الجمعة، 18 فبراير 2022

نشأة قصيدة النّثر في تونس، ورقة أدبيّة يصدرها الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس



نشأة قصيدة النّثر في تونس، ورقة أدبيّة يصدرها الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

... كان لهؤلاء الطلبة ذوي التّوجّه اليساريّ المنتمين إلى الجامعة مفهومهم المخصوص للكتابة الشّعريّة ولمفهوم القصيد، بل قل مفاهيمهم المخصوصة المستوحاة من نبض الحياة فاعتُبر الشّعر "مسيرة احتجاج مطالبة بالحرّية". وفي خصوص الأشكال اعتبروا كتابتهم نماطا "في غير العمودي والحرّ" وهو تعريف واصفٌ لمظهر خارجيّ وتصنيفٌ أجناسيّ أكثر منه متعلّقا بالمفهوم المجرّد، فضلا عن الاضطراب في صياغة المصطلح، كلّ هذا في ظلّ مراجعة للسّابق ومحاولة لتجاوزه، فقالوا بأنّ "الشّعر العربيّ في قوالبه الموسيقيّة والتّعبيريّة قد أدّى دوره واستنفد طاقته وانتهى" أمّا الشّعر الحرّ" فهو تجديد منقوص لأنّ المحافظة على التّفعيلة هي ارتباط لا مناص منه بسجن الأوزان" (الطاهر الهمامي حركة الطليعة الأدبية ص ص 134- 138 دار سَحَر وكلية الآداب بمنوبة تونس بدون تاريخ)...

وبما أنّ كلّ طليعيّ سيصبح يوما ما كلاسيكيّا بمرور الزّمن فقد تراجع هؤلاء الطّلبة الثّوريّون عن قناعاتهم حين أصبحوا أكاديميّين وتضاءل أثر الأدب الطّليعيّ وعزفت الصّحفُ والمجلّات عن نشره وأزمة النّشر للكتب قائمة متمكّنة لندرة دور النّشر آنئذ، فانكفأ أصحابه وانفضّوا ولم يبق إلاّ يعسوبهم المرحوم الدّكتور طاهر الهمّامي يناضل فردا. وحاول أن يجد شيئا يجدّد به المسار فابتدع ما أسماه بالمنحى الواقعيّ في الأدب خلال انعقاد المؤتمر الأول للشّعر التونسيّ بالحمامات صائفة 1981...

في تلك الظّروف أيْ في منتصف السّبعينات بدأت قصيدة النّثر التونسية بالظّهور نتيجة للمراجعات العديدة في المستويين الإيديولوجيّ والجماليّ.

ففي المستوى الإيديولوجيّ لطّفت حرب 1973 ما تركته الحرب السّابقة من شعور بالخذلان وتغيّرت النّبرة القاتمة وتقاوى تيّار القوميّة العربيّة في طائفة من الشّعراء منهم د. حسين العوري...

وفي المستوى الجماليّ تبلورت ذائقة تستمد قناعاتها الفكريّة من غير المحليّ أو القوميّ. فإلى جانب الاستمرار في التّيّار المحافظ على نظام القصيد الحرّ بحكم وجود البيّاتي والسّيّاب ونازك الملائكة وعيرهم من أصحاب القصيد الحرّ في المقرّر الجامعيّ لطلبة الأستاذيّة (الباكلوريوس) في اللغة العربيّة فإنّه وُجد تيّار يكتب خارج هذه المنظومة الفكريّة القومية ويتوجّه بكتابته منزعا إنسانيّا، إنّه قصيد النّثر التي بدأت تتسرّب من أقلام الشّعراء في منتصف السّبعينات في معزل عن المؤثرات الشّرقية التي يُزعم أنّها كانت ذات أثر في نظيرتها التّونسيّة في مجال النّشأة على الأقلّ... فنحن نرى أنّ قصيدة النّثر التّونسية نشأت بمؤثرات محلّية صِرْف. فظهرت جماعة من المؤسّسين لم يجمعهم تنظيم ولم تربط بينهم آصرة، فكان كلّ منهم يكتب بمعزل، لكنّهم كانوا ولا شكّ يقرأ بعضهم بعضا... أذكر منهم على سبيل التّمثيل محمد أحمد القابسي الذي أصدر أعماله الكاملة فيما بعد بمصر وظهر مجموع "البحر في كأس" (1978) نمطا غير مألوف في الكتابة الشّعريّة التّونسيّة وتلاه "كتاب العناصر" ليؤكّد منحاه هذا إلى جانب جهوده التّنظيريّة التي كان ينثرها في الصّحافة الأدبيّة.

ومن المؤسّسين أيضا الشّاعر سوف عبيد الذي كان ينشر قصائده في الصّحافة الأدبيّة منذ منتصف السبّعينات ونشر مجموعه الأول "الأرض عطشى" سنة 1980 ويتميّز شعره بميزة غير ما اتّصف به شعر القابسي... فإذا كان القابسي ينزّل مسألة الغموض في إطار من أونطولوجية الشّاعر نفسه باعتباره "تركيبة معرفية ونفسيّة معقّدة" تتوجّه إلى قارئ يعوّل على التّأويل وعلى وسائله المعرفيّة الخاصّة ليصل إلى كُنه السّؤال الجماليّ المحمول على القصيد فإنّ سوف عبيد نظر إلى المسألة من زاوية أنّ القصيد النّثري الخالي من التّعقيد المتّسم بالسّلاسة البنيويّة القريب الرّمز هو الأرضيّة المعرفيّة التي تلتقي عليها ذات الشّاعر بغيرها من الذّوات وكلّ القرّاء أيّا كانت مشاربهم مدعوون إلى الحفل المعرفيّ، كلّ على قدر نصيبه في المعرفة..

ورقة أدبيّة يصدرها الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

 


الخميس، 17 فبراير 2022

كُهُوفُ الذّاكِرة، الشّاعرة: سعيد باش طبجي/ تونس

الشّاعرة: سعيد باش طبجي/ تونس

كُهُوفُ الذّاكِرة

خَبَّأتُ فِي خَاطِرِي إطلَالَةَ الشَّفَقِ

وقَوْسَ إشْرَاقَةٍ وَردِيَّةِ الألَقِ

وحُمْرَةً مِنْ أصِيل ذَائبٍ وَلَهًا

بِمَرجِ حُسْنٍ يَضُخُّ النُّورَ فِي حَدَقِي

بِالأمْسِ حِينَ شَبابِي كَانَ يَمْهُرُني

حِسًّا نَدِيًّا كَطِيبِ الجُودِ فِي الغَدَقِ

خَبَّأتُ فِي دَرَجِي أقْلَامَ أخْيِلَتِي

وخَمْرَ مِحبَرَةٍ رَيَّانَةَ النَّشَقِ

عَتَّقتُها فِي دِنَانِ الشَّوْقِ فَائِرَةً

نُورًا يُرَاقِصُ لَهْبَ النّارِ في وَمَقِ

أَحلَامَ ذَاكِرةٍ جَذْلَى بِجَذْوَتِها

عَذْرَاءَ ما اغْتَالَهَا لوْثٌ مِنَ النَّزقِ

طُفُولَةً غَضَّةً دَانَتْ لهَا قُطُفٌ

و الثَّغْرُ مُغْتَبِطٌ مِنْ لذّةِ النَّبَقِ

جَدِيلَةً مِنْ حَريرِ الطُّهْرِ أظْفِرُها

مَمْهُورَةً بِشَذَا الحِنَّاءِ وَ الحَبَقِ 

خُرافَةً كانَتْ الجَدَّاتُ تَنْسِجُها

مِنْ نَكْهةٍ السِّحرِ في الأسْحارِ والغَسَقِ

وَ وَردَةً منْ حَكَايا العِشْقِ عَابقةً

خَبّأتُ أشْذَاءَها فِي مُهْجةِ الوَرَقِ

وَمِنْ خُيُوطِ شُعَاعٍ  وَارِفٍ جَذِلٍ

وَمخْمَليِّ الهَوَى زَاهٍ ومُؤْتَلِقِ

خَبَّأتُ سِربَ فَرَاشٍ رَاقِصٍ ثَمِلٍ

قَدْ كانَ فِي مُقْلتِي يَخْتالُ فِي ألقِ

خَبَّأتُ لَيْلَكَةً... نَخْلًا ودَالِيَةً

حَبَّاتُها مِنْ حَبَابِ الشّهْدِ والعَلَقِ

سَنابِلًا  تُوّجَتْ بالتِّبْرِ هَامَتُها

حُبْلی بمَوْجةٍ خِصبٍ مِنْ جنَى الوَدَقِ

خَزَنْتُها في كُهُوفِ الرُّوحِ هَاجِعَةً

وكُنْتُ أُنْسِيتُها فِي زَحمَةِ الطُّرُقِ

واليَوْمَ حِينَ اَسْتَفَاقَ الشَّوْقُ في طَرَفِي

واخْتل نَبْضُ الرِّضَا و العَجْزِ في نَسَقِي

وابْيَضَّ زَهْرُ  قَذَالي في رُبَا عُمُرِي

وأعتَمَتْ مُقْلةُ الأيَّامِ فِي أُفُقٍي

هَيَّأْتُ فِي مُهْجَتِي حُلْمًا و أمْنِيَةً

كَيْ أُرجِعَ الزَّمَنَ المَطلِيَّ بِالعَبَقِ

وغَيْمةً مِنْ ندًى تَهْمِي عَلَى ظَمَأي

و تَغْسِلُ الجَدبَ و الإمْحالَ فِي حُرَقِي

كَيْ أسْتَعِيدَ الصِّبَا منْ بَعدِ جَفْوَتِهِ

وهَدأةَ النّوْمِ مِنْ دَوَّامةِ الأرَقِ

وقُلتُ : "يا ثَروَتِي هِلِّي علَى عَجَفِي

ومِنْ كُهُوفِ الوَنَى وَالعُقْمٍ فَانْبَثِقِي

هَيَّا نُكَفْكِفُ عَنْ رمْشِ المُنَى رَمَدًا

رَمَى بِشَوْقي عَلَى أُرجُوحَةِ القَلقِ"

نَادَیْتُ ذِكْرَى الصِّبَا من جُرفِ غَفْوَتهَا

رَجَوْتُها أنْ تَذُرَّ البُرءَ فِي مِزَقِي

فَتَحْتُ أدرَاجَهَا و القَلْبُ في وَجَلٍ

وجُسْتُ بَيْنَ ثَنايَاهَا عَلَى خَفَقِ

وَجَدتُ ذاكٍرةً حُبْلَى بِثَروَتهَا

مَخْزونَةَ الرّحْمِ فِي زَنْزانةِ النَّفَقِ

أسْرجْتُ فِیهَا فَتِیلَ الشَّوْقِ فالْتَهَمَتْ

نِیرَانُها جَذْوَتِي... واسْتَنزفَتْ عَرَقِي

رَشَقْتُ زَهْرةَ شَوْقِي فِي مَغَالِقِها

فَمَا اسْتَجابَتْ لطِيبِ العِشْقِ والعَبَقِ

شُلَّتْ مَفاتِيحُها و اجْتَاحَها صَدَأٌ

واغْتالَها خِنْجرُ النّسْيانِ بالرَّشَقِ

وغَرغَرَ الصّوْتُ في الأقْفَالِ يَخْنِقُني

والمَوْجُ يلْعَقُنِي فِي لُجَّةِ الغَرَقِ

هَذي مَفاتیحُ أسْرارِي وذَاکِرَتي

عَلَّقْتُها هَوَسًا عِقْدًا عَلَی عُنُقِي

تَعوِیذةً مِنْ نُفاثُ الرُّوحِ... تَحرُسُني

تحمٍي حنَينِي منَ الأوْصَابِ و الفَرَقِ

فِي الفَجْرِ أحضُنُها و الرُّوحُ قانِتَةٌ

و فِي الأصَاٸلِ أتْلُو  سُورَةَ الفَلَقِ

في هَدأَةِ اللَّيْلِ تَرشِينِي فَتُوهِمُني

أنْ سَوْف تَرفَعُ عنّي حمَّةَ الأرَقِ

وتَفْتَحُ الدَّرَجَ المَمْنُوعَ عَنْ أمَلِي

فيُزْهرُ الحُلْمُ في الشِّريَانِ والحَدَقِ 

ورَغْم أنِّي عَلَى أعتَابِ قَافِيَتي

يَجْتاحُنِي التّيهُ في أعتَامِ مُفْتَرَقِي

أقُولُ والرُّوحُ بالأشْواقِ مُتْخَمةٌ

ترُومُ إكْسيرَ بُرءٍ فيهِ مُنْعَتَقِي:

"سَأرفَعُ السُّجُفَ السَّوْداءَ عَنْ وَصَبي

وأنْفُضُ العَتْمَةَ الغَبْراءَ عنْ ألَقِي

"وأغْسِلُ اللّوْثَ عنْ مَرجِي و مُنْتَجَعِي

وأبْذُر الحُبَّ في  مُسْتَنْقعِ  الزَّلَقِ..

"وسَوْف أدعُو فُلُولَ العِشْقِ وَارِفةً

لَعَلَّ تَهْطِلُ بِالأنْدَاءِ و الغَدَقِ

"لأقْرِضَ الشِّعرَ ألْوَانًا وأنْسِجَةً

مَا دامَ في النَّبْضِ بَعضُ العِشْقِ وَالرَّمَقِ"

سعيدة باش طبجي/ تونس

فيفري 2022

لوح الأسرار، إسماعيل هموني/ المغرب

الشاعر: إسماعيل هموني/ المغرب
 

لوح الأسرار

أمدّ أصابعي إلى لوح فيه سرها؛ أفتح باب اللّون لأوقظ رمشها.

رمشها خلف أصابعي كحل يركض في ليل بهيم.

أصابعي ندى خدّها؛ تفحص شامة على خدّها.

كالوحي يضيء وجهها غفوات اللّيل في مدائن الوقت.

حول شفتيها فاوضت ألهة على حمرة الوقت في دمها.

خبأتني أسرار نهدها في جيوب فجرها.

هل رقص زبد البحر على مرٱتها؟

عند صعود أنفاس العطر؛ رأيت وقوفها بين النخيل؛ فصدقتها.

كانت تعبرني أناتها؛

لملمت بياضها في كفّ النون؛

وجئت دنان الشغف غميس عطرها.

صوت الليل صداها؛ في وقته الرغيد ممشاها؛

يا أيتها التي  رافقتني في معناها حتى شوت ليلي من هواها.

تركنا طفولتنا للفراشات ترعاها؛

وهذا الحلم يعبر ليلها؛ أسمعه؛ أدنو من خطاها؛

أسكنه وعيناه مداها.

لا أعرف الليل؛ ولكن أعرف أنثاه. أعرف غربتي في ليل أهواه.

ما دلني عليه سواها.

اسماعيل هموني/ المغرب

الاثنين، 14 فبراير 2022

قصيدة النّثر الجديدة، تحوّل حركة اللوغوس (من العالم إلى الذات)

قصيدة النّثر الجديدة: 

تحوّل حركة اللوغوس (من العالم إلى الذات)

ورقة أدبيّة يصدرها الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

ذكرنا زحزحة السّيطرة المطلقة للوغوس بفعل المراجعة الدّائبة للمفاهيم وبسبب أنّ العقل يسعى إلى إثبات حقائق يقينية لا تلبث أن يُطعن في وثوقيتها (أشير هنا على مختلف العلوم)...

فممّا وقعت مراجعته هو النظرة التّأمّليّة المجرّدة للوجود الإنساني وإحلال النّظرة الظاهراتية محلّها... يعني أنّ الإنسان لم يعد ماهية ماقبليّة تحقّق وجودها في العالم من خلال التّأمل والتّفكير، ولكنّه كائنٌ مفرغ من الماهية المُسبَقة، موجود في زمان ومكان في العالم، يختبره ويبني ماهيته فيه بناء على التجريب والممارسة... هذا المفهوم هو ما عُبّر عنه هيدوغير بالدّازاين في كتابه الشهير "الوجود والزمان ". وترجمه عبد الرحمن بدوي " بـ "الآنية وبـ "الوجود في العالم".

ببساطة، نلاحظ أن الكائن يوجد في العالم دون اشتراط التّفكير وهو مطالب حينئذ ببناء ماهيته فيه عن طريق اختباره وتأمّل تجاربه في محيطه، وهذا معنى النظرة الظاهراتية للوجود والتي ستنعكس في الشعر عن طريق تحويل محتواه من جهد نظري وانفعالي وجداني إلى جهد وصفي وحكائي... فحركة الفكر تتّجه إذن من العالم إلى الذات عكس ما كان عليه الكوجيتو الديكارتي... ولننظر تجليات هذا في قصيدة النثر ما بعد الحديثة التي جاءت تالية لما كتبه المؤسّسون ومن سار على خطاهم.
وفي يلي نموذج من هذه النصوص التي اتخذت من استكناه العالم موضوعا لها وهو للشاعرة أفراح الجبالي ...
كـنتُ خارجة مِن مَتجر البِـقـالة

تَـشبـث برجْـليّ

كِـدتُ أركُله.

وفكرتُ في القِدر على المـوْقد

والغسـَّـالة التي تـدُور

فكرتُ في الأطفـال وموْعد الحصة الصبـاحية

ويَـد شرطي المرور على النـاصيَـة

الغيُـوم التي تَـحدّثـوا عنهـا بَـعد نشـرة الثـامِنة وأنا أعِـدّ المـائدة

الجـوارب المـتسِّـخة التي لـمْ ألتقِـطها بعد. وفكرتُ في حـبْل الغسِيـل

هل وضعه البـائع في الكِيـس أيضا؟

فكرتُ في السيـارة التي حـان موْعد فحصِهـا

والفـارنْـدا التي تـدُور فيـها وُريْـقات الشجر اليـابسة

وكرسـيّ مكتبي، الذي في آخر المَمر. مثل كل يـوم. على مر السنِيـن

لمْ يَـنبح.

لمْ يَـعضّـني.

مُـؤلِـم أن أنظر في عيْـنيْـه

يـدُور ووَبَـرُه النـاعم لصِيــق بـلَحمي

وَضع قــائمتَيْـه الصغِيــرتيْن على فَـخذي

ثم بَـسط ذراعيْـه بالتراب.

حِيـن نظرتُ فـي عيْـنيْـه… رأيـتُ مـا يَـعنِيـه

ومـا سـيَظل يَـعنِيـه

أن يُلْمس...

في هذا النص المنتمي إلى الموجة الجديدة تبدو السردية هي المكون الأساسي للخطاب الشّعري بعيدا عن المجاز والرمز المبهم مفارقا لذلك الغموض الذي لازم قصيدة النثر في بداياتها حتى صار داخلا في حدها. (الناقد السعودي عبد الرحمن محمد القعود ألف كتابا عنوانه الإبهام في شعر الحداثة فصّل فيه مظاهر الإبهام بغياب الدلالة أو تشتّتها والإبهام في العلاقات اللّغوية...) فصار للنصّ في هذه الموجة الجديدة دلالة منسجمة وأضحت البنى اللغويّة كذلك. ويروي النصّ قصّة بلا عقدة ولا تطور درامي ولا صراع. والأهم من كل هذا أن حركة العقل هنا آتية من العالم باتجاه الذات فتكوّن لهذه الذات وعي بالعالم فوصفته وسردت مكوناته ونشأت بينها وبينه علاقات هي قوام وجودها فيه.

لقد تحدثنا ونحن نشرح آنية هيدوغير (الدازاين الذي أصبح بديلا عن الكوجيتو) البعدين المحايثين للكائن في الموجد وهما الزمان والمكان وعليهما قام مؤلف هيدوغير فالكائن موجود هنا والآن. وانطلاقا من هذين العنصرين (الزمان والمكان) والوعي الواضح بهما في النص نحت الكينونة في زمان ومكان محددين وجزئين تجسيدا للبعد الأمبريقي، ف"دكان البقالة والقدر على الموقد والغسالة والأطفال وشرطي المرور والغيوم والجوارب المتّسخة والسيارة والفيرندا وكرسي المكتب المتروك" تتضافر كلها مع عناصر الزمان (موعد الحصة الصباحية نشرة الثامنة موعد فحص السيارة...) لتنحت نظام يوم للكائن في موجده وقد اعترضه ما يمكن أن يربك هذا النظام.

ونشير إلى أن كلمة "فكّرت" لا تعني شيئا من التأمّل المحقّق للوجود كما هو الشأن في إطار الكوجيتو ولكنه عمل الذاكرة في استحضار مستلزمات الموجد وربط الصلة بينها وبين الزمن الذي ينبغي أن تكون فيه

ورقة أدبيّة يصدرها الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

 

الجمعة، 11 فبراير 2022

ركبت الهوى، حليمة بوعلاّق/ تونس

الشاعرة: حليمة بوعلاّق/ تونس

ركبت الهوى

ركبت الهوى ظنّيتْ بحره سْفينة

نلقاه برزخ للجفاء داعينا

****

نلقى الرّياحْ العاتيه تْشقْلِبْنا    بين الهوى والصدْ تعصفْ بِيّ

وحتّى الأمل في أحلامنا كذّبْنا   وأنا لْعشقْتِكْ بالصّفاء والنّيّة

رفعتِكْ شراعي للهناء يصوّبنا    نحسابْ نجمكْ للحنين ثنيّة

نحساب بحر أشواقنا يجلبنا   وأمواج ليل الشّوق تحكي عليّ

هبّتْ عواصف دمّرتْ مركبنا    ما بين جزر ومدْ عبثتْ بيّ

زاد الزّمن من علْقْمَه شرّبنا    ونا ماسكة عَلْجَمرْ بين يديّ

حتّى القمرْ من صحْبْته شطّبنا    وصارتْ أغاني حبّنا مرثيّة

وقت الصّلاة علْقِبْلْته غرّبْنا     علْودْ صمنا وللجفاء صلّينا

ناحتْ قصايد حبّنا وما كتبنا   ورجعتْ ليالي أشواقنا ترثينا.

حليمة بوعلاق/ تونس

شعر شعبي تونسي

قصيدة النّثر وحركة الكوجيتو، ورقة أدبيّة يصدرها الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

 
قصيدة النّثر وحركة الكوجيتو، ورقة أدبيّة يصدرها الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

هيمن الفكر على الحياة في أوروبا حتى قبل القرن العشرين (منذ القرن الثامن عشر) وصارت حتى الرّياضيات والفيزياء في حالتهما التّجريديّة مرفوضتين باعتبارهما عِلما ماقبليّا (أشير هنا إلى حلقة فيينا صاحبة الوضعيّة الجديدة في بداية القرن العشرين).

حيويّة الفكر الغربي حينئذ جعلته يراجع مفاهيمه بصفة منتظمة. فبعد مراجعة الميتافيزيا ورفض مقولاتها واعتبارها لا تعني شيئا يطاله المنطق لأنّها متكوّنة من عناصر غير حسّية صارت العقلانيّة المُفرطة هي الأخرى موضوع مراجعة من طرف نيتشه أوّلا ثمّ من طرف فلاسفة ما بعد الحداثة لوثوقيتها بالعقل الإنسانيّ وسعيها إلى تحصيل حقيقة ثابتة.

حركة الفكر في ظلّ هيمنة اللوغوس:

 -من الذّات إلى العالم:

هيمنة العقل على ذات الإنسان ومركزية هذه الذّات تتجلى بوضوح في الكوجيتو الدّيكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود" فالتّمظهر الأوّل للوجود هو حركة العقل بالتّفكير... أنا أفكر متأمّلا ذاتي وكاشفا لإمكاناتها لأكتشف أنّي موجود في العالم... فحركة اللوقوس متّجهة من الذّات إلى العالم والخطاب الشّعريّ الذي نحن بصدده معبّر بوضوح عن هذه الحركة.

انظر مثلا هذا المقطع الصّغير من "التّراب الذي فوقه سماء" للشّاعر التّونسي شمس الدّين العوني:

ما علّتك الفادحة؟

أراك الآن تخرج من عينيك لترى اللّاشيء...

ما علتّك الفادحة إذن؟

سوادٌ يحرسه سواد

والفراغ أثاثه فراغ.

فحركة الفكر جليّة، منطلقة من الذّات المتمثّلة معجميّا في ضمير الخطاب (ويمكن أن يكون للتّكلم أو الغياب لا فرق)، وفكريّا في الاستفهام عن العلّة... ممّا هو داخل في صلب العمل التّأمّليّ spéculation/ ، والعلّة لها في المعاجم معنيان: المرض، وحتى هذا المعنى يُعيده التّهانوي إلى المعنى الذي سنذكره عن حكماء الإغريق، والثّاني عّلة الشّيء أيْ ما يتوقّف عليه وجوده ويكون خارجا عنه ومؤثّرا فيه.

ووظيفة العقل في الشّاهد هي الكشف عن الوجود واستكناهه وفهمه، وهو الوظيفة الأساسيّة للفلسفة في مداها الكلاسيكي: إدراك وضعيّة الإنسان في الكون...

بيد أنّ المنحى الشّعريّ للخطاب يحمّله بالطّابع المأساويّ كما هو الشّأن في بدايات عمل التّفلسف حيث كانت التّراجيديا هي الفعل النّبيل للعقل في مجابهة القوى الغيبيّة وحيث يجانِبُ الشّعرُ الفلسفة دون الانفصال عنها... فتصاب حركة العقل بالعَمَهِ Cécité ولا تصيب الإدراكَ المنشود وهو ما يولّد النفَس المأساويّ.

والمجال لا يسمح لنا باستعراض مزيد من الشّواهد وتحليلها. وما أردناه هو بيان نموذج من قصيدة النّثر المنتسبة في أبعادها الأونطولوجية إلى نموذج التّفكير الدّيكارتي: الانطلاق من الذّات العاقلة المتمركزة حول اللوغوس باتّجاه العالم لاستكشافه وإقرار وجودها فيه وتحديد كيفية هذا الوجود وصنعه. هذا النّمط من الكتابة أدعوه "قصيدة النّثر الكلاسيكيّة" رغم أنّها تاريخيّا تأتي في سياق تيّار الحداثة.

(في الورقة القادمة: تحوّل حركة اللوقوس من العالم إلى الذّات).

ورقة من إعداد الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين