‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد أدبي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد أدبي. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 13 يونيو 2023

"وقائع حارة الزعفراني" لجمال الغيطاني رواية الحدث الواحد رغم الإيهام بالتعدّد،،، مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس
 

"وقائع حارة الزعفراني" لجمال الغيطاني

رواية الحدث الواحد رغم الإيهام بالتعدّد

إنّ الكتابات الروائية الحديثة النازعة إلى التحضّر، كتابات مغامِرة تنحو منحى التعدّد، وفي نهجها ذاك تقطع مع المعتاد في الكتابة الروائية مبنى ومعنى وبصفة خاصة على مستوى البنية المشكّلة للرواية وأعني بها بنية السرد خصوصا.

يُعَدّ الإيهام بالتعدد من الخصائص الأسلوبية المميزة في الرواية العربية الحديثة، ويعني إيصال المؤلف لمعانٍ متعددة للكلمات والجمل بمعنى واحد. ويتم ذلك عن طريق استخدام تقنية اللفظ بالمعنى المجازي، أو تشكيل الجمل بطريقة ملتبسة أو غامضة تفتح المجال لتفسيرات مختلفة.

ويتمثل الإيهام بالتعدد في الرواية العربية الحديثة في استخدام الأساليب اللغوية والأدبية المختلفة مثل التشبيه والاستعارة والمجاز والاستدراك، وغيرها من الأساليب التي تساعد على تحقيق هذا الغرض. ويهدف الإيهام بالتعدد إلى إثراء المعنى وتعميقه، وترك الباب مفتوحاً لتفسيرات متعددة، ما يجعل القارئ يتفاعل مع النص ويستمتع بالتأمل والتفكير في معانيه المختلفة. غير أنّ هذه الروايات المتجاوزة للمألوف في مختلف أنساقها نجدها – بعد قراءة متأنية – تقتضي دقّة في النظر، فهي توهم المتلقّي – من خلال قراءته الأولى- بالتعدّد في جل منعطفاتها ومواطن تأسيسها. لكنّ الثّلَجَ في أمرها هو وحدة الواحد المختفي وراء المتعدّد المختلف، وفي صلب هذا التوجّه الروائي تُطالعنا رواية "وقائع حارة الزعفراني" للروائي المصري جمال الغيطاني المنتمي إلى تيار التجريبيين في عالم الرواية. وقد كتب الرواية المذكورة في بداية السبعينات (1973) مصوّرا فيها موقفه من العالم عموما والعالم العربي خصوصا والعالم الأدبي بصفة أخصّ، فكانت رواية الواحد المسكون بالتعدّد.

فكيف تبدو رواية «وقائع حارة الزعفراني» لجمال الغيطاني، رواية الحدث الواحد الموهم بالتعدّد؟ بصيغة أخرى، أين تتجلّى الفرادة الموهمة بنقيضها في الرواية المذكورة؟

أُلّفت الرواية عام 1973 أي في مرحلة ما بعد الناصريّة مباشرة، تلك المرحلة التي شهدت هزّات سياسية واجتماعية عنيفة أفضت إلى تفكك المجتمع العربي والأفراد وانعكست على مختلف البنى فأفضت إلى نثرية العلاقات الاجتماعية.

    ولئن بدت الرواية خارجة عن سياقها التاريخي والمجتمعي فإنّ الروائي حريص على جعلها شاهدا على تلك الأوضاع أو تلك المرحلة الزمنية المخصوصة لا سيما وأنّ الغيطاني صرّح باهتمامه "المبكّر، منذ فترة بعيدة، بالتاريخ"، فهو يعود إلى التاريخ ويعتمده من مراجع الكتابة الروائية ليحوّله إلى دلالة رامزة فيما يكتبه، فهو لا يستنسخ الحادثة التاريخية وإنما يُحييها لتتضمّن الواقع المعيش الراهن.

     وللحديث عن مظاهر الفرادة الموهمة بالتعدد في " وقائع حارة الزعفراني" لا بدّ من التساؤل عن بنية الرواية المذكورة؟ ونستهل الإجابة عن هذا السؤال بالنظر في العناوين أوّلا لأنها تساعدنا على تمثّل نسيج الرواية العام. فالعنوان الرئيسي "وقائع حارة الزعفراني"؛ نحن إزاء ثلاث معطيات: "وقائع" – "حارة" – "الزعفراني". فلِمَ هذه المعطيات بالذات دون سواها من المرادفات؟ وما هي دلالاتها وأبعادها؟ بصيغة أخرى: لِمَ لَمْ يقل بدل "وقائع" أحداث أو أخبار؟ ثمّ هل إنّ الحارة تمثّل المكان في هذه الرواية الذي يستقطب الشخصيات والأحداث ويسِم خصوصية البناء الروائي؟ و "الزعفراني" هل هو مكان محدّد في القاهرة أم هو من نسيج المتخيّل الروائي؟

      لو نظرنا في التعريف اللغوي لكلمة "الوقائع" نجدها لا تخرج عن حيّز المصائب والحروب، وقد عرّفها ابن منظور في "لسان العرب" حيث تناول الجذر الثلاثي للكلمة "وَقَعَ" ومنها الواقعة التي عرّفها بالداهية أو النازلة وهي كذلك القيامة واستدلّ بالقرآن «إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة»، ومنها " الوقيعةُ والوَقْعَة’: الحرب والقتال وقيل المعركة، الجمع: وقائع. ووقائع العرب: أيام حروبهم"². أمّا "حارة الزعفراني" فهو تركيب إضافي يُعرّفُ فيه المضاف عن طريق المضاف إليه، أي تُعرّفُ الحارة بالزعفراني.

ويختزل لفظ "حارة" دلالات مختلفة:

*دلالة المكان: وما فيه من تفاصيل الحياة اليومية.

*دلالة المجتمع: فالحارة حيّ، مجمع سكنيّ، تساكُن ٌ وتجاورٌ: مجموع صلات بشرية.

*دلالة التاريخ: فالحارة تركيب معماري يجسّم تاريخا قديما أو حادثا.

*دلالة الوجود: وذلك في مواصلة الحياة عن طريق توارث الأبناء الحياة عن الآباء.

إضافة إلى هذه الدلالات نجد علامات كثيرة في النص تؤكّد أنّ "حارة الزعفراني" كائنة في القاهرة.

    أما العناوين الفرعية فتمثل نسيج الرواية عامة، والرواية ملفات، والملف يحيل على عديد السياقات. إذ نجد مثلا ملفا إداريا وآخر صحافيا، ومثل هذه الملفات لا تهمنا بقدر ما يهمنا الملف البوليسي، إذ كلمة ملف كما وضعها جمال الغيطاني تعني في مستوى أوّل ما يحيل على دلالة الملف البوليسي ويظهر ذلك في الترقيم وفي التفصيل أحيانا وفي الإيجاز أخرى والتجميع أيضا (تجميع الأخبار). وهي ملفات أربعة يبدأ أولها بتعريف الشخصيات الأساسية في حارة الزعفراني و "معلومات مستقاة عنها من مصادر شديدة العلم بما يجري في الحارة"² أما الملف الثاني فهو ينطلق من الأحداث -على عكس الملف الأوّل الذي انطلق من الأسماء- وكذلك الملف الثالث والرابع وكلاهما مواصلة للملف الثاني، أي مواصلة للأحداث التي جرت يوم الجمعة وأيام تالية لذلك اليوم³ وتضم هذه الملفات بعض المشاجرات و الأحداث التي وقعت في الزعفراني و خاصة في الملف الرابع وهو ملحق للملف الثالث إذ فيه ما يدل على الوقائع من مشاجرات عديدة أغلبها مشاجرات نساء لانتشار المرض (العُنّة) و اختلال التوازن النفسي.

        وحريّ بنا في هذا المبحث أن نعود إلى الإجابة عن السؤال المركزي حول مظاهر الفرادة الموهمة بالتعدد، فالرواية واحدة والحال أنّ عنوانها يحمل في ذاته التعدّد (وقائع)، كما أنّ الرواية حاملة للغز واحد أو ما يشبه اللغز على حين تتجمّع حوله وحدات سردية عديدة، أي في الرواية وضع إشكالي واحد وهو الحدث الأساسي: العنّة بينما المظاهر الدالة عليه متعددة. إنّ نظام السرد في الرواية نقطة واحدة غير أنها تتكاثر حدثيّا لتظلّ مشدودة إلى موقع واحد الذي هو موقع حابس وحبيس معا. فالرواية توهم بالانفتاح صوب زمن مستقبلي إلاّ أنها لا تخترق حدود ذاتها، وكذلك السرد يبدو مفكّكا في الاتجاهين: ما قبل السرد وما بعده بينما هو رهين لحظة واحدة هي الآن. أمّا الزمن في الرواية فيختصر الماضي وينفي المستقبل في الظاهر ويؤدي إلى مستقبل مجرّد لا وجود فيه للحركة ولتمثّل الأشياء والتفاصيل، إذ يوهم بانفتاح الأفق ولا أفق. كما نلاحظ أنّ بنية الأحداث في الرواية تمثّل انغلاقا داخل اللحظة المترسّبة على حين أومأ السارد إلى أزمنة متلاحقة، ولا ننسى التتابع الموحي بالتعدّد ويتجلّى في تعاقب الأحداث الفرعية (1949 – 1954 – 1964) في مدار الحدث الواحد المركزي (العُنّة)، هذا التتابع نجده في ملف خاص "الثورة". كما أنّ النصّ يرد في تقارير والحال أنّ الكاتب واحد، والموضوع لا يخرج عن حيّز حارة الزعفراني، والزمن يبقى الماضي. هذا وإنّ تقنيات الرجوع إلى الماضي عديدة بيد أنّ هذه الوحدات الاستطرادية لا يمكن قراءتها خارج نمط التطوّر العام. ويُلاحظُ أنّ العناوين كثيرة على امتداد النص ولكن كلها تتصل بحدث واحد: العنّة، وكذلك الأساليب: تضخيم الحرف كتابيّا، استخدام الترقيم (3،2،1....) أو الترتيب الأبجدي (أ، ب، ج..) أو التنقيط، كل هذا التنوّع والحدث واحد. ولعلّ التعدّد الجدير بالذكر في هذه الرواية هو تعدّد الأجناس الأدبية داخل هذا الأثر الواحد، حيث نجد القصّة والنادرة والحدث اليومي والمذكرات والشعر، وهذا التعدّد في تركيب الخطاب الروائي يعني التداخل بين نصوص مختلفة ضمن بناء واحد.

        إنّ "وقائع حارة الزعفراني" رواية الانحباس داخل الحدث الواحد وهي وإن تضمّنت عديد التفاصيل والأحداث الجزئية لم تقدر على تجاوز ذاتها بفكّ الطوق الذي لازمها طيلة مسار السرد، هي رواية التوتّر ممثّلا في تكاثر الأحداث داخل موقع واحد.

إنّ الرواية وإن حملت أزمة مجتمع وفاجعة تاريخ فإنها تخطّط لكتابة جديدة يظهر ذلك في مستوى التشكيل الفنّي، وهي وإن بدت لنا رواية الهزيمة والانحباس داخل الموقع الواحد والوضعية الجامدة فإنها تحمل تاريخا ممكنا ومجتمعا بديلا، فرمّانة الساسي لم يُهلك تماما، وتمرّد المجموعة ممكن، والاعتقاد في الشيخ قد يضمحلّ، والنقيض يولد نقيضه. ذلك هو الحلم وإن غيّب وراء ضخامة الفاجعة فإنّه الاستحالة الممكنة في تاريخ مستقبلي.

مختار الماجري/ تونس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  الهوامش

  1- لسان العرب - ابن منظور - ج 8 - الصفحة 403

2- وقائع حارة الزعفراني، الطبعة الثانية، مايو 1985 مطبعة مدبولي ص 6

3- المصدر السابق ص 57

الأحد، 29 يناير 2023

قراءة عابرة في بعض كتابات فوزي الديماسي بقلم الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

الأستاد: مختار الماجري/ تونس
 

قراءة عابرة في بعض كتابات فوزي الديماسي

بقلم الأستاذ: مختار الماجري

فوزي الديماسي "رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه" بتعبير بديع الزمان الهمذاني، فحين تقرأ كتاباته السرديّة تخال نفسك في حضرة الشعر، فسرديّات الرجل مضمّخة بمزيج من النّثر الشّعريّ، وحين تحاول استيعاب هذا المزيج تجد نفسك حيال شذرات فلسفيّة كامنة في ذات الكاتب تصبو إلى الخروج نثرا أو شعرا.

    هو سبيل ارتآه فوزي الديماسي ليرسم من خلاله -عبر لغة تجمع بين العامي والفصيح- نهجا في الكتابة التجريبيّة يلبّي غاية كامنة فيه تنمّ عن اعتراف بفضل مدينة هي بالنسبة إليه "الولاّدة والوسّادة" في الآن ذاته. فانبرى يسجّل كلّ كبيرة وصغيرة مرّت بذاكرته في رحاب مدينة قصر هلال. تلك المدينة الموطن، المدينة الأمّ بما تحمله من ذكريات وعادات وتقاليد وحياة نابضة بالخصوصيّة والتفرّد تنبئ عن اعتزاز الكاتب بانتمائه لهذا الموطن العزيز، فيبدو مأخوذا بتفاصيله وجزئيّاته غارقا في عشقه حدّ النخاع.

    يحاول فوزي الديماسي أن يرسم طريقا يبدو فيه مختلفا عن الكتابات المعهودة، فكتاباته لا تنتمي بشكل واضح إلى السيرة الذاتيّة وإن أوهمتنا بذلك، ولا هي إلى الكتابة الواقعيّة الصّرفة، فكاتبنا يضيف من الخيال الشّيء الكثير على ما يكتب، فيزاوج بين الخياليّ والواقعيّ ليتحرّر من إسار الواقعيّة ويتمرّد على تهويمات الخيال. ولعلّ وسم البعض من كتبه بعنوان يحمل اسم المدينة "قصر هلال" لخير دليل على العلاقة الحميميّة بينهما، فأحدها: " قصر هلال، ذاكرة طفولة... طفولة ذاكرة"، وثانيها "قصر هلال... سيرة مكان". وثالثها "قصر هلال... من هنا عبروا".

فــــــــــ "قصر هلال، ذاكرة طفولة... طفولة ذاكرة" كتابٌ بُني في ثلاثة فصول تتّصل جميعها بنهج الجمهوريّة؛     

1-    من أيام نهج الجمهورية،

2- ما بعد نهج الجمهورية،

3- نهج الجمهورية أكبر ممّا كنت أتصوّر طفلا.

  إنّ الاهتمام بالمكان واضح من خلال عناوين الفصول إلاّ أنّ هذا المكان لم يكتسب أهمّيّته لو لم تكن له علاقة متينة وروابط حميمة بمن سكنوه من جهة وبذكريات الكاتب من جهة أخرى. فالكتاب ضرب من السّيرة والتّوثيق فيهما احتفاء ملحوظ بالتّفاصيل المتنوّعة زمن طفولة الكاتب، وبذلك حمى الكاتب كمّا هائلا من الأخبار والأحداث والذّكريات من الاندثار عبر معطيات توثيقيّة تكون أحيانا مؤرّخة بأزمنة ومواقيت دقيقة كما جاء في مقدّمة الكتاب: "سنة 1995، وتحديدا يوم الأربعاء 1 نوفمبر تاريخ وفاة والدتي سعاد صالح رحمها الله..."1، إلاّ أنّ هذه الدقّة التأريخيّة  كانت إشارة من الكاتب إلى سبب دخوله عالم الكتابة من جهة و إلى  أهمّية الحدث من جهة أخرى، لأّنّها ليست غاية الكاتب الأولى  ولذلك لم تتواصل في كتاباته واقتصر الكاتب على التّسجيل المفصّل دون تواريخ دقيقة لإيمانه بتوجّهه الأدبيّ لا التاريخيّ أو التّوثيقيّ بما في الكلمة من معنى، بل نجد فوزي الديماسي نفسه يستبعد -تواضعا منه- أن يكون مؤرّخا أو موثّقا، و إنّما يرجع ذلك إلى ضرب من النوستالجيا  أو الحنين إلى ماض يرى فيه صورة طفولته السّعيدة فيعيش على وقع ذكراها من جهة ومن جهة أخرى اعتراف منه بفضل هذه المدينة "قصر هلال" عليه، حين احتضنته صغيرا  وعلّمته من تقاليد حياتها الشّيء الكثير. يقول كاتبنا: "إنّ كتاباتي في هذا المنجز ليست بالتوثيقية، أو التأريخيّة، وأنَّى لي بلوغ درجات المؤرّخين وأهل الذّكر في السيوسيولوجيا والأنتروبولوجيا ، و إنّما هي إطلالة يغلب عليها طابع الحنين، ومشاعر النوستالجي..."2 

بل لعلّ الكاتب أدرك الغاية الأساسيّة من هذه الكتابة وهي الاعتراف بجميل المدينة، يقول: "ثمّ إنّ كتابتي هذه ما هي بالكتابة المجانيّة، أو من باب البكاء على الأطلال. وإنّما هي لمسة وفاء لأرض طيّبة عشنا على أديمها حياتنا بحلوها ومرّها، وتقلّبنا بين أحضانها.." 3.

أمّا "قصر هلال... سيرة مكان" فهو كتاب قامت بنيته على فصلين يُختمُ كلّ منهما بهامش مطوّل يشرح فيه الكاتب كمّا هائلا من معاني المصطلحات العاميّة الّتي تمّ توظيفها. ويرسم صاحبه مشاهد واقعيّة وصفا دقيقا تستحيل المشاهد فيه إلى لوحات فنّية تتحرّك أبطالها   أمام أعين القرّاء دارت أحداثها في مدينة قصر هلال، فالكاتب اختار عمدا التّكثيف من استعمال المحلّي اللّهجوي للإبقاء على طبيعة الموضوع وغاياته البعيدة وفاءً لمنهج يتناغم فيه المبنى مع المعنى فيشكّلان معا صورة واضحة لنوستالجيا مفقودة تستأنس بها الذّات عبر الذاكرة.

  أمّا " قصر هلال... من هنا عبروا" فهو مازال قيد الطباعة و إن لم يختلف عن سابقيه من حيث الاحتفاء بتسجيل الوقائع المتّصلة بقصر هلال والسّاحل عموما، وذكر أهمّ الشخصيّات الّتي مرّت بذاكرة الكاتب، فإنّه يختلف من حيث تناول القضايا وبعض المسائل، وقد مكّنني صاحبه مشكورا من الفصل الأوّل قبل طباعة الكتاب، وقد تكون لنا وقفة أكثر دقّة مع بعض مؤلّفاته الأخرى وهي عديدة.

         يحاول فوزي الديماسي أن يرسم طريقا يبدو فيه مختلفا عن الكتابات المعهودة، فكتاباته لا تنتمي بشكل واضح إلى السّيرة الذّاتيّة وإن أوهمتنا بذلك، ولا هي إلى الكتابة الواقعيّة الصرفة، فكاتبنا يضيف من الخيال الشّيء الكثير على ما يكتب، فيزاوج بين الخياليّ والواقعيّ ليتحرّر من إسار الواقعيّة ويتمرّد على تهويمات الخيال. كما نراه يؤلّف بين جملة من الثنائيّات المتضادّة: العامّي والفصيح/ السّرديّ والشعريّ/ الواقعيّ والخياليّ... بحثا عن سبل تجريبيّة في الكتابة لم تُطرق بعد.

مختار الماجري/ تونس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الهوامش:

1- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص9.

2- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص10.

3- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص11.

 

الخميس، 19 يناير 2023

هل الموت قنطرة عبور؟؟ سونيا الفرجاني/ تونس

 

لوحة غلاف رواية المائت للفنّان  طارق السويسي

يكتفي الكاتب أحيانا برأي قارئ عالم.. أو شاعر يستشعر وهج الكتابة ويكتب رجْعَ صدى النصّ الذي أضاءه أو أحرقه.. ضوء بضوء.. وحرقة بحرقة.. ولا أعتقد أنّ كاتبا حقيقيّا يرنو إلى أبعد من ذلك..


نصّ كالذي كتبتْه الشّاعرة الصّديقة عن كتابيْن شقيقين، يملأني الآن بالامتنان والرّضا.. ولن أقول شكرا... إنّما الشّكر لغة يتملّق بها غريبٌ غريبا.. ولكنّي أقول: أيّتها الشّقيقةُ.. كم أحببتُ هذا النصّ وكم أبهجَ روحي، أو أوجعها، لا أدري
..

                                                                لطفي الشّابّي

هل الموت قنطرة عبور؟؟

سونيا الفرجاني/ تونس

أسلوب هذه الرّواية باذخ الصّفاء.. من يدخل عوالمها كمن يشرب في كأس كريستال ويخاف أن ينتهي المشروب ويقع الكأس الفاخر.

جلست وحدي بعد انتهائي من الكتاب الأول "المائت"، كان لابدّ أن أجلس وحدي.

رسمت حائطا،

لا أعرف لماذا فعلت هذا ولماذا كان الجدار سميكا بحيث كنت أضغط على القلم مرّات متتالية ليصير داكنا وأكثر كثافة. قلّما رسمت، فأنا لا أجيد هذا الفنّ العسير ولا أحسن استعمال أدواته الرقيقة.

الريشة لا تتحرّك بخفّة بين أناملي ولا قلم الرصاص.

خلال أيّام قليلة، لم تتجاوز الأربعة، أنهيت العيش مع الكتاب الثاني، لم أجلس، وقفت أمام النافذة المطلّة على"عشّ" النخيل كما نسمّيه هنا، أمام النافذة أم خلفها لا أعرف كيف أحدّد الاتجاه حسب زاويتي أو زاوية الخارج.

لكنّي وقفت طويلا وبكيت بصوت خافت.

هل كان ذلك مؤازرة للموت أم غضبا منه؟ أم نقمة على صاحب صناعته في هاتين الروايتين؟

كتبت للطفي الشابي: أيّها المتوحّش، لماذا قتلتها؟

لماااذا؟؟

وماذا كنت تريد؟

سأقتلك يا لطفي الشّابي في رواية سأكتبها بعد سنّ السبعين.

روايتك أثقلت مفاصلي وكسرت عظامي، قويّة البناء ومتينة الأعمدة.

أيّها الشيطان أنت أيّها الرّوائيّ،

لماذا قلت إنّ المرأة شيطان؟

هل بكيت حين انتهيت؟

أنت متوحش في الكتابة، وفي تقمّص الدور.

فاتن هي أنا في هذا العالم،

روايتك ذبحتني من وريدي إلى وريد أمي.

أنا أتخبّط الآن تحت قدمي روايتك، أراها واقفة في الغرفة بيدين وساقين، روايتك صارت عملاقا في الغرفة، عملاق يتربّص بي.

كأنّك جمعت صراخا فظيعا لا تتحمّله آذان الآلهات.

جمّعته في صدر العملاق،

عملاق بيدين وساقين، ويلي من صراخها الذي قطع آذان الآلهات.

اتّصلت بمنيا فوجدتها تكابد حالة تشبهني الآن.

إنّي أرتعد تحت الشجرة الكبيرة في نصّ "المائت".

بين "لن نعبر الجسر معا" و"المائت" كنت أحمل البئر وأحلم بالحديقة على قول زاهر الغافري.

روايتان مهمتان للطفي الشابي تكتظّان بالموت رغم اختلاف النهاية وارتجاف السير بين ضفّتي أنين.

لن أقيّم العملين كما يمكن أن يفعل ناقد أو دارس أدب أو باحث أكاديميّ، سأتحرّك في مناخات الفقد والفقدان وتشابه تدجين الموت داخل نصّين كثيفين يشبهان النهايات المليئة بالبالونات وأصوات الشماريخ.

هل الموت قنطرة ضرورية للعبور؟

حفلة للأصوات أم حفنة للأموات توزّع على مهل؟

هل الموت في كتابات لطفي الشابي الروائي التونسي، موت عربي؟

هل هو تحيّل الإنسان على حيلة الأزمنة المتراصّة المتشابهة المتشابكة؟

بين الحياة التي تبدو هادئة والموت الضروري الذي يبدو طبيعيا، كان حاجز خفيف، خفيف بدرجة تنافس فيه الكاتب مع اللغة في مبارزة رشيقة صوّرت لنا صراعه المرير معها وصولا إلى الموت المشتهى أو المبتغى أو الموت العبور.

هل كان لطفي الشابي الشاعر يشيّد الموت في كتابيه الروائيين؟ أم ينشده لطقوس بشرية أزلية تعدّدت فيها الميتات وانتهت إلى موت مشتبه؟ أم هو يبني أعمدة الخيانة ليقصفها بأغمدة الموت؟؟

حين بدأت الدخول إلى معالم "المائت" و"لن نعبر الجسر معا"، كنت خائفة، وحملت في يدي عصا غليظة كان اشتراها زوجي ذات صباح من سوق تقليدية، فقط ليزيّن بها مدخل البيت.

تتبّعت حركات الأبطال والبطلات بحيرة وحذر، والعصا في يدي،

هل يتسلّل الابطال للبيت؟

رجال الروايتين مصابون بالّطفح ونساؤها مصابات بالصّفح.

لن أضربهم، لكني سأحذر من لطفي الشّابي،

لن أضرم فيهم النار، لكن الكاتب أضرمها داخلي.

يخطو الكاتب على جسور كثيرة كأنّه خبر قسنطينة، وتعلّق بمقاسات العلوّ والانخفاض فيها فصار خفيفا.

سار على حباله بخفّة وحذر وكتب السقوط والموت بهدوء وحنكة، كتب حياة جميلة طالها الإخفاق وأسقطتها الأنفاق وغطّتها أصناف من أدخنة الاحتراق.

كلّ شيء كان يحترق، حتّى القارئ الخائف.

هل تلك هي الحياة الكبيرة التي نتخفّى فيها ونخفيها ونخافها؟

يكتب لطفي الشّابي الموت المعلن والمبطّن والمؤجّل، بشغف التقصّي وحنكة التصوير الدقيق، كمن يجوب مقبرة الأحياء ليصنع لهم فيها مكننة الموت المتسلسلة، إنّه موت تصنعه الرأس مالية أو يصنعه العمل المتسلسل في مصنع عصريّ. من أجل إفراغ الحياة من زيفها وصبّها في زيف العالم.

لعلّ السالبيْن يتحوّلان موجبا.

هل الموت موجب أم سالب؟

لا أعرف لماذا أكتب هذه الفوضى عن المائت ولن نعبر الجسر معا، لماذا كلّ هذه الحركة المطبقة داخلي؟

كتابان عابران لغابات الروح، متقمّصان دورا تونسيا ملفوفا بالثورة منتوفا من شجرة الإنسان العملاقة.

يبحث الكاتب عن وجوهه كمن يبحث عن قطّ صغير في حقل قمح طويل، كأنّه يصنع مزمارا في كلّ حواراته الباطنية والصاخبة، قال الشاعر الفرنسي كريستيان بوبان في نص ترجمه الشاعر الجزائري أحمد عبد الكريم: "الشاعر يحدث بعض الثقوب في عظم اللغة ليصنع نايا "

هل فعل بنا لطفي الشابي كل هذا في عظم اللغة وفي عظامنا كقرّاء يرتعدون من صوت المزامير؟

ليس لطفي الشابي كاتبا رحيما، لم يكن يبكي حين أحدث كلّ ذلك الموت

هل بكى حين قتلهم؟

لماذا قتلتهم أيها الروائي؟

ألأنك مصرّ أن تعبر الجسر وحدك وأنت مائت؟؟؟

سونيا الفرجاني/ تونس

الخميس، 28 يوليو 2022

مفهوم الحياة عند ميخائيل نعيمة في كتابه "من وحي المسيح" فصل "يسوع والسامريّة" نموذجا،،، مختار الماجري: تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس
 

مفهوم الحياة عند ميخائيل نعيمة في كتابه "من وحي المسيح"¹

فصل "يسوع والسامريّة"² نموذجا

بقلم: مختار الماجري/ تونس

             يختلف مفهوم الحياة من مفكّر إلى آخر انطلاقا من زاوية النظر التي يطلّ منها كلّ ناقد أو أديب أو عالم، فها هو نعيمة يعاطينا الحديث عن معنى الحياة من داخل كتابه "من وحي المسيح" وتحديدا من خلال فصل "يسوع والسامريّة" الّذي يقع بين الصفحتين 161 و171 من الكتاب المذكور، وإذا أردنا أكثر دقّة نقول يقع بين الفصلين "السبت والإنسان" و "يسوع والإيمان". وفي هذا النصّ يشير نعيمة إلى حديث يسوع إلى فرقة السامريّة³ لتلقينها تعاليم عديدة، ويتّخذ الكاتب من هذا الحديث منطلقا لتوضيح مسائل تبدو مهمّة في المعتقد المسيحي كمسألة "الخلاص". وهذه الأخيرة تُعدَّ أرضيّة انطلاق خصبة بالنسبة إلى نعيمة توصله حتما إلى ضالّته المنشودة الّتي شغلت باله طويلا وهي "مفهوم الحياة"، وعبر التدرّج المنطقي وجد في حديث المسيح عن "ماء الحياة" ما من شأنه أن يطفئ ظمأه ويوصله إلى شاطئ السلام. ومن "ماء الحياة" ينتقل إلى "شجرة الحياة" ثمّ إلى إشكالية " المعرفة"، ومن هنا يقرّ كاتبنا بأنّ الخلاصَ رهين المعرفة. فما المقصود بالخلاص؟ وكيف تبدو المعرفة سبيلا إلى الخلاص؟ وأيّ نوع من المعرفة يقصد المؤلّف؟

      لئن كان مطمح الكاتب في هذا النصّ الوصول إلى ملامسة الهدف الرئيس والغاية القصوى ونقصد "مفهوم الحياة" فإنّه مرّ بمسائل أخرى يُفضي بعضها إلى بعض تُعتَبَرُ مُمهّدةً للمسألة الأمّ. وبفضل هذه المسائل ينقسم النصّ إلى أربع وحدات معنويّة تتّصل كلّها بـ "الحياة". وسوف نعمد إلى عدم رسم الحدود الشكلية لكلّ وحدة إيمانا منّا بأنّ التحديد الشكلي ليس سوى عمل إجرائي لا غير، فالخطاب والخبر كلّ لا يتجزّأ – حسب تودوروف - إذ لا يمكن الفصل بينهما. إضافة إلى إمكانية الوقوع في التكرار المعنوي لفكرة قد تُعاد في أكثر من وحدة معنوية. فما محتوى الوحدات المذكورة؟

       تتناول الوحدة الأولى الحديث عن ماء" الحياة الأبدية" ونوعيّته، أمّا الوحدة الثانية – التي تُعتبر همزة وصل بين الوحدة الأولى والثالثة - فموضوعها حول الخطيئة الأولى للإنسان لمّا أكل من الشجرة المحرّمة. ويوضّح لنا الكاتب مفهوم تلك الشجرة ثمّ ينتقل بنا إلى الوحدة الثالثة للتعريف بشجرة ثانية تفوق الأولى من حيث الأهميّة وهي "شجرة الحياة"، ويقرن المؤلف هذه الشجرة بمسألة "المعرفة". وأمّا الوحدة الرابعة فقد اشتملت على كلّ ما ورد في الوحدات السابقة من معان ومفاهيم لتصيغ مفهوما لمعنى الحياة".

      استُهلّ هذا النصُّ بمقولة كان المسيح قد وجّهها إلى فرقة السامريّة لتلقينهم أشياء يجهلونها، أو قل شيئا يجهلونه وهو الماء "الذي يتفجّر حياة أبدية". إنّ المعروف عن الأنبياء والرسل أنّهم جاؤوا لنشر الدين، أي أنّ رسالة دينية أُنيطت بعهدتهم، فما علاقة "الماء" بالدين؟ هل هو ماء مادّي أم معنوي؟ لماذا الماء بالذات دون العناصر الطبيعية الأخرى؟

في البدء، نشير إلى أنّ المعجم المقدّس أشار إليه البلاغيون حين تحدّثوا عن المجاز في المعجم المقدّس والقرآن خصوصا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ الماء مصدر أساسي للحياة به تحيا كافة المخلوقات، فهل تستقيم الحياة بلا ماء؟ ولكن هل إنّ يسوع يتحدّث عن الماء والحياة المادّيين؟

      حين يذكر نعيمة الماء يقرنه بأزليّة الحياة فيقول على لسان المسيح عليه السلام "ماء يتفجّر حياة أبدية"، وبالتالي فهذا الماء هو غير المألوف لدى المخلوقات جميعا في حياتنا المعهودة، بل هو "غير الماء المألوف وهو لا ينبع من أشياء محسوسة بل من ينابيع خارج   نطاق المحسوسات"5.  إنّنا إزاء كلام قد يعسر فهمُه على العامّة لا تفهمه سوى نخبة معيّنة من الناس قد تفهم المجرّدات بحكم طبيعة الوسائل المعرفية التي تمتلكها. وهذا ما سنوضّحه في الوحدة المعنوية الثالثة إضافة إلى " شجرة الحياة" التي تمثل ينبوع هذا الماء أو مصدره. ولكن قبل ذلك يعرّج نعيمة – في الوحدة المعنوية الثانية – على قصة الخطيئة الأولى تعريجا ليست الغاية منه سرد أحداث القصّة بقدر ما يريد أن يذكر مصدر الخطأ المتمثل في "الشجرة المحرّمة" وكأنّه يريد مقارنة بين هذه الشجرة و "شجرة الحياة" التي سنتعرّض إليها فيما بعد.

      إنّ الكاتب يضعنا حيال قصّة هامة ذكرتها كلّ المصادر الدينية أو أغلبها وتتمثّل في الخطيئة الأولى للإنسان التي تسببت في عقابه بحرمانه من البقاء في الجنة والنزول به إلى الأرض حين أكل من ثمار الشجرة المحرّمة. وقد استقى الكاتب هذا الخبر من التوراة من خلال قوله: «حسب الأسطورة التي جاء بها موسى»6. ولكنّ اللافت للانتباه أنّ هذه القصّة على أهميتها اختزلها الكاتب في خمسة أسطر، وهو ما يؤكّد لنا أنّ هذه القصة ليست غاية بقدر ما هي وسيلة عن طريقها يريد الكاتب أن يطرح مسائل تكاد تكون فلسفية لِما تتسم به من طابع تجريديّ بحت يتصل بمفاهيم من قبيل "المعرفة"، "الخير"، "الشر" وغيرها. "والشجرة المحرّمة هي شجرة معرفة الخير والشر"7. إنّ الأمر لا يتعلّق البتّة بمصطلح "الشجرة" في حدّ ذاته بقدر ما يتّصل بمسألة فلسفية عالجها العديد من المفكرين هي ثنائية الخير والشر. ولعلّ تأصيلَهما في الذات البشريّة استدعى حضور لفظ "شجرة" لِما ترمز إليه هذه الأخيرة من تأصّل وتجذّر وثبات. ولكن إذا كانت ثنائية الخير والشرّ متصلة بما هو جِبِلّةٌ في الإنسان، فكيف يتحدث كاتب النص عن إمكانية الخلاص من خلال "شجرة الحياة"؟

     قبل المرور إلى الوحدة الثالثة المتعلّقة بـ “شجرة الحياة" فحريّ بنا أن نوضّح مصطلح "الخلاص". هو مصطلح ديني عادة ما يُستعمل في الخطابات الصوفية، ولئن لم يذكره نعيمة ذكرا صريحا في هذا النصّ فإنّنا نستوحيه – من خلال طرحه للمسألة – إيحاء جدوليا حسب التداعي الجدولي في اصطلاح دي سوسير.

       فالخلاص إذن متّصل بالمعنى الصوفي، أي أنّ الخلاص- حسب نعيمة – هو التخلّص من المعارف الحسّية إلى معارف أخرى تمكّن الإنسان من إدراك ما هو غير حسّي، أي من إدراك "شجرة الحياة". وبذلك يكتسب الإنسان نوعا من الوعي يسمّيه نعيمة بِـ "الوعي الشامل"، يقول: "إنّه حالة من وعي الإنسان لنفسه وعيا شاملا لا مجال فيه لأيّ فاصل أو حاجز بينه وبين ربّه الّذي منه وفيه"8. فالخلاص إذن يتصل بـ “الوعي الشامل" وهذا الوعي يتّصل بالاتّحاد بالذّات العلويّة، وبذلك يكون الإنسان قد حقّق الخلاص وأصبح روحا محضا وتمكّن من معرفة الحياة. وهذه المعرفة لا تتمّ إلاّ بعد تذوّق ثمار "شجرة الحياة" وهي الشجرة التي " لم يتذوّق بعدُ ثمارَها الإنسانُ وهو يوم بتذوّقها يصبح في غنى عن الطعام والشراب فلا يجوع أبدا ولا يعطش أبدا"9.

     إنّ الحياة التي يعنيها المؤلّف هي حياة تُدرك بوسائل معرفية غير عادية، إنّها الحياة التي بموجب معرفتها يتخلّص بالإنسان من أدران المادّة ليتّحد بالذّات العلويّة ويحلّ فيها. إنّها فلسفة الحلول عند نعيمة أو ما تُسمّى بِـ"الأُحادية الروحانية"، وذلك ما يسمّيه نعيمة بـ “معرفة الحياة". ويعتبرها المعرفة الحقيقية الوحيدة وكل ما عداها جهل يقول في هذا السياق: «فمعرفة الحياة هي وحدها المعرفة وكل ما عداها جهالة، إنها وحدها النور وكلّ ما عداها ظلام، تلك المعرفة أدركها يسوع عندما أدرك أنّ الله هو الحياة»10. ولعلّ أبرز وسائل هذه المعرفة هي: الإيمان والحدس، وقد أشار نعيمة إلى ذلك في كتابه "اليوم الأخير"، كما أشار إلى ذلك محمد شفيق شيّا في دراسته النقديّة لفلسفة نعيمة في "اليوم الأخير". يقول نعيمة في كتابه: "من وحي المسيح": فالإيمان في أسمى مظاهره اعتراف المؤمن بحدود العقل المقيّد بالمحسوسات ثمّ تخطّيه تلك الحدود إلى حقيقة الوجود الّتي لا تُحس... ذلك هو الإيمان المبصر. وقليل هم المبصرون»11. أمّا الحدس فهو ضرب من المعرفة الباطنية أو ما يُطلق عليه اسم " الحاسّة السادسة"، فهو نوع من الإبصار الداخلي، ولعلّه يكون عن طريق القلب، إنّه الإبصار بعين غير العين المألوفة، فهو بتعبير هنري برغسون «النظر بعين غير العين العادية»12. ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الحدس هو «التجربة الميتافيزيقية» التي فيها تنكشف لنا ذواتنا، فندرك «المطلق» في صميم نفوسنا. 

     إنّ الوسائل المعرفية التي يطرحها المؤلّف تبدو مستعصية على العامة من الناس، إنها موجّهة إلى فئة معيّنة قد تكون المتصوّفة أو غيرها من الفئات القادرة على استيعاب تلك الوسائل وهم قلّة، ألم يقل هو نفسه: «وقليل هم المبصرون»؟ نلاحظ أنّ نعيمة يسعى جاهدا إلى بلورة مفهوم الحياة من خلال مفاهيم ومصطلحات تنحو منحى تجريديا تتّضح معالمها في الوحدة الرابعة.

     لقد عبّر صاحب الأثر - في أسلوب يقوم على الحدّ والتعريف - عن صفة توحي بنظرته للحياة قائلا: «فالحقيقة هي الحياة والحياة التي هي الروح»13. فنحن إزاء معادلة رياضية كالتالي:

الحقيقة = الحياة

الحياة= الروح

فنستنتج أنّ الحقيقة = الروح.

وإذا أردنا أكثر دقّة يمكن أن نرمز إلى الحقيقة بِـالحرف(أ) وإلى الحياة بالحرف (ب) وإلى الروح بالحرف(ج) فنقول:

(أ) = (ب)

(ب) = (ج)

إذن (أ) = (ج)

ومن هنا نلاحظ منطقيّة نعيمة في الإدلاء بآرائه واستنتاجاته من جهة، ومن جهة أخرى نشير إلى أنّ نعيمة منذ البداية يريد أن يصل بالقارئ إلى هذه النتيجة التالية: الحقيقة تساوي الروح، بمعنى أنّ الحياة الحقيقية هي فناء في الروح التي لا تُدرك بالعقل المحدود. بل الحياة هي الاتّحاد بالله، بل الحياة هي أن يكون الإنسان إلاها، ألم يقل نعيمة في "اليوم الأخير": لا قيمة للإنسان ما لم يصبح إله نفسه»؟ إذا كانت هذه الدعوة ممكنة، فكم من إله يصبح في العالم؟ ولئن اعتمد نعيمة النص الإنجيلي وأشار إلى نظرية الحلول محيلا على إنجيل يوحنّا المعمدان وتحديدا الأصحاح الرابع عشر وكذلك الأصحاح العاشر، فإنّ النص يقرّ بوحدانية الله " أحبّوا الربّ إلهكم «، وإن كانت الدعوة غير ممكنة فلِم يدعو إليها نعيمة؟ هل إنّ تصوّر نعيمة للإله هو ما نملكه نحن من تصوّر أم له معنى آخر؟  يقول نعيمة بأنّ الكون مجموعة عوالم ولكل عالم ربه الذي يهيمن عليه لكنّ الأرباب جميعا خاضعون لسلطان الله. ولقد بيّن نعيمة الفوارق بين الألوهية والربوبية. أمّا الله فقد عرّفه بأنّه الحياة التي لا نعرف لها بداية ولا نهاية، وهو روح وهو منزّه عن الشكل والصورة - وفي هذا السياق تلتقي المسيحية مع الإسلام - وهو مختلف عن الربّ ولا يمكن أن يدرك بالحواس لأنّه روح والروح لا تُدرك إلاّ بالروح. كما تلتقي المسيحية مع الإسلام في مسألة الوحي حين نقرأ ما قيل على لسان السيد المسيح «لأنّي لا أتكلم بشيء من عندي بل الأب الذي أرسلني وأوصاني ما أقول لكم... فالكلام الذي أفوه به أقوله كما قاله لي الأب»14

    أمّا مسألة المعرفة التي يطرحها نعيمة من حيث النوع فهي المعرفة المطلقة التي تسبر أغوار الماضي والحاضر والمستقبل؛ ما كان وما هو كائن وما يجب أن يكون. وأمّا أدواتها فمختلفة، منها "روح القدس" وهو ما يسمّيه نعيمة "روح الوعي الشامل"، إضافة إلى أداة "الحدس" وكذلك أداة "الإشراق"... وهي الأدوات الوحيدة الموصلة إلى الحقيقة التي هي " شجرة الحياة".

    وفي ختام هذا المبحث حريّ بنا أن نشير إلى أنّ ميخائيل نعيمة قد تجشّم صعوبة خوض غمار مثل هذه المسائل التي لا تبدو سهلة البتّة، الأمر الذي جعله يقع في التناقض في العديد من المواضع رغم محاولته إضفاء الطابع المنطقي على خطابه. وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر أنّ موضوع الاتّحاد مع الذات العلوية والأدوات المعرفية المعتمدة في فلسفة الحلول تبدو كلّها مستمدّة من الفكر الصوفي من خلال خطابات روّاده كالحلاّج وابن الفارض وابن عربي والسهروردي وغيرهم، إلاّ أنّ نعيمة يـُنكر اعتماده على رجال الدين، يقول: «إنّني لا أكتب لرجال اللاهوت ولا بوحي منهم...بل بوحي من أعمق أعماقي»15، وهنا يتجلى التناقض. كما يتّضح أيضا في إقرار النص الإنجيلي بأنّ الله له عرش وله يمين ويسار "...وله عرش في ذلك المقر وله يمين ويسار، واليمين هو مقام الشرف. ومن هنا قول يسوع إنه يجلس عن يمين الآب"16. بينما يقول في موطن آخر: «لا يمين له ولا يسار ولا عرش له ولا صولجان».

       لقد كان نعيمة معجبا بالمسيحية مأخوذا بها إلى حدّ الانبهار، يقول: «يا مسيحي! أشهد أنّك حاضر أبدا في حياتي منذ أن وعيتُ نفسي وحتّى الساعة»17، فكانت كل أفكاره نتاج هذا العشق العاطفي الوجداني فبدت أقرب إلى الانطباعية منها إلى المعقولية، يقول موجّها خطابه إلى المسيح: «وأنا فيما أستنتج لا أسير على هدى عقلي بل على نور محبّتي لك ومحبتك لي»18. ولعلّ هذا الإعجاب المفرط بالمسيحية وعدم تحكيم العقل في مثل هذه المسائل هو الذي أوقعه في بعض التناقضات فغابت الموضوعية عن أغلب مواقفه وآرائه.

      صحيح إنّ عيسى بن مريم عليه السلام رسول ذُكر في القرآن الكريم عدّة مرّات، بل دعانا الله سبحانه إلى عدم التفريق بين الرسل إذ جاء في أواخر سورة البقرة «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»19. فالدين المسيحي دين تسامح وهي سمة حميدة، غير أنّه مُغال ومغرق في تلك السّمة مقارنة بالدين الإسلامي الذي هو دين علم وعمل، وتتّضح تلك المغالاة حين اجتمع السيد المسيح بالجموع على الجبل لكي يعلّمهم دستورا أخلاقيا لهدوء النفس وسلامها وسعادتها أيضاً في الحياة فقال لهم: حينما يؤذيك أحدهم لا تقابل الشَر بمثله بل من لطمك على خدك الأيمن (أي فعل الشَر بك) فحوّل له الخد الآخر أيضاً (أي أظهر له الجانب الأخر وهو المحبّة والتسامح. وتتجلى صفة التسامح بوضوح في الإنجيل الرابع ليوحنّا المعمدان.

      رغم بعض المواقف والرؤى الانطباعية عند نعيمة الناتجة عن عشقه اللامتناهي للمسيحيّة ممّا وسم كتابه"من وحي المسيح" بطابع يسوّغ لنا تسميته بالإنجيل الخامس، فإنّنا لا يمكن أن ننكر مجهود الرجل في تقصّية كلّ التعاليم والمبادئ التي تقوم عليها المسيحية. ومن كلّ هذا استقى مفهوما للحياة يتماشى مع تلك التعاليم التي تأخذ طابعا صوفيّا يصعب تطبيقه في واقع الحال. ومفهوم الحياة بهذا المعنى تناولته مصادر أخرى ذات طابع فلسفي- ديني إلاّ أنّ نعيمة تصرّف في المسألة ليضفي عليها طابع التفرّد وطابع التفلسف بحكم ثقافة الرجل الشاملة.

      ولئن اكتسى مفهوم الحياة عند نعيمة طابع الفرادة في اغلب جوانبه فإنّه ظلّ يتأرجح بين النصرانية والإسلام نظرا لطبيعة المسألة وارتباطها بالمقدّس، فالأديان المتصلة بالرّسل وتشهد لها الكتب المقدسة بذلك فهي مهما تنوّعت تسمياتها واختلفت تفاصيلها فإنها سليلة مصدر واحد يمتح من رافد واحد مهما اختلفت المشارب، ويصعب على من يحاول الفصل بينها فصلا جذريا. فأفكار نعيمة القريبة من الفلسفة هي بمثابة أسئلة تلقي بضلالها على مفاهيم مجرّدة أبوابها مشرعة على البحث. وضلال الأسئلة هو التعبير عن الفرادة المكرورة أو عن قدامة الجدّة وعن تصارب الاقتدار والانعتاق تصاربا هو منهما كالجذمور أو الأرمولة الممتدّة بعيدا في أرومة الوجود.

بقلم: مختار الماجري- أستاذ أوّل مميّز لغة عربية/ تونس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- "من وحي المسيح" مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1987

2 - هذا الفصل يقع بين فصليْ " السبت و الإنسان" و " يسوع و الإنسان" من كتاب " من وحي المسيح" لميخائيل نعيمة.

3-سُمّيت بـ"السامريّة" نسبة إلى السامرة في نابلس وهم طائفة من اليهودلا تعترف من العهد القديم إلاّ بالأسفار الخمسة الأولى التي تشتمل على الشريعة. وقد قبلوا رسالة المسيح ولم يكن بينهم وإيّاه صدام عقدي، أمّا علاقتهم باليهود فتقوم على التنافر والتضاد. 

4 - " من وحي المسيح" مؤسسة نوفل ،بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية 1987 ص 163.

5 – المصدر نفسه ص 169.

6 - المصدر نفسه ص 169.

 7- المصدر نفسه ص 169.

8 - المصدر نفسه ص 63.

9 - المصدر نفسه ص170

10 - المصدر نفسه ص170

11 - المصدر نفسه ص175

12 – انظر : Henri Bergson : Essai sur les données immédiates de la conscience, EDITION ORIGINALE, (1889).

13 - " من وحي المسيح" مؤسسة نوفل ،بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية 1987 ص171

14 – المصدر نفسه ص112

15 - المصدر نفسه ص35

16 - المصدر نفسه ص103

17 - المصدر نفسه ص7

18 – المصدر نفسه ص8

19 - سورة البقرة الآية 285

بقلم: مختار الماجري- أستاذ أوّل مميّز لغة عربية/ تونس

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين