إلى "تطاوين-قصر أولاد دبّاب"، مُتخلّصًا من كلّ المسافرين إلاّ الطبيبة. "نجمة الرّاعي"، كُنية أسندها اللّواجيست للطبيبة، التي حلّت بأرضها المُبتغاة من أقصى شمالها "بنزرت" حيث كان مَقامها إلى أقصى جنوبها "تطاوين" على مشارف بلدة "رمادة"، حيث سيكون مَقامها الثاني، وبذلك يُصبح وجودها نورا على كامل بلدها... النّجمة؟ أ ليستْ هي علامة "امتياز" للمرأة، كائنةً مَنْ تكون... هي إشارة انطلاقٍ للرّاعي عند الفجر، تُضيءُ سبيله ساعة الخروج مع الماشية وهي تتلألأ شرقًا، أو العودةَ بها مع المساء بإشارةٍ دوما من نجمته وهي تُشِعُّ غربًا... ذلك ما فسّره "اللّوّاجيست" للطّبيبة، بحسب الأسطورة، وهو يُغادرها رجوعا إلى شمال "تونس" في ذهابه وإيّابه المعتاد بين الشمال والجنوب... ودّعها على موعدٍ للرّجوع إليها وهي باقية كما قالت في انتظاره: تبادلا اسميهما، نسبت لها اسمَ "نجمة الرّاعي" واختارتْ لصاحبها اسمَ "راعي النّجمة " بعد أن سجّلا رقميهما كلٌّ في هاتفه... "بُهِتتْ وصمتتْ مطوّلا، وظلّتْ رانية إليه وملامحه لا تبين، تماما كالنّخلتين، لا يبدو منهما إلاّ شبحان معتنقان وأهدابٌ تخفقُ... لقد مثّل اللّوّاجيست "القائدَ" وبكفاءةٍ في حاضر هذه السّفرة مكانا وزمانا، على العكس من غريمه، رجل المقعد الأمامي-الخلفي، فيما مضى من رحلاته عبر (الاسترجاع) سائق سيارة أجرة بليبيا وسائق شاحنة إغاثة تابعة للأمم المتحدة بجنوب ليبيا باتجاه دارفور... كان عرضة للكثير من الأهوال، لم يسلمْ حتّى من الجنجويد الذين نكّلوا به ومرّغوا أنفه في التراب... بالرغم من ادّعائه العلمَ والمعرفة والمهارةَ في كلّ شيء... الاثنان، لوّاجيست الحاضر والماضي، كلّ منهما يُمثّل فترة تاريخيّة لنظام سياسيّ-اجتماعيّ معيّن: لوّاجيست الحاضر يمثل أواخر العشريّة الأخيرة من فترة ما بعد الربيع العربي بتونس، أمّا لوّاجيست الماضي فهو مُمثّل لفترة العشريّة الأخيرة قبل ثورة الربيع العربي بالجارة ليبيا... بقيَ قائدها بلا نجمة وهو يبحث عنها بين الوجوه مُتشبّثا بالمكان الأمامي حتّى فقده وفقد الوجه المرغوب في مواجهة مع طفل صغير داخل اللّوّاج، ابنُ أمّه، ابنُ السّيّدة السمراء، ذات الجسد الأسطوريّ، ابن طبيعة وسليقة، يفهم ما له وما عليه، باطنه نسخة من ظاهره لا غبار عليه... مازال أوديبيّا ويبقى كذلك حتّى الشيخوخة. من لا يغار على أمّه فلا دين له... نَشؤٌ آخر لمستقبل آخر ناضج قبل أوانه، ربّما ليتسلّمَ المشعل حين الفُتُوّة من لوّاجيست الحاضر إذا ما زاغَ وهوى وقُيِّدَ مُطلّا من على شرفةٍ على "نجمة الرّاعي" لأنّ هذه المرّة لن تُمسخ ولن تطلع إلى السماء... هي ها هنا باقية في انتظار من سيكون في مستوى قَوامها، منتصبا يُدافع على سلامتها.

*خلاصة القراءة :

... وأنا أنهي هذه القراءة المتواضعة بما ضمّت من هفواتٍ، بقيتُ مسكونا بذلك الطّفل الشّهم ذي السنوات العشر، الذي ركل الدّكتور، الرّجلَ الأماميَّ-الخلفيَّ، ركلةً صاحَ لوقعِ ألمها صيحةً قضّتْ مضجع كلّ من في السّيّارة... نفخ الطفل كالأفعى صارخا في وجه هذا المسكين: - ما تَخزْرَشْ لأمّي... من وقت طلعنا وأنت تبقّقْ عينيك فيها... أخزر قُدّامكْ...

أيُّ فحل هذا الذي انفجر فجأة؟ أ يكون هو البطل الفعلي في هذه الرّواية وأنا عن ذلك من (الغافلون)؟ وما المانع؟ هو أجرؤهم وأشجعهم وأوضحهم... في (استرجاع) لي لعقودٍ من السنين خلتْ، في أوّل عهدي بمهنة التّدريس، عثرتُ على قولةٍ لأحد الباباوات الكبار في نصٍّ باللغة الفرنسيّة يقول فيها متحدّثا عن الطفل وأهمّيّته ما مضمونه: ((كم يكون العالَمُ أفضلَ لو أنّ مُهمّة عدمِ جرحِ نفوس الأطفال تحتلُّ أكثر عقولَ الرّجال...)). حفظتها في نصّها الأصلي وعملتُ بها طوال مهنتي مع الأخذ بكلّ شيء من طرف...

لآلئُ من بحر المطالعة

مقاطع في صورٍ زادتني نشوة مع ابتسامة:

زَأرَ واحدٌ صعيديّ "بلغَ الفراتَ زئيرُه والنّيلا": السّتّاتْ أوّلا ااا سيّدة شابّة سمراء جميلة، ذاتُ جسدٍ أسطوري، بضفيرةٍ طويلةٍ تنسكبُ على ظهرها...

نَحله أنا... باش أنْطِيحْ في صَحْفَه عسل ااا

اللِّي حَطْبِتُّو الحَايْرَهْ شَيْحَتْ بِيهْ حْرَامْها... 

بقلم صالح مورو/ تونس

 

الثلاثاء، 28 يونيو 2022

الهامشيون في المقامات العربية وروايات الشطّار الإسبانية د. محمود طرشونة، بقلم عبد المجيد يوسف/ تونس

 


الهامشيون في المقامات العربية

وروايات الشطّار الإسبانية

د. محمود طرشونة (1)

 

تناول محمود طرشونة في كتابه هذا مسألة غلب عليها التناول الشوفيني شرقا وغربا هي مسألة العلاقة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي في العصر الوسيط... فالعرب يمجّدون إسهامتهم في النهضة الغربية ويبرزون ما كان فيه الغرب من ظلام فرضته الكنيسة... والغرب يباهي بنهضته القائمة على العلم والتجريب وتحويل النظريات  واستثمارها لصالح الإنسان... هذا التناول المغلوط النائي عن التناول العلمي هو ما أبرزه أندري ميكال في مقدّمة الكتاب وهو يصف منهج محمود طرشونة: "...انطلق (المؤلف) من مبدإ أساسي في البحث قوامه أنّ الحضارات ليست مطالبة بتبرير أيّ شيء لأيّ كان فحسبها... أن تكون كما هي."

حرّرت هذه الأطروحة في الأصل بالفرنسية، أنجزها المؤلف بإشراف أندري ميكال في جامعة الصوربون بباريس سنة 1980 وصدرت بالفرنسيّة سنة 1982 وترجمت إلى الإسبانية وترجمها صاحبها إلى العربية وصدرت عن دار سيناترا وعن المركز الوطني للترجمة بتونس سنة 1982.

ومن العنوان تتوضح بعض مقاصد الكتابة من التعامل مع المدوّنة حيث جعل موضوع الأطروحة أحد مكوّنات المقامة دون غيرها هي شخصية المكدّى الهامشي كما جعله أحد مكوّنات قصص الشّطّار الإسبانية، الشيء الذي ينزع بالعمل نحو التفكيك المنهجي للمدونة.

ثمّ إنّ تركيبة العنوان الجامعة بواسطة العطف بين مكونات مشحونة بالمحمول الحضاري:

الهامشون      الشطار

- المقامات         قص البيكارسك

- العربية         الإسبانية

هذه التركيبة توجّه توقّعات القراءة نحو الدراسة المقارنة وتلوّن أفق الانتظار بالعناصر الفنيّة والغايات الّتي تصبو إليها وميكانزمات استغلالها.

وهذه التركيبة تفتح أفق الانتظار على المعرفة الفلسفية أيضا وعلى الخطاب الإيديولوجي سواء استقرّ في مرحلة بناء الذّات بعد حركة التحرير من الاستعمار أو في تلمّس الذات وتثبيتها في مواجهة الآخر في خطابات العولمة.

ومن جهة ثالثة فإنّ هذا الشكل المستفاد من العنوان إنّما يقيّم الذات (سواء أفي بعدها الفردي أم في امتدادها الجمعي) في مواجهة الآخر قصد إجلاء ما هو ذاتيّ محليّ، مخالف لما هو غيري ومجابه له... بل يمكن الذّهاب إلى أنّ ذلك التناظر بين نظامين من القيم يحصل من خلال الوعي بالوجود الذاتي بواسطة التحديق بالآخر وتفحّصه وبواسطة التأمّل في الكيفية التي ينظر بها الآخر باتّجاهنا.

مثل هذا الصدى للتناظر المرآوي شديد الجلاء في الأطروحة، بل يمكن القول إنّ جهد المؤلف كان مندويا تجاه رصد هذه النظرات المتبادلة والتفحّص المزدوج الذي لم يخل من براءة حينا ومن عدائية حينا آخر. قد تتجلى البراءة في مجرد الوعي بالمكوّنات المؤسّسة لخصوصية الذات كالإلمام بطبيعة شخصية الرّاوي في المقامات وعلاقتها بالمكدّي وتقلباته والأوضاع التي يمرّ بها والفلسفة التي يؤديها سلوكه أو المقارنة بين المكدّى العربي والشّاطر الإسباني قصد رصد الفوارق والمشابهات ...

البراءة حينئذ مرتبطة بالنّظر في الذات دون انعكاس نظرة الآخر فيها أو مقارنتها به... يتوهم مركزيتها وتفرّدها واستعلاءها حتى إن لم يتمّ الوعي بها بصفة مطلقة ودقيقة لأنّ هذا الوعي إنما يحدث بواسطة المناظرة بالأخر.

ورقة من إعداد الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

الجمعة، 24 يونيو 2022

قراءة في رواية "اللّواجيست"، لعبد المجيد يوسف،،، المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر (2) بقلم صالح مورو/ تونس

قراءة في رواية "اللّواجيست"، لعبد المجيد يوسف (2)

المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر

بقلم صالح مورو/ تونس

رابط الحلقة1 من القراءة

موضوع الرّواية: تصنيفها، حبكتها، مكانها وزمانها

للوهلة الأولى، تبدو رواية "اللّوّاجيست" واقعيّة بحتة، لكن وأنتَ تطوي صفحاتِها قارئا، مُتمعّنا، مُتلهّفا، ينحرف بك مسارها من الواقع البحت إلى الواقع المَشُوب بالخيال، انطلاقا مِمّا تتمظهر به بعض شخصيّتها من سلوكيّاتٍ غريبةٍ، منحرفةٍ عن الاعتدال "السّلوكي-الفكري-المجتمعي" السّائد نسبيّا... انحرافٌ يطغى عليه الفضول الزّائد عن حَدِّهِ ليرتقيَ إلى دوافعَ غيرِ أخلاقيّة في البعض من زوايا الرّواية والشخصيّات عبر الحوار والنظر الدائر بينها، فضول ينطلق من عينيْ الشخصيّة النّاظرة إلى المنظور إليها ليقف عند الباطن المُريب للنّاظر... بواطن اجتماعيّة مُريبة أدّتْ إلى الخصام، فالاشتباك، فالانفصال، فالتسامح على الطّريقة التونسية "بُوسْ خُوكْ" والباطن في حكم الغيب... ويبقى حبل الحوار والأفعال وردود الأفعال مشدودا وفي تصاعدٍ محبوكٍ ومَنسوجٍ بكلّ دقّة وعناية... أطرافُ الحديث في الحوار بين الشخصيّات دَبلجتْ هذه الرّوايةَ العصماءَ بالأقصوصةِ السّاخرة، الأسطورةِ الواعدة، التّاريخ التّليد للقبائل، أنظمةِ الحكم، مفهومِ السياسة والمجتمع القبليّ والديمقراطيّ غربا وشرقا... لو حدّدنا مكان الرّواية وزمانها وما يَعْمُرها من شخصيّات لقلنا: إنّ محورَها الأساسي "عيّنة اجتماعيّة" تونسيّة، من ذكر وأنثى، صغير وكبير، جمعتها سفرة في سيّارة "لوّاج" من تونس العاصمة شمالا إلى تطاوين جنوبا. دامت السفرة من الفجر انطلاقا إلى فجر اليوم الثاني وصولا... ونما الحوار إلى حدّ فَتح بابِ (الاسترجاع) عن طريق البطل الثاني للرّواية، غريمِ البطلِ الأوّلِ "اللّوّاجيست"... وهو "رجل المقعد الأمامي-الخلفي". بطلٌ ربط باسترجاعه في حديثه الأقطار العربيّة الثلاثة "تونس، ليبيا، مصر" حين كان هو الآخر "لوّاجيست" ولعشرِ سنواتٍ خلتْ، أثناء العشريّة الأولى قبل الرّبيع العربي... مشاهدٌ وحكاياتٌ يَطربُ لها القارئ... أطروحاتٌ بمقارباتٍ أساسها المعرفة بالتاريخ والجغرافيا والاجتماع، وما شابه... عناصر تربط بين الأقطار الثلاثة... مِثلُ هذا الواقع اعتمد أساسا على الخيال في روايتنا هذه النّادرة، مُرتكزها واقعٌ ولكن بتمدّدٍ خياليٍّ نادرٍ لا يقدر عليه إلا ذكاء نادر. وهو ما توصّل إليه الرّوائي عبد المجيد يوسف. هي إذا، من صنف "رواية الخيال الواقعي" لأنّ أحداثها مرتبطة بالحاضر القريب والواقع المعاصر... مع حاضرٍ مَعيشٍ داخل تونس كلِّها أثناء أواخر العشريّة الأولى من الرّبيع العربي...

 

عبد المجيد يوسف كراوٍ، من هو؟

يبدو خفيّا كمحرّك الدّمى تماما، كأنّي به مُخْتَبئٌ وراء المرآة العاكسة داخل سيّارة اللّوّاج... تتبّعتُ خطواتِه على مدى الرّواية... لاحظتُ بعين اليقين، وكلّ شيء نسبيّ، لكنّ حدسي لا يُخطئ في الكثير من الأحايين، أنّ سلاحه الأساسيّ هو "المعرفة" وفي أبهى مظاهرها وأشكالها: يتشكّل هذا الرّاوي من خلال تلك المعرفة مُطلَقَ الذّكاءِ مُطوِّعَه، مُتسلسلَ اللّسانِ حَاذِقَه، مُطِلاًّ واعٍ من شُرفات التّاريخ الأدبي والإنسانيّ... منصهرًا تمام الانصهار في بيئته الاجتماعيّة والجغرافيّة والسّياسيّة... مُنفتحًا على محيطه العربي... يُعطي الانطباع بكونه "رحّالة"... تَمسُّكه بناصيّة اللّغة العربيّة والسّيطرة عليها في أدقّ دقائقها جعل منه مُصوًّرًا بارعًا... كأنّ بين يديه "كاميرا" وهو يلتقط الصّورةَ تلو الأخرى ويرمي بها أمامك حياةً نابضة، ناطقة، تعيشُها مع شخصيّاته التي يرصد أقوالها وأفعالها وردود أفعالها بمنظاره اللّغويّ النّافذ من الظّواهر إلى البواطن في حبكة مُنقطعة النّظير... ثراءُ الخيال لديه مكّنه من الكثير من التّسرّبات التي أبهرني بها وسَيُبهر بها كلّ قارئ لهذا الأثر حيثما كان... لغته التّونسيّة "الدّارجة" ضمن الحوار بين شخصيّات الرّواية أضافت نكهة أخرى لبلورة المضمون ودقّة المعاني ومثّلت معينا آخر مُميَّزا في ثنايا الرّواية والأدب التّونسيّ عموما...

بقلم صالح مورو/ تونس

 

الجمعة، 17 يونيو 2022

قراءة في رواية "اللّواجيست" لعبد المجيد يوسف،،، المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر (1) بقلم صالح مورو/ تونس

 قراءة في رواية "اللّواجيست" لعبد المجيد يوسف

المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر (1)

بقلم صالح مورو/ تونس

توطئة

عبد المجيد يوسف كاتب تونسيّ، مكانه بين الشّعر والرّواية، النّقد والتّرجمة، البحث والثّراء الفكري... لا يهدأ... الكتابة ديدنه الوحيد... ورث القراءة في مفهوم المطالعة عن والده منذ الطفولة... أصيب بالنّهم وبقي كذلك... تهاجمه القصيدة في لحظة فارقة، مشحونة ومكثّفة... أمّا مولد الرّواية لديه فينبعثُ من خلال تأمّل عميق ورويّة ثاقبة في منحًى من مناحي الحياة... ولكم أعجبتني روايته الأخيرة "اللّوّاجيست أو نجمة الرّاعي" وإعجابي بها دفعني لمحاولة قراءتها في هذه الورقة... على طريقتي ومن وجهة نظري... زادي في ذلك القارئُ المُعجَبُ بهذا الأثر وكلّ أملي أن لا أسيء لمضمونه ولو بشائبة.

 تقديم الرّواية

تصديرا لروايته، تبنّى الكاتب مقتطفا من الآية 29 من سورة غافر متمثّلا في قولةٍ لفرعون: "ما أريكم إلا ما أرى"... فِرعون هذا، أشهر طغاة الزّمان والإنسانية على الإطلاق كما يقولون... لو نظرنا في قِيله لانتهينا إلى أنّ كلَّ ما سيُروى داخل هذا الأثر، سيكون بعلاقة متلازمة بـــــ"التّناصّ القرآني" في المعنى داخل المقتطف من الآية، لكن بعيدا عن مخيالنا الدّيني الذي قد يعمد أحيانا إلى "لَيِّ أعناق النّصوص" كما يقول الباحثون. قِيلُ فرعونَ جاء ردّا على قِيل المؤمن من آلِهِ، نَاهٍ إيّاه عن قتل موسى...

المجهر اللّغوي النّافذ من الظّواهر إلى البواطن في البناء الرّوائي:

يقولون: "إنّ الشّاعرَ تُرجُمان النّفس، كما أنّ اللّسان تُرجمان القلب مثل هذه المسلّمات تُحيلني مباشرة إلى لُبِّ رواية الكاتب عبد المجيد يوسف "اللّوّاجيست"، وما اعتمد عليه من واقعيّة وخيال ولغة بأساليبَ فنّيّةٍ راقيةٍ، لبلوغ سبر أغوار شخصيّاته داخل روايته هذه التي نروم الوقوف عند مضمونها لتفكيك ما يمكن تفكيكه ووضعه أمامنا للنّظر فيه مليّا إن استطعنا إلى ذلك سبيلا...

عقدة الرّواية وفكّها

انبجست عقدة الرّواية، وفي جوهرها "عاطفيّة"، من رحم ذاكرة المسافرة الرّابعة وهي شابّة "طبيبة"، قد جمعتها الصّدفة ذات مرّة في سفرة مع "اللّوّاجيست" من بنزرت إلى تونس العاصمة حيث تشتغل بمستشفى الرّابطة... قالت بعد أن رَكَنتْ حقيبتها في مؤخرة السيارة واقتربت من مقعد الباب الأمامي يمين السائق وكان به رجل، قالت للّوّاجيست: "ما نعرفش وين لاقيتك، وجهك موش غريب عليّ بالمرّة... أنا شبه متأكّدة..." اكتفى بأن تمتم: "ممكن... علاش لا؟". رفضت الصّعود متعلّلة بما يُصيبها من دوّارٍ بالرأس وغثيانٍ وتقيّءٍ وما يمكن أن تُحدثه من تعطيلٍ خلال الرّحلة... أصرّت على البقاء واقفة، نظر إليها الرّجل الأمامي بعد أن سمع قولها فبادرها قائلا: أنا مثلكِ تماما، بل أفدحُ منك بكثير وانبرى يقدّم حُجَجًا علميّة دامغة أفضت بالسّائق إلى إمكانيّة ركوبهما معا في نفس المقعد بما أنّ السيّارة مازالت شبه فارغة، وكان الأمر كذلك... نزل الرّجل الأمامي، صعدت الطبيبة، زحفت سنتمترات إلى الشمال، صعد الرّجل وأغلق اللواجيست الباب فزحمه وتراصَّا مثل سردينتين في علبة... انطلقت اللّوّاج بأربعة مسافرين في اتجاه صفاقس فالجنوب. طلب السائق وضعَ حزام الأمان، ما أجبر الطبيبة على أخذ طرف الحزام وأطالته وغرزته في المنشب الذي عن يسارها وهكذا دخلت (هي والرجل في قميص واحد). نظر الرجل الأماميّ إلى الحزام وقد نزل بين نهديْ الطبيبة وفصلهما فصلا وأبرز نتوءهما. فقال: (بينهما برزخ لا يبغيان). نحن أمام لوحة سورياليّة. نظر إليه من في السيارة ولم يبدُ أنّ أحدا فهم مقالته. نلاحظ أنّ المقطعين الواردين بين قوسين جاءا في تناصٍّ قرآنيٍّ ثابت: المقطع الأوّل وردت الجملة "هي والرّجل في قميص واحد" في إشارة إلى قميص يوسف شاهدا على صراعه مع امرأة العزيز إن كان قميصه قُدّ من دبرٍ أو قُبلٍ لإثبات الخائن. إمكانيّة قدّ أو شقِّ قميصٍ واحدٍ من طرف اثنين لا تَرِدُ إلا في حالة قميص يوسف بناء على الآية 25 من سورة يوسف ((واستبقا البابَ وقدّتْ قميصه من دُبر وألفيا سيّدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يُسجن أو عذاب أليم)). أمّا المقطع الثاني "بينهما برزخ لا يبغيان" فهو الآخر يُبرزُ تناصّا قرآنيّا بليغا في تشبيه النّهدين المنفصلين بحزام الأمان ببحرين لا يلتقيان، هذا عذب وهذا مالح، لأنّ لكلّ واحد منهما خصائصه التي يتميّز بها، فوضع الله بينهما برزخا، في شبه حزام الأمان، فاصلا لكيلا يبغي أحدهما على الآخر، بناء على الآيتين 19 و20 من سورة الرّحمان: ((مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان)). مشاهد كانت مباشرة بعد الانطلاق من العاصمة. بعد مسافة هامّة، وقفت السيارة بمحطةِ استراحةٍ وصبِّ البنزين، نصفُ ساعةٍ ورجع الجميع إلى أماكنهم. أخذ الرجل الأمامي حزام الأمان وسحبه مليّا حتّى يبلغ المنشب البعيد شمال الطبيبة... أحسّت بتماسٍّ جليٍّ بينها وبين جارها حتّى لامس مرفقُه نهدها الأيمن... تحرّكت قليلا لتبتعد، لكنّ الرّجل ما فتئَ يُلقي نظرة مواربة على جيب قميصها من حين لآخر... واتّضح البغْيُ وانكسرت حرمةُ البرزخ على اليابسة... ركن اللّوّاجيست إلى مقعده، ماسكا مقوده بين يديه، موزّعا بصره على بهو الطريق في نظرة استشراف وقيادة، يتحكّم في مُكوّنات السيّارة بما فيها من أشخاصٍ وآلة... خيّمَ الصمت على المجموعة لريبةٍ ما... أحسّ الرجل الأمامي بالضّيق، طلب من السائق الوقوف قائلا: "بربّي أوقف لحظة... ما فيش فايدة..." ثمّ نظر إلى الطبيبة، فهمت رغبته، فكّت حزام الأمان، نزل وبيده حقيبته، فتح الباب الجانبيَّ وصعد إلى الخلف تماما داخل السّيارة وراء المسافريْن الآخريْن ويبدوان مُتكتّميْن كأنّ على رأسيْهما الطّير... رآه اللّواجيست في المرآة العاكسة الدّاخليّة قد استقرّ في مقعده، ابتسمت الطبيبة مُستَجِمَّةً بالاتّساع الحاصل بعدَ رحيل الجار الثقيل، ونظر إليها مبتسما كأنّ هناك ارتياحا شعُرا به معا... وانطلق الحديث فيما بينهما وتوالت الابتسامات... لكنّ الرّجل الأمامي الذي أصبح خلفيّا ما انقطع عن مشاكسة الطبيبة من حين لآخر، عارضا عليها خدماتِه إن رغبت في ذلك... نهاية الرّواية ستكون كفيلة بتأكيد ما رصدناه من "عقدة" وما توصّلنا إليه من فكٍّ لها بحكمةٍ وبراعةٍ مردّهما ذكاءُ اللّوّاجيست مع صبره وأناته.

(يتبع)

بقلم صالح مورو/ تونس

الخميس، 16 يونيو 2022

كتاب مجمع البحرين، لناصيف اليازجي، بقلم الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

 

كتاب مجمع البحرين، لناصيف اليازجي

بقلم الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

الأجناس الأدبية تنبعث وتتناسل بعد طول ركود. قد تنبعث في شكل جديد كما تحوّلت التراجيديا إلى أجناس أخرى... قد تحافظ على مقولاتها المتعالية التي لا تكون إلاّ بها وقد تفقد بعضها كما هو الشأن الآن في المسرح الأوروبي حيث التراجيديا مجزّأة أو محوّرة وقد اختفى منها ما كان يميّز التّراجيديا: الغناء والرقص.

وفي خصوص الثقافة العربية فإنّ المقامة هي الجنس الذي لم يصمد صمودا كاملا أمام الإرهاصات الثقافية والتّحولات المجتمعية والمعرفية كما صمد الشعر مثلا، فعرفت المقامة إمّا تقليداPastiche قد يصيب من الأدبية ما لا يتدنّى به دون النموذج وقد يتدنّى أحيانا إلى درجة الباروديا   Parodie وأحيانا تنبعث في شكل أقصوصيّ، فكان أستاذنا البشير خريّف قد حوّل المقامة المضيرية للهمذاني إلى أقصوصة بعنوان "النقرة مسدودة" ضمن مجموعه القصصي "مشموم الفل" (انظر كتابنا: تلوينات على وشاح طائر. دار رسلان للطباعة والنشر تونس 2015) ولكن هذا التّحويل يظلّ بعيدا عن ذهن القارئ غير المتبصّر، ولم نجد من تفطّن، بعد سنوات من الصّدور، إلى الصّلة الوثيقة بين مقامة الهمذاني المذكورة وبين قصّة أديبنا البشير خريّف.

وقد شهد العصر الحديث مجموعة من التّقليدات لجنس المقامة ظلّت محتفظة بالمقولات العامّة المتعالية المؤسّسة لجنس المقامة:

الحادثة الطريفة المفارقة

ثنائية الخادع والمخدوع أو التعتيم والكشف

الرّاوي بضمير التّكلّم والذي عادة ما يكون المخدوع

الخطاب القصصي المسجوع المحمّل بالمحسّنات البديعية

ومن مظاهر التقليد والرّبط بالنّموذج أنّ المقلدين، فضلا عن احتفاظهم بالمقولات المتعالية التي أشرنا إليها والتي تؤسّس جنس المقامة  وتجعله خطابا مخصوصا، يجعلون الخطاب في نصوصهم لا تاريخيا  متجاوزين بذلك خصوصيات عصرهم الحضارية والمعرفية، جاعلين من اللغة صورة ثابتة غير محكومة بالتّطور التّاريخي، فضلا عن ذلك قد يجعلون -بالتبعية- الأطر التاريخية لنصوصهم  لا تاريخية أيضا فتتمركز وقائع نصوصهم في أحقاب خالية (انظر المقامة العبسية حيث نزل سهيل بن عباد مستجيرا بقبيلة عبس...(ص 331 من الطبعة المذكورة) وهكذا يتّسع عند دراسة المقامة مجال النّصّية العابرةtranstextualité   التي - بدراستها - تتحقّق أدبيّة النّص.

وقد ساهم الكاتب اللبناني ناصيف اليازجي في هذه المحاولات الإحيائيّة فوضع كتابا سمّاه "مجمع البحرين".  والنّسخة التي لديّ صادرة ببيروت عن المطبعة الأدبية (مطبعة حجرية فيما يبدو) سنة 1885 في 436 صفحة من الحجم الكبير24/16 وقد احتوى على ستين مقامة. (الطبعة الرابعة)

ناصيف اليازجي (1800/1871) كانت أسرته تمتهن الكتابة لدى أمراء لبنان ولدى الأسرة الشّهابيّة (الشهابيون سلالة حكمت لبنان تحت الحكم العثماني، تسلّموا الحكم عام 1697م انتهى حكمهم عام 1861 ) ومن هنا جاء اللقب اليازجي أيْ الكاتب باللغة التركية، وهو مترجم وهو ناقل كتاب العهد القديم والإنجيل إلى العربية. وقد كان له دور مهمّ في ترسيخ اللغة العربية ومحاولة إحيائها بعد إذ كادت تضمحلّ في القرن التاسع عشر (انظر ما في المؤلفات والمراسلات السّياسية في هذا القرن من ضعف المستوى اللّغوي لدى مؤلّفين كبار وما اعترى نصوصهم من إخلال بالنّظام النّحوي وبالنظام التركيبي وما خالط مؤلفاتهم من لحن)

الشخصية القاصّة الموحّدة هي سهيل بن عبّاد، والمقامات السّتّون تنقسم إلى أنواع:

مقامات قصصيّة تحدث فيها خدعة تنكشف في النّهاية وتنسب في عنوانها إلى المكان الذي صارت فيه وقائعها (المقامة البدوية، المقامة الحجازية، المقامة الشّامية... ومنها ما نسب إلى أقوام أو قبائل: المقامة التّغلبيّة/ المقامة العبْسيّة/ المقامة الحِمْيَرِيّة...

مقامات تعليميّة مثل المقامة الخزرجيّة وفيها أسماء المطاعم والنّيران والسّاعات والرّياح وخيل السّباق.../ المقامة الحِمْيَريّة فيها مباحث لغوية ومسائل شتّى من فقه اللّغة ومسائل من النّحو والصّرف... كما في المقامة الأزهرية والمقامة الفلكية وفيها ذكر للكواكب السّيّارة والبروج والمنازل...

مقامات حجاجيّة كالمقامة الجدلية وفيها مفاضلة بين العلم والمال/ والمقامة الكوفية فيها جدال حول مسائل نحوية.

مقامات إلغازية كالمقامة اللغزيّة والمقامة الأزهريّة وفيها إلغاز بلفظيْ الحرف والنون واسم الصوت... والمقامة الحِلية فيها معميات وأحاجي.

ويحتوي الكتاب على جهاز للشّرح المعجمي للمفردات الغريبة القديمة ولملاحظات لغوية تعليميّة كالملزومة التي أوردها في الهامش حول المواقع التي تثبت فيها الهمزة في "ابن وابنة" أو التّمييز بين عطف البيان وعطف البدل... وفيه كذلك في الهوامش تعريف بالأعلام الواردِ ذكرُهم وبعض الأخبار المأثورة.

والواضح أنّ هذه الهوامش الثريّة جدّا هي من وضع المؤلف نفسه لأنّ الطبعة الرّابعة التي لدينا صدرت بُعيْد وفاته، كما أنْ ليس هناك عمل تحقيق قام به غيره.

ويظل "مجمع البحرين" عمل شديد الأهمية لا في قيمته الأدبية فحسب بل هو مفيد للدراسة اللسانية -التّاريخيّة أيضا.

ورقة من إعداد: الباحث عبد المجيد يوسف/ تونس

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين