الأحد، 29 يناير 2023

قراءة عابرة في بعض كتابات فوزي الديماسي بقلم الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

الأستاد: مختار الماجري/ تونس
 

قراءة عابرة في بعض كتابات فوزي الديماسي

بقلم الأستاذ: مختار الماجري

فوزي الديماسي "رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه" بتعبير بديع الزمان الهمذاني، فحين تقرأ كتاباته السرديّة تخال نفسك في حضرة الشعر، فسرديّات الرجل مضمّخة بمزيج من النّثر الشّعريّ، وحين تحاول استيعاب هذا المزيج تجد نفسك حيال شذرات فلسفيّة كامنة في ذات الكاتب تصبو إلى الخروج نثرا أو شعرا.

    هو سبيل ارتآه فوزي الديماسي ليرسم من خلاله -عبر لغة تجمع بين العامي والفصيح- نهجا في الكتابة التجريبيّة يلبّي غاية كامنة فيه تنمّ عن اعتراف بفضل مدينة هي بالنسبة إليه "الولاّدة والوسّادة" في الآن ذاته. فانبرى يسجّل كلّ كبيرة وصغيرة مرّت بذاكرته في رحاب مدينة قصر هلال. تلك المدينة الموطن، المدينة الأمّ بما تحمله من ذكريات وعادات وتقاليد وحياة نابضة بالخصوصيّة والتفرّد تنبئ عن اعتزاز الكاتب بانتمائه لهذا الموطن العزيز، فيبدو مأخوذا بتفاصيله وجزئيّاته غارقا في عشقه حدّ النخاع.

    يحاول فوزي الديماسي أن يرسم طريقا يبدو فيه مختلفا عن الكتابات المعهودة، فكتاباته لا تنتمي بشكل واضح إلى السيرة الذاتيّة وإن أوهمتنا بذلك، ولا هي إلى الكتابة الواقعيّة الصّرفة، فكاتبنا يضيف من الخيال الشّيء الكثير على ما يكتب، فيزاوج بين الخياليّ والواقعيّ ليتحرّر من إسار الواقعيّة ويتمرّد على تهويمات الخيال. ولعلّ وسم البعض من كتبه بعنوان يحمل اسم المدينة "قصر هلال" لخير دليل على العلاقة الحميميّة بينهما، فأحدها: " قصر هلال، ذاكرة طفولة... طفولة ذاكرة"، وثانيها "قصر هلال... سيرة مكان". وثالثها "قصر هلال... من هنا عبروا".

فــــــــــ "قصر هلال، ذاكرة طفولة... طفولة ذاكرة" كتابٌ بُني في ثلاثة فصول تتّصل جميعها بنهج الجمهوريّة؛     

1-    من أيام نهج الجمهورية،

2- ما بعد نهج الجمهورية،

3- نهج الجمهورية أكبر ممّا كنت أتصوّر طفلا.

  إنّ الاهتمام بالمكان واضح من خلال عناوين الفصول إلاّ أنّ هذا المكان لم يكتسب أهمّيّته لو لم تكن له علاقة متينة وروابط حميمة بمن سكنوه من جهة وبذكريات الكاتب من جهة أخرى. فالكتاب ضرب من السّيرة والتّوثيق فيهما احتفاء ملحوظ بالتّفاصيل المتنوّعة زمن طفولة الكاتب، وبذلك حمى الكاتب كمّا هائلا من الأخبار والأحداث والذّكريات من الاندثار عبر معطيات توثيقيّة تكون أحيانا مؤرّخة بأزمنة ومواقيت دقيقة كما جاء في مقدّمة الكتاب: "سنة 1995، وتحديدا يوم الأربعاء 1 نوفمبر تاريخ وفاة والدتي سعاد صالح رحمها الله..."1، إلاّ أنّ هذه الدقّة التأريخيّة  كانت إشارة من الكاتب إلى سبب دخوله عالم الكتابة من جهة و إلى  أهمّية الحدث من جهة أخرى، لأّنّها ليست غاية الكاتب الأولى  ولذلك لم تتواصل في كتاباته واقتصر الكاتب على التّسجيل المفصّل دون تواريخ دقيقة لإيمانه بتوجّهه الأدبيّ لا التاريخيّ أو التّوثيقيّ بما في الكلمة من معنى، بل نجد فوزي الديماسي نفسه يستبعد -تواضعا منه- أن يكون مؤرّخا أو موثّقا، و إنّما يرجع ذلك إلى ضرب من النوستالجيا  أو الحنين إلى ماض يرى فيه صورة طفولته السّعيدة فيعيش على وقع ذكراها من جهة ومن جهة أخرى اعتراف منه بفضل هذه المدينة "قصر هلال" عليه، حين احتضنته صغيرا  وعلّمته من تقاليد حياتها الشّيء الكثير. يقول كاتبنا: "إنّ كتاباتي في هذا المنجز ليست بالتوثيقية، أو التأريخيّة، وأنَّى لي بلوغ درجات المؤرّخين وأهل الذّكر في السيوسيولوجيا والأنتروبولوجيا ، و إنّما هي إطلالة يغلب عليها طابع الحنين، ومشاعر النوستالجي..."2 

بل لعلّ الكاتب أدرك الغاية الأساسيّة من هذه الكتابة وهي الاعتراف بجميل المدينة، يقول: "ثمّ إنّ كتابتي هذه ما هي بالكتابة المجانيّة، أو من باب البكاء على الأطلال. وإنّما هي لمسة وفاء لأرض طيّبة عشنا على أديمها حياتنا بحلوها ومرّها، وتقلّبنا بين أحضانها.." 3.

أمّا "قصر هلال... سيرة مكان" فهو كتاب قامت بنيته على فصلين يُختمُ كلّ منهما بهامش مطوّل يشرح فيه الكاتب كمّا هائلا من معاني المصطلحات العاميّة الّتي تمّ توظيفها. ويرسم صاحبه مشاهد واقعيّة وصفا دقيقا تستحيل المشاهد فيه إلى لوحات فنّية تتحرّك أبطالها   أمام أعين القرّاء دارت أحداثها في مدينة قصر هلال، فالكاتب اختار عمدا التّكثيف من استعمال المحلّي اللّهجوي للإبقاء على طبيعة الموضوع وغاياته البعيدة وفاءً لمنهج يتناغم فيه المبنى مع المعنى فيشكّلان معا صورة واضحة لنوستالجيا مفقودة تستأنس بها الذّات عبر الذاكرة.

  أمّا " قصر هلال... من هنا عبروا" فهو مازال قيد الطباعة و إن لم يختلف عن سابقيه من حيث الاحتفاء بتسجيل الوقائع المتّصلة بقصر هلال والسّاحل عموما، وذكر أهمّ الشخصيّات الّتي مرّت بذاكرة الكاتب، فإنّه يختلف من حيث تناول القضايا وبعض المسائل، وقد مكّنني صاحبه مشكورا من الفصل الأوّل قبل طباعة الكتاب، وقد تكون لنا وقفة أكثر دقّة مع بعض مؤلّفاته الأخرى وهي عديدة.

         يحاول فوزي الديماسي أن يرسم طريقا يبدو فيه مختلفا عن الكتابات المعهودة، فكتاباته لا تنتمي بشكل واضح إلى السّيرة الذّاتيّة وإن أوهمتنا بذلك، ولا هي إلى الكتابة الواقعيّة الصرفة، فكاتبنا يضيف من الخيال الشّيء الكثير على ما يكتب، فيزاوج بين الخياليّ والواقعيّ ليتحرّر من إسار الواقعيّة ويتمرّد على تهويمات الخيال. كما نراه يؤلّف بين جملة من الثنائيّات المتضادّة: العامّي والفصيح/ السّرديّ والشعريّ/ الواقعيّ والخياليّ... بحثا عن سبل تجريبيّة في الكتابة لم تُطرق بعد.

مختار الماجري/ تونس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الهوامش:

1- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص9.

2- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص10.

3- "قصر هلال، ذاكرة طفولة.. طفولة ذاكرة"، منشورات ابن عربي الطبعة الأولى 2021، مقدّمة الكتاب، ص11.

 

رحيل،،، كفاية عوجان/ الأردن

الأديبة: كفاية عوجان/ الأردن
 

رحيل

بحر خاشع يرسل أمواجه الهادئة تباعاً لتهدهد ذلك المركب المُتعَب.

الرّذاذ يتساقط رقيقاً حانياً والقمر بضوئه الفضّيّ يداعب وجه البحر، ويرخي ظلال نوره على شراع تأهَّب ليحضن رياح الخريف بامتنان.

أرفع مرساتي وأرخيها في البحر لأتَّخذ سبيلي في البحر سربا ...

ها هي الحياة بين يديّ تغرّد كعصفور عاشق...  أبتسم له وأنا أطلقه راضية ليعود إلى أرض تساوت فيها الحياة بالأحلام.

يطير ويبتعد... يتلاشى في سحابات من الضباب ...

يبتعد وأبقى وحيدة ....  أظلل عيني براحتي لأرى بوضوح أكثر...

 ماذا تركت هناك ...

لم تكن الحياة سوى وقفة تحت شجرة في يوم عاصف...  ومضيت ...

تركت ورائي بضع ضحكات، وقليلاً من الفرح... ودمعات وكثيراً من الكلمات كتبتني على جذع الذكريات، ونورساً حزيناً أتعبه السّفر وما زال حائراً في معنى الحياة.

 بحبّ أُغمض عيني على مشهد الحياة الصاخب والأضواء ...

 وأدير وجهي إلى عتمة بحر ليبتلع روحي ويبتلع ما كان ...

كفاية عوجان/ الأردن

الأحد، 22 يناير 2023

تقديم "جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان، بقلم النّاقد محمّد سلاّم جميعان

 

الشاعر والنّاقد: محمّد سلاّم جميعان/ الأردن

تقديم "جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان،

بقلم الأديب والشاعر والنّاقد محمّد سلاّم جميعان

 

[رؤية إبداعيّة متميّزة قدّمها النّاقد والمفكّر الشّاعر محمّد سلّام جميعان في حفل توقيع كتاب "جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان يوم الأربعاء 18/ 1/ 2023 في مركز الملك عبد الله الثاني الثقافي- الزرقاء]:

"لا أدبَ بدونِ حياةٍ أو شعور. ومِثلما أنشأَ اللهُ العظيمُ الكونَ بكلمة، علَّمَ الإنسانَ -أحبَّ المخلوقاتِ إليه- علّمه بالقلم، فطارَ الإنسانُ على أجنحةِ خياله إلى آفاقِ أمانيه وأحلامه، وطاف يُناجي الفكرَ والشُّعورَ عبر أطوار حياته المختلفة.

فمنذ أنْ علّمَ اللهُ آدمَ الأسماءَ، لم يَطْوِ الإنسانُ شِراعَ قلمه. ومازالَ الخَلْقُ يسْطُرون، تارةً يكتبونَ أنفسَهم، وتارةً أخرى يكتبون الناسَ من حولهم والحياةَ ومجالي الفكرِ وخلجات الأحاسيس.

رويداً رويدا، وبخطوٍ واثقٍ مطمئنّ تَعبرُ الأديبةُ كفاية عوجان صرْحَ الأدبِ المُمَرَّدِ بثلاث قواريرَ حِسانٍ ملأتْها من ينابيع نفسها الخصبةِ بالمعنى، وروحِها العالية في مدارج جمالِ الحَرْف.

نعم، ثلاثُ قواريرَ حِسانٍ تعبقُ برؤاها وتسيلُ منها في خاطرِ كيف قارئها الصورةُ والكلمةُ والفكرة.

أنا أعني ما أقولُ، ولا أنفثُ في العُقَدِ، ولا أقولُ أحاجيَ وألغازًا.

تأمَّلوا معي كيف ملأتِ الكاتبةُ قواريرَها الثلاث، كلُّ قارورةٍ منها حَمْلُها وفِصالُها في عامين:

-              حديثُ الصمت عام 2018

-              من فيض الوجدان عام 2020

-              جارة القمر عام 2022

لقد وقفتُ متأمّلاً عند هذه العناوين، وقلتُ لن أُلقيَ رحلي قبلَ أنْ أقصَّ عليكم نبأً عنها، وأولُّها زمانا "حديث الصمت". فاجتماعُ الحديث والصّمت فيه مفارقةٌ لطيفة بين أمرين متباينين، فكأنَّ للصمتَ فمًا يتكلّم محاطاً بهالةٍ رهيبة من الهمس الشّفيف المليء بالموجات الصّوتيّة شديدةِ الانتظام. تسمعُها وتكاد تلمسها من شدّة وضوحها ونجواها. فالصّمتُ هو اللّغةُ الّتي تحوي كلَّ اللّغاتِ. ففي حديث الصّمت يسكتُ اللّسان ويتكلّم القلب، فهي تستمدُّ كلماتِها من قلبِها وروحِها بنفسٍ راضيةٍ مطمئنّة، تتوارى خلف صمتها وهي تتحدَّثُ للعالَم الخارجيّ من وراءِ حجاب.

أمّا في فيضِ الوجدان، فتخرجُ قليلاً من ثوبِ تقمُّص الذاتِ وتَتَّشِحُ بقوسِ قُزَح، فصار الصمتُ فيضًا مُشمِسًا.

حتّى إذا صارت " جارة القمر" أضاءتْ من علٍ بكمال الصّورة والإيقاعِ والمشهد، علامةً على الزّمنِ والتاريخ. وجارة القمر هو كوكبُ الزُّهرةِ لا ينفكُّ عن القمر مكانًا ولا زمانًا، حتّى وإنْ كان القمرُ كلَّ يومٍ هو في شأن... يضيء اليومَ من مكانٍ، وغدا من مكانٍ آخر... يبدأُ هلالاً ثمّ يأخذ بالامتلاء والاكتمال والتزايد، ويتوسَّطُ السماءَ بدراً منيراً.

وقد تسألونَ أين تجدون في "جارة القمر" معنى المفردة وروحها، وكيف رنَّتها وصِبغَتها ولونها؟

فأقولُ بإشارة سريعة: لا تنفصمُ القصيدةُ عن السياق الدلاليِّ للعنوان. وتأمّلوا معي حين تقرأون "جارة القمر" عناوين القصائد التالية وكيف حلّت في بنيتها الشفيفة مفردةُ القمر: منزل الروح، نبض مشاغب، مناجاة تبعثرها الريح، تأويل، خشوع.

ففيها يعلنُ القمرُ عن نفسه لفظاً ومعنىً ومنزلة، كقولها:

ما زالَ يسكُنُ خَلْفَكُم فوقَ الجِدارِ

بقيّةٌ من ذكرياتٍ

نَبْضُها هذي الصُّوَرْ

فَلِمَنْ سأهديها إذا ناجاكمُ ضوءُ القمرْ؟

كنتم هنا الجنائنَ المعلَّقةْ

فكيف أضحتْ رِعشةُ الحنين

في صدوركم ممزَّقةْ.

ففي الروحِ الإنسانيّة عطشٌ لا ينطفئ إلى هذا الجمال التعبيريّ وهذه الموسيقى المتناغمة كخرير الماء، وحفيف أوراق الشجر.

ففي كلمات كفاية نغمٌ وموسيقى عند حدود كلِّ مقطعٍ وانطلاقةٍ مع موجاتِ الأثير وهي تنتقلُ من وحدةٍ تعبيريّة إلى أُخرى كما ينتقلُ القمرُ من فَلَكٍ إلى فلك.

لا أقول لكم اقرأوا الكلمات، بل اقرأوا الخلجات والشعورَ في الكلمات، ليظلَّ دمُ العبارات دافئاً في مشاعركم.

بلغةٍ شاعريّةٍ كتبت كفاية عوجان نصوصها. وما أشقانا نحنُ الأدباء حين نشغل بالنا وفكرنا في الأجناس الأدبيّة ونمنحها صكوك الغفران في الشّعر والنثر... دعونا نعرف معنى التسامح والغفران ونعيشُ حالة من التعايش الفنّي الّذي تعيش فيه المذاهب الفنّيّة على تباينها جنباً إلى جنب حتّى يتولّى الزمانُ أمر الفصل في هذه المذاهب، ولنَنْتَصرْ للجمال حيثما كان في أيِّ لونٍ أدبيٍّ جاء.

لقد قرأتُ "جارة القمر" مرّات؛ مرّة بخشوعٍ متصوّفٍ عابد، ومرّة بإحساس شاعر، ورأيتُ بعين القلب كيف تفتحُ نصوصُ كفاية أذرُعَها للعصافير الزائرة، ولا تبخلُ على واحدٍ بعريشةِ ظلّ، أو ورقٍ أخضر. ففي نصوص كفاية من شاعريّة الحسّ والشعور ما يكفي مزاجَكَ ليشعر كيف كلُّ نغمةٍ تجذبُ نغمة وكيف كلُّ قرارٍ ينادي قراراً حتّى تكتمل سمفونية النصّ عندها فتغدو عالَماً كاملاً بشموسه ومحيطاته ومجرّاته، سواء ما كان من هذه النصوص نشيجاً مكتوماً أو بسمةً مُخْضرّة.

الفنّ الأدبي في طراز هذه النّصوص كالفنِّ المعماريّ، يمكن من خلاله توليد أشكالٍ لا حصر لها. فكما أنّ الفنّ المعماري يعتمد وحدةً أساسيّة هي الحجر لإخراج ألوف التصاميم فإنَّ الوحدة الأساسيّة في هذه النصوص هي النغم.

أحيي كفاية عوجان إنسانة وأديبة، تعمل بصمتِ، كالزهرةِ ترسلُ أريجها بلا ضوضاء، وتبثُّ كلَّ حينٍ في قنديل إبداعها زيتاً جديداً يضيء نصوصها كسنا البرق.

وأحيّيي أُسرتها وعائلتها وهي ترى شريط حياتها وإبداعها ممتدًّا في الزمان.

وأحيّي حضوركم وإصغاءكم

وأُسلِّمُ عليكم "

محمّد سلاّم جميعان/ الأردن

الخميس، 19 يناير 2023

هل الموت قنطرة عبور؟؟ سونيا الفرجاني/ تونس

 

لوحة غلاف رواية المائت للفنّان  طارق السويسي

يكتفي الكاتب أحيانا برأي قارئ عالم.. أو شاعر يستشعر وهج الكتابة ويكتب رجْعَ صدى النصّ الذي أضاءه أو أحرقه.. ضوء بضوء.. وحرقة بحرقة.. ولا أعتقد أنّ كاتبا حقيقيّا يرنو إلى أبعد من ذلك..


نصّ كالذي كتبتْه الشّاعرة الصّديقة عن كتابيْن شقيقين، يملأني الآن بالامتنان والرّضا.. ولن أقول شكرا... إنّما الشّكر لغة يتملّق بها غريبٌ غريبا.. ولكنّي أقول: أيّتها الشّقيقةُ.. كم أحببتُ هذا النصّ وكم أبهجَ روحي، أو أوجعها، لا أدري
..

                                                                لطفي الشّابّي

هل الموت قنطرة عبور؟؟

سونيا الفرجاني/ تونس

أسلوب هذه الرّواية باذخ الصّفاء.. من يدخل عوالمها كمن يشرب في كأس كريستال ويخاف أن ينتهي المشروب ويقع الكأس الفاخر.

جلست وحدي بعد انتهائي من الكتاب الأول "المائت"، كان لابدّ أن أجلس وحدي.

رسمت حائطا،

لا أعرف لماذا فعلت هذا ولماذا كان الجدار سميكا بحيث كنت أضغط على القلم مرّات متتالية ليصير داكنا وأكثر كثافة. قلّما رسمت، فأنا لا أجيد هذا الفنّ العسير ولا أحسن استعمال أدواته الرقيقة.

الريشة لا تتحرّك بخفّة بين أناملي ولا قلم الرصاص.

خلال أيّام قليلة، لم تتجاوز الأربعة، أنهيت العيش مع الكتاب الثاني، لم أجلس، وقفت أمام النافذة المطلّة على"عشّ" النخيل كما نسمّيه هنا، أمام النافذة أم خلفها لا أعرف كيف أحدّد الاتجاه حسب زاويتي أو زاوية الخارج.

لكنّي وقفت طويلا وبكيت بصوت خافت.

هل كان ذلك مؤازرة للموت أم غضبا منه؟ أم نقمة على صاحب صناعته في هاتين الروايتين؟

كتبت للطفي الشابي: أيّها المتوحّش، لماذا قتلتها؟

لماااذا؟؟

وماذا كنت تريد؟

سأقتلك يا لطفي الشّابي في رواية سأكتبها بعد سنّ السبعين.

روايتك أثقلت مفاصلي وكسرت عظامي، قويّة البناء ومتينة الأعمدة.

أيّها الشيطان أنت أيّها الرّوائيّ،

لماذا قلت إنّ المرأة شيطان؟

هل بكيت حين انتهيت؟

أنت متوحش في الكتابة، وفي تقمّص الدور.

فاتن هي أنا في هذا العالم،

روايتك ذبحتني من وريدي إلى وريد أمي.

أنا أتخبّط الآن تحت قدمي روايتك، أراها واقفة في الغرفة بيدين وساقين، روايتك صارت عملاقا في الغرفة، عملاق يتربّص بي.

كأنّك جمعت صراخا فظيعا لا تتحمّله آذان الآلهات.

جمّعته في صدر العملاق،

عملاق بيدين وساقين، ويلي من صراخها الذي قطع آذان الآلهات.

اتّصلت بمنيا فوجدتها تكابد حالة تشبهني الآن.

إنّي أرتعد تحت الشجرة الكبيرة في نصّ "المائت".

بين "لن نعبر الجسر معا" و"المائت" كنت أحمل البئر وأحلم بالحديقة على قول زاهر الغافري.

روايتان مهمتان للطفي الشابي تكتظّان بالموت رغم اختلاف النهاية وارتجاف السير بين ضفّتي أنين.

لن أقيّم العملين كما يمكن أن يفعل ناقد أو دارس أدب أو باحث أكاديميّ، سأتحرّك في مناخات الفقد والفقدان وتشابه تدجين الموت داخل نصّين كثيفين يشبهان النهايات المليئة بالبالونات وأصوات الشماريخ.

هل الموت قنطرة ضرورية للعبور؟

حفلة للأصوات أم حفنة للأموات توزّع على مهل؟

هل الموت في كتابات لطفي الشابي الروائي التونسي، موت عربي؟

هل هو تحيّل الإنسان على حيلة الأزمنة المتراصّة المتشابهة المتشابكة؟

بين الحياة التي تبدو هادئة والموت الضروري الذي يبدو طبيعيا، كان حاجز خفيف، خفيف بدرجة تنافس فيه الكاتب مع اللغة في مبارزة رشيقة صوّرت لنا صراعه المرير معها وصولا إلى الموت المشتهى أو المبتغى أو الموت العبور.

هل كان لطفي الشابي الشاعر يشيّد الموت في كتابيه الروائيين؟ أم ينشده لطقوس بشرية أزلية تعدّدت فيها الميتات وانتهت إلى موت مشتبه؟ أم هو يبني أعمدة الخيانة ليقصفها بأغمدة الموت؟؟

حين بدأت الدخول إلى معالم "المائت" و"لن نعبر الجسر معا"، كنت خائفة، وحملت في يدي عصا غليظة كان اشتراها زوجي ذات صباح من سوق تقليدية، فقط ليزيّن بها مدخل البيت.

تتبّعت حركات الأبطال والبطلات بحيرة وحذر، والعصا في يدي،

هل يتسلّل الابطال للبيت؟

رجال الروايتين مصابون بالّطفح ونساؤها مصابات بالصّفح.

لن أضربهم، لكني سأحذر من لطفي الشّابي،

لن أضرم فيهم النار، لكن الكاتب أضرمها داخلي.

يخطو الكاتب على جسور كثيرة كأنّه خبر قسنطينة، وتعلّق بمقاسات العلوّ والانخفاض فيها فصار خفيفا.

سار على حباله بخفّة وحذر وكتب السقوط والموت بهدوء وحنكة، كتب حياة جميلة طالها الإخفاق وأسقطتها الأنفاق وغطّتها أصناف من أدخنة الاحتراق.

كلّ شيء كان يحترق، حتّى القارئ الخائف.

هل تلك هي الحياة الكبيرة التي نتخفّى فيها ونخفيها ونخافها؟

يكتب لطفي الشّابي الموت المعلن والمبطّن والمؤجّل، بشغف التقصّي وحنكة التصوير الدقيق، كمن يجوب مقبرة الأحياء ليصنع لهم فيها مكننة الموت المتسلسلة، إنّه موت تصنعه الرأس مالية أو يصنعه العمل المتسلسل في مصنع عصريّ. من أجل إفراغ الحياة من زيفها وصبّها في زيف العالم.

لعلّ السالبيْن يتحوّلان موجبا.

هل الموت موجب أم سالب؟

لا أعرف لماذا أكتب هذه الفوضى عن المائت ولن نعبر الجسر معا، لماذا كلّ هذه الحركة المطبقة داخلي؟

كتابان عابران لغابات الروح، متقمّصان دورا تونسيا ملفوفا بالثورة منتوفا من شجرة الإنسان العملاقة.

يبحث الكاتب عن وجوهه كمن يبحث عن قطّ صغير في حقل قمح طويل، كأنّه يصنع مزمارا في كلّ حواراته الباطنية والصاخبة، قال الشاعر الفرنسي كريستيان بوبان في نص ترجمه الشاعر الجزائري أحمد عبد الكريم: "الشاعر يحدث بعض الثقوب في عظم اللغة ليصنع نايا "

هل فعل بنا لطفي الشابي كل هذا في عظم اللغة وفي عظامنا كقرّاء يرتعدون من صوت المزامير؟

ليس لطفي الشابي كاتبا رحيما، لم يكن يبكي حين أحدث كلّ ذلك الموت

هل بكى حين قتلهم؟

لماذا قتلتهم أيها الروائي؟

ألأنك مصرّ أن تعبر الجسر وحدك وأنت مائت؟؟؟

سونيا الفرجاني/ تونس

الجمعة، 13 يناير 2023

الرّيح تعوي،،، جميلة بلطي عطوي/ تونس

الشاعرة: جميلة بلطي عطوي/ تونس

الرّيح تعوي

والرّيح تعتصر كبد الورى

ألملمُ وجلي

أنضُو عن عيني سرابيل الضّباب.

 

والرّيح تعوي

أعتلي قمم الهضاب

أمدّ يدي إلى الشّفق

أقتني حزمة من سحاب

أعود إلى سهلي محمّلة

ما أنا سيزيف يكابد وعده

لكنّني أجرّ الحلم الآبق

أبذر في دربي ألوان قزح

لي تفتح الأرض شريانها

يبتسم الجدب

يدحر شحّ التراب

يستجير من الرّمضاء

يسقط طيف السّراب

عبر منافذ اليأس 

يسحب المزاهر يلغي ألوان التّرح.


والرّيح تعوي

أستعير صفيرها

أُرقّمه على سلّم التّوق نوتات نوتات

يتحوّل الصّفير صَبًا

تربّت على خّد الوردة

تراقص النّخل

تَعِد الزّيتون بالخير

تعدني أن ترشّ الحزمة في كلّ درب

أن تسقي العطاشى

في كلّ صوب

فأنسى صفير الرّيح

أنسى الوجل

أمسكها عصاي

أهشّ على بصري

علّني ألمح الفجر يطلّ

يملأني حبورا

أخرج كما يوسف من قعر الحزن

أرتدي هالة الضّوء

أراقص من جديد

حلمي والفرح.

جميلة بلطي عطوي

تونس في 9 / 1 / 2023


مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين