‏إظهار الرسائل ذات التسميات بحوث. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بحوث. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2022

البحث عن الذّات،،، مختار الماجري/ تونس

 

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

البحث عن الذّات

    حين تعامل الآخر بأخلاق حضاريّة وتجد نفسك تُعاملُ بشكل غير منتظر من قِبل فئة تشتغل بفضاء يدّعي التأسيس للثقافة، تُدرك أنّ الأخلاق ليست المذهب الذي يعلّمنا كيف نكون سعداء، بل هي المذهب الذي يعلّمنا كيف نكون جديرين بالسّعادة. ويهيم فكرك باحثا عن مفاهيم كنت تظنّ أنها واضحة المعالم في تصوّرك كالثقافة أو الأخلاق أو الشخصية، أو بالأحرى كيفيّة تحقيق الذّات داخل هذا الخضمّ الذي يدفعك إلى الإحساس بالاغتراب، بالظلم، بالقهر، فتستفيق من وقع الصدمة لتُدرك أنّ "الثقافة بداهة خاطئة، كلمة تبدو وكأنّها ثابتة حازمة والحال أنّها كلمة فخّ خاوية منوّمة ملغّمة خائنة..." بتعبير إدغار موران. ولكن هل يمكن أن أعيش بشخصيتي منفردا بعيدا عن الضجيج الكاذب والقيم المغلوطة التي تُخفي أكثر ممّا تصرّح؟

      إنّ الشخصيّة تكمن في الشخص ولكنّها تتجاوزه لترتبط بالمواقف المتعدّدة والمؤثّرات الخارجيّة المتغيّرة، ولعلّ نيتشة قد عبّر عن ذلك فلسفيّا في جملة عميقة ومقتضَبة "كُنْ انطلاقا ممّا أنت" تعبيرا عن تزاوج الثابت والمتحوّل وجدل إرادة الإمكان لما هو كائن وتوحّد القيمة بالطبع وملابسة القناع الظاهري للعمق الباطني، فالأنا المنفصلة والمستقلّة عن المجتمع ليست إلاّ وهما وضلالا. إنّ مَنْ تحمله أنانيته على معاملة الآخر كشيء، إنّما يفقد إنسانيته، والتاريخ مُفعمٌ بأمثلة عبيد الربح الغريبين عن الشخصية الإنسانية. تُطرح في هذا السياق علاقة الفرد بالجماعة من حيث الخضوع والتفرّد، إشكاليّة التغيير وإمكاناته، وفي ذلك غاية البحث الحضاريّ، والأبعد منها سعادة الإنسان. وهل يحدث التغيير في بقاء المثقف وحيدًا أعزل، ووعيًا مفردًا؟

      إنّ تحقيق الذّات عمليّة مستمرّة و متقدّمة، و الإنسان مطالب في نفس الآن بأن يعلو على إرثه البيولوجي في ردود الأفعال والاستجابات الغريزيّة وعلى إرثه الاجتماعي في الروتين والخضوع القطيعي، أي كيف يكون الفرد حاضرا هو ذاته دوما في كلّ ما يفعله أو ما يجرّبه بما يحمله في ذات الحين حضوره من غياب يهمس بضآلة الدور الذي يلعبه الاختيار الواعي و التفكير الواقعي في تعيين الفعل الإنساني فإذا "لم يحدث سابقا للغوّاص في أعماق النفس أن كشف نفسه للرّحالة و المغامرين" كما يقول نيتشة، فليفعل حتى يجعل كلّ لحظة من الحياة البشريّة لا مجرّد تجربة عابرة و إنّما مناسبةً خطيرةً إرضاءً لشهوة الوجود و حتّى تكون علاقة الشخصيّة بالشخص الإنساني علاقة الموطن المستنبت فلا يتحوّل الأشخاص إلى ذوات يترصّدهم اليأس و الجنون.

      في هذا السياق السوسيوثقافي تسعفنا محاكاة خطاب أحد الجنرالات لجنوده: ليتصرّف كل واحد منكم كما لو أنّ الحرب بكاملها تتوقّف عليه.. كما لو أنّ تغيير المجتمع يتوقّف على خيار الفرد الحرّ وإرادته الواعية؛ على أن يكون كالحصاة ترمى في بركة ماء راكد فتحدث دوائر تتّسع لتشمل صفحة الماء؛ وإن تلاشت، فهي بإمكانها أن تعكّر صفو هذا اليقين على أقلّ تقدير. إلاّ أنّ مهمّة كهذه لا يمكن أن تقوم بها إلاّ عقول حرّة لا تجزع إذا رأت من الأفكار ما يخالف المألوف، بل إنّها تعمل على تحطيم كلّ الأصنام وإزاحة الأقنعة لتتخلّص من هيمنةٍ لوعي تاريخي ضاجّ وكاذب، فللعقل الحرّ الحقّ بأن يخلق من الأفكار الجديدة ما يستطيع، انطلاقا من عمليّة هدم كلّي وأساسي لكلّ ما شكّل عبئا أثقل كاهل الإنسان تاريخيّا. لذا إذا كان لابدّ من "فلسفة المطرقة" فكذلك لابدّ من مطرقة تهدم زيف القيم وتظهر بطلانها.

        كثرٌ من يمتلكون الوعي بالحق والعدالة، ومن لديهم رؤية للتغيير؛ إنّما من يمتلك شجاعة القول وإرادة الفعل قد يكونون قلّة. لتبقى الإجابة، في ختام القول، معلّقة عن سؤال سعادة الفرد خارج قطيعه؛ في حين أنّ ألبير كامو يتصوّر سيزيف سعيدًا في شقائه، وفي وعيه بهذا الشقاء الأبدي. لكنّ الوعي بالشقاء يزيده شقاءً تبعا لقول كارل ماركس “أن نجعل القمع أشدّ قمعا بأن نظيف إليه وعي القمع"، وحالنا كالمسافر في دروب غامضة يبحث عن معنى لحياته، حالة وصفها نزار قبّاني في قصيدة " المسافر" قائلا في بعض أجزائها:

"وخبزنا مبلّل بالخوف والدموع

إذا تظلمنا إلى حامى الحمى قيل لنا: ممنـــوع

وإذا تضرعنا إلى ربّ السما قيل لنا: ممنوع

وإن هتفنا.. يا رسول الله كن فى عوننا

يعطوننا تأشيرة من غير ما رجوع

وإن طلبنا قلماً لنكتب القصيدة الأخيرة

أو نكتب الوصيّة الأخيرة قبيل أن نموت شنقاً

غيّروا الموضوع"

                              مختار الماجري/ تونس

الخميس، 3 نوفمبر 2022

التوحيدي بين المسامرة والترشيد،،، الأستاذ مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس
 

التوحيدي بين المسامرة والترشيد

عرف القرن الرابع للهجرة نهضة أدبية ملحوظة تجلّت معالمها في مختلف الآثار الأدبية في تلك الفترة، كـ “المقامات" لبديع الزمان الهمذاني و "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي و" الإمتاع والمؤانسة" لأبي حياّن التوحيدي. وتكمن أهميّة هذه المؤلّفات في كشفها لملامح مجتمع القرن الرابع في تلك الحقبة الزمنية، وخاصّة مسامرات التوحيدي لابن سعدان التي تبدو في ظاهرها مؤانسات أديبٍ لسائس تحقّق له الإمتاع ولكن في باطنها مساهمة من مثقّفي القرن الرابع في ترشيد السلوك السياسي للإمارة البويْهيّة قولا وفعلا.

فكيف تمّت مسامرات التوحيدي لابن سعدان؟ وهل كانت فعلا إمتاعا ومؤانسة للوزير أم هي ضرب من الإسهام الثقافي في ترشيد السلوك السياسي أم مجرّد متكسّب يُرضي طلبات وليّ النعمة؟

     تقوم بنية المسامرة بشكل عام على التدرّج من الطلب إلى الاستجابة فالتعليق. وأمّا أطراف الخطاب فتتكوّن من وزير متقبّل وأديب باثّ ورسالة ممتعة. وداخل سؤال الوزير وفي أجوبة التوحيدي المتوالدة عن بعضها البعض والمتفرّعة داخليّا وفق أسلوب التداعي نجد تضمين الأخبار والأشعار والطرائف في المسامرة. فما هي مظاهر الإمتاع والمؤانسة في مسامرات التوحيدي؟

      تتجلّى مظاهر الإمتاع والمؤانسة في الإطار المجلسي، وهو إطار ليلي ومجلِسُ خاصّةٍ في قصر وزير، وهي سنّة تقريب الأدباء من المجالس. أمّا المواضيع فكانت متنوّعة بفعل الثقافة الموسوعية والاستطرادات اللذيْن يسمحان بتنوّع ممتع ومثير. وكلّ ذلك صيغ بلغة وأسلوب مخصوصيْن من خلال تنميق العبارة وسلاستها وبلاغة الجملة ودقّة تركيبها واعتماد محسّنات البيان بكثافة. فبدا كتاب "الإمتاع والمؤانسة" موسوعة حضارية وأدبية وعلميّة وظّفها التوحيدي في إمتاع السّائس. هذا التوظيف الظاهر لا يُعتبر مهمّا في نظر الناقد أمام توظيف باطن جعل الكتاب يخدم وظيفة الترشيد السياسي. فما الأساليب المعتمدة في ذلك؟

      من أهمّ أساليب الترشيد السياسي نذكر التوجيه والإرشاد والموعظة والتذكير في الخطاب المباشر وأساليب الإسناد في الرواية والنقل عن علماء العصر في الخطاب المباشر كإسناد الأقوال إلى أبي سليمان المنطقي وأبي سعيد السيرافي ومتّى بن يونس. وتنزع هذه الأساليب بالترشيد في "الإمتاع والمؤانسة" نزعتين إحداهما نقلية دينيّة مستفيدة من أدب المناصحة في تحقيقه لوظيفة المشورة، والأخرى عقلية من خلال أقوال التوحيدي كالحجاج والتعليم والاعتبار، وتحقّق هذه الأساليب وظيفة نقدية للسلوك السياسي وتضمن تأثيرا أوسع للمثقفين في البلاط. أمّا الترشيد بالأفعال فيتجلّى من خلال تدخّل مباشر يغيّر قرارات سياسية جائرة في حقّ الرعيّة، ومثال ذلك توسّط العلماء لخوف العامّة من الروم ومن آثار الفتنة مع معزّ الدولة البويهي وتأثيرهم على موقفه في صالح حماية الرعية. وكذلك تدخّل التوحيدي لدى الوزير ليسعّر الخبز ويكلّفه مجانا للفقراء بعد حادثة باب الطاق. أو تدخّل التوحيدي مع الوزير في إسكات غضبه مِنْ تكلّمِ العامّة في سياسته.

     إنّ القرار السياسي مجال من مجالات تأثير المثقّف، إذ لا يتمّ تنفيذ حاسم دون استشارته ممّا حوّل المسامرات مطارحات وتناصحا واستفادة سياسية. ولكن لا يمكن الجزم بأنّ دور المثقّف يقتصر على الجانب الإيجابي وحسب، فحين ننظر في الفترات التي تولّى فيها المثقّفون الوزارة من ابن عبّاد إلى ابن العميد إلى ابن يوسف إلى ابن سعدان نجدهم رؤوس فتنة شقّت البلاط البويهي. ولكنّ التوحيديّ في "الإمتاع والمؤانسة" آثر الترشيد السياسي على الإمتاع والمؤانسة رغم أنّ عنوان الكتاب يوحي بالأنس والمتعة. فالإمتاع والمؤانسة عنصر محدود في الكتاب بينما الترشيد السياسي عنصر موسّع.

      فلئن وُسِم الكتاب من خلال عنوانه بـ "الإمتاع والمؤانسة" فإنّ هذه الصفة كانت نسبتها ضعيفة مقارنة بنسبة الوظيفة الاجتماعية للكتاب، سيما والتوحيدي يعرض على الوزير مشاغل التدهور السياسي وصور انهيار الدولة ومظاهر معاناة العامّة. ورغم هذا التفاوت يمكن القول إنّ التكامل بين الوظيفتين ممكن مادامت النصيحة تُغلّفُ بالأسلوب الممتع حتى تضمن التأثير المناسب وتلقى القبول الحسن كما نهج ابن المقفّع في كتابه كليلة ودمنة.  

    إنّ كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لا يخرج عن خصائص أدب المجلسيّات وإنْ مال أكثر إلى الإحاطة بالواقع واستيعاب الثقافة بحكم سعة اطّلاع صاحبه وفضله في تجميع معارف العصر، وبذلك يحقّق التوحيدي لنفسه غايتين: أن يكون أديب بلاط، وأن تعلو قيمته بين أدباء عصره، كما يمثّل في تجربته نموذج المثقّف الوسيط يُناصح السّائس ويشير عليه ولا يتمرّد على سلطانه مادام البلاط راعيا للأدب.

 

مختار الماجري/ تونس


الجمعة، 26 أغسطس 2022

السعادة: واقع أم خيال؟،،، الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

السعادة: واقع أم خيال؟

 لطالما أرّقتني مسألة وجودية ولاتزال منذ أمد إلى اليوم، فجعلتني “تائها في ظلام شكّ ونحس" بتعبير الشابي، ولا أستطيع تلذّذ أيّ شيء، أو أن أعيش الفرحة بعمق مادامت تُراودني أسئلة من هذا القبيل: هل يمكن للإنسان أن يعيش السعادة فعلا والحال أنّه ينتظره يوم "تشخص فيه الأبصار"؟[1] وهل يمكنه أن يسعد بنجاح أو فوز أو تألّق أو مكافأة  في هذه الحياة التي يعقبها يوم فيه "تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَمَا هُم بسُكارى وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ..."[2] ؟ وهل يمكن للإنسان أن يسعد بعد أن يقرأ قول الله تعالى"{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلًّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}[3]. وقد اختلف علماء الدين في تفسير معنى الورود، فمنهم من يقول بأنّه لا يعني الدخول بقدر ما يعني الإشراف عليها والقرب منها استنادا إلى الآية الكريمة (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ)[4]، أي أشرف عليه لا أنّه دخله، ويُؤكّده حديث حفصة الذي رواه مسلم قال الرسول "صلى الله عليه وسلم ـ" لا يدخل النارَ أحدٌ من أهل بَدْر والحديبية"، وقيل ورُود المؤمنين النار هو الحُمَّى التي تصيبهم في الدنيا، كما روي في حديث”الحُمَّى حظُّ المؤمن من النار" وقيل الورود هو النظر إليها في القبر، وقيل غير ذلك. هذا من منظور ديني للمسألة. أمّا إذا ألقينا نظرة فاحصة على الواقع واستحضرنا تفاصيل حياتنا اليومية بوقائعها المؤلمة لنا أن نتساءل: ما الذي يشرّع اليوم للحديث عن السعادة ونحن نعاصر المقت والجور والاستخذاء والتماثل والامتثال وكثرة الحاجة؟ أهي أزمة الفكر العاطل انسدّت أمامه السبل فارتدّ يُقلّبُ تكريرا ما تصرّم من المباحث والمشاغل؟ ألا يكدّر الموت صفاء النفس ونشوة الحياة؟ وهل نحن في حاجة اليوم إلى مزيد الحديث عن الموت ونحن نراه تعيّنا حدثيا في الزرع والضرع والنسل؟ أهو الإحساس العدمي والكارثي باللاجدوى وبموت المعنى ممّا يدفع إلى التوجّه جهة الموت يأسا من الحياة؟ أهو الحزن يطبق على الذات فينهك اقتدارها فتلجأ إلى فكرة الموت تأسّيا وملاذا؟ 

           وإذا كان لابدّ من الوجود، فيجب أن يكون هذا الوجود جميلا. فجمالية الوجود ليست اعتباطا ساذجا يجهل الواقع إنما هي فعل وعمل ودلالة بها يرتقي الإنسان إلى حرّيته. هي سلوك راق يقرّب الإنسان من الإنسانية من حيث هي فنّ حياة وليست حنينا رومنسيا إلى براءة أنطولوجية مفقودة أو طلبا لانكفاء الذات على ذاتها لحظة تأزم الوجود الجماعي ولحظة العجز عن إصلاح فساد الساسة والسياسة.

       وبما أنّ السعادة هي الهدف النهائي للوجود الإنساني كما يقول أرسطو، فهل يمكن للسعادة أن تتحقّق بعيدا عن الحريّة؟ وهل الحرّية لقمة سائغة تُقدّم لمريديها على طبق من ذهب؟ ألم يقل الشاعر:

" وللحريّة الحمراء بــــــــــــــــــــــــــــــابٌ         بكلّ يد مضرّجة يُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدقُّ"؟

   ففي خضمّ توتّر الذات الباحثة عن السعادة وبلغة" المثقّف الشمولي"[5] يجب أن تكون الغلبة دائما للغضب وللمقاومة وللرغبة حين تُقبل جميعها جذلى تتصادى بين التوصيف والتاريخ، وبين الخرائط والأجساد امتدادا من فينومينولوجيا الفقر إلى أنطولوجيا المحبّة مثلما كان يقول أنطونيو نغري. الفقر قوّة حيويّة مولّدة للمقاومة، والمحبّة جمع ودوام وإيقاع وحراك يستصحب القاطن والراحل. الفقر والمحبّة معا يحرّكان المادّة ويفتحان اللغة ويصنعان وجوها أخرى للواقع. ولسنا نقول ذلك تعبيرا عن تفاؤلية فجّة بل نحن نقوله مدركين مأساة الأحداث وأقدار التاريخ وأعراس الحريّة ودلالات الصيرورات العينية وصخب الذاكرة خارج مدن الأموات ومقابر الأحياء. ورغم أهميّة المحبّة ودورها في تغيير الواقع، فإنّ هذه القيمة وأيّ قيمة بشكل عام في هذا العصر لم تعد مرجعا متعاليا، بل أصبحت القيم معايير نسبية صائرة صيرورة الوضع الإنساني العطوب والمتناهي والسائر من تعاريق الحياة إلى وجاهة الموت.

             قبل النظر في آليات تحقيق "السعادة" لا بدّ أن نقف على هذا المفهوم الغامض لنكشف حقيقته وجوهره وما يكونه. فهل السعادة تحقيق لكلّ الرغبات والاستئثار بالمال والسلطة؟ أم هي الرضا بالواقع والبحث عن حياة سالمة وسليمة بعيدا عن الصراعات والمشاحنات؟ أم هي شعور داخلي يشعر به الإنسان ليمنحه راحة النفس والضمير وانشراح الصدر وطمأنينة القلب؟ فما هي السعادة؟ وأين تكمن؟ وهل هي قرارٌ أم قدرٌ محتوم؟ وما نظرة الإسلام لها؟   

             يَختلفُ مفهوم السّعادة من شخصٍ لآخر، وقد اختَلفَ في تعريفها الفلاسفة كذلك؛ إذ إنّها مُصطلحٌ نسبيّ، فقد يُسعدُ الإنسانَ شيءٌ يُعدّ لدى غيره عاديّاً، ويودّ الجميع لو يصبحون سعداء، بيدَ أنّك حين تسألهم: ما معنى السعادة؟ لن يستطيع أكثرهم الإجابة بشكلٍ صحيح، ويرجعُ ذلك إلى أنّ المفاهيم تعقّدت وتشابكت، فما عاد غالب النّاس يُفرّقون بين السّعادة والرفاهية والرّضا، وبين النجاة من الموت والألم والسّعي خلف الرّزق ورفاهيّات الحياة. تُعدّ السعادة مفهوماً مجرّداً لا ينحصرُ بنطاقٍ حسيّ ولا عقلانيّ، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو خياليّ، ومن هُنا تكمنُ صعوبة حصره وضبطه في بضع كلمات تصفه، ولذلك يذهب الفيلسوف الفرنسيّ نيكولا شامفور إل القول بأنّ السعادة ليست بالأمر الهيّن، فمن الصعب أن نعثُر عليها في دواخلنا، ومن المُستحيل أن نعثر عليها في الخارج. ويُعرِّفُ أرسطو السّعادة بأنها (اللّذّة، -أو على الأقل أنها تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باللذة- واللذة بدورها يتمّ تفسيرها باعتبارها غياباً واعياً للألم والإزعاج) حيثُ يحصرُ الفضيلة بالتّأمُّل والفلسفة في التفكير، ويصلُ أخيراً إلى أنّ الحياة التي تتصّف بالسّعادة هي الحياة التي تُعنى وتتمحور حول النشاط العقليّ، أمّا سبينوزا فيقول في كتابه الأخلاق: (السعادة هي الغبطة التي ندركها حينما نَتحرّر من عبوديّة الأهواء ومن الخرافات والأحكام المسبقة). وقد تطرّقت خبيرتا السّعادة لارا كور وديبرا ريكوود لمعنى السّعادة، فقالت كور: (السعادة من وجهة نظري هي القُدرة على تجربة أوسع نطاق من العواطف والمشاعر بطريقة صحية)، كما قالت ريكوود: (السعادة هي الشّعور بالرضا في ظلّ غياب القلق أو الاضطراب أو تعكّر المزاج). أمّا الإمام الغزاليّ، فيقول: (إنّ اللذة والسعادة عند بني آدم هي معرفة الله عز وجل)، ويُتبع ذلك بقوله: (اعلم أنّ سعادة كلّ شيء ولذته وراحته تكون بمقتضى طبعه، كل شيء خلق له، فلذة العين الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة، ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ القلب مخلوق لها).[6]

السعادة -إذن- هي شعور ممكن دائما؛ فهي لا تكمن في سعادة المترفين وذوي البطون المشبعة؛ بل تكمن في بهجة الحياة حينما نحبّ، وحينما نبدع فنّا، وحينما نسعد بولادة حقيقة ما. نحن نسعد بكلّ تغيير بهيج لما يحدث لنا. حيث أنه لا ينبغي أن نتأمّل الوجود وأن ننعم بدفء أحضان مساحة الراحة والروتين؛ إنّما علينا الذهاب دوما لملاقاة الحدث وتعلم الجديد. حدث ما؛ هو ذاك الذي يغيّر نظام العالم. وكي ننعم بالسعادة ويتسنّى لنا عيشها واقعيّا فيجب القيام بأحد الأمرين: إمّا أن نتناسى كلّ ما يهدّد حياتنا ونتظاهر بالتفاؤل، وهذا قد ينتج سعادة بتراء نتاج انشغال العقل بتلك الأكذوبة المفتعلة ولن يستطيع التخلّص منها ونسيانها مهما حاول. وإمّا أن نزاوج بين الوعد والوعيد ونغلّب الأوّل على الثاني بوعي تام وقناعة ثابتة لا يزحزحها شكّ، وهذا يتطلّب جهدا جهيدا يمكّن من نحت كيان، "وإنّ كلّ كيان لجَهدٌ    وكسبٌ منحوت" بتعبير محمود المسعدي.

 

       وبناء على ما تقدّم، فإنّ السعادة ليست وهما أو خيالا، إنما تحقيقها رهين اختيارات الكائن البشري وطبيعة سلوكه ومبادئه وأفكاره ونظرته للحياة. فالسعي إلى تحقيق السعادة مشروع حتّى في أحلك الظروف ولكنّ منهجية السعي إليها وآليات تحقيقها وزمنها ومكانها كلّها شروط لابدّ من توفرها مجتمعة لتمهيد السبيل وتعبيد الطريق الموصلة إليها دون عراقيل أو حواجز من شأنها أن تربك السعي وتجهض المشروع. ولا أحد ينكر أنّ تحقيق السعادة المرْضيّة - إن لم أقل المطلقة – صعب المنال، ولكن حتّى وإن لم نستطع أن نكون سعداء كما نريد فإننا بالضرورة سنكون أقلّ شقاء.

 

الأستاذ: مختار الماجري / تونس

الهوامش:


[1] إبراهيم، الآية 42

[2] الحج، الآية 2

[3] مريم: 71، 72

[4] القصص: 23

[5] "المثقف الشمولي" بتعبير فوكو هو الذي يتكلّم باسم الحقيقة والإنسانية والمستقبل، فهو حامل راية الحق المطلق وبشارة الغد المشرق. 

[6] أبو حامد الغزالي، "كيمياء السعادة" ، فصل: ما هي أعظم اللذات؟ ص 139

الخميس، 4 أغسطس 2022

أثر طريقة التدريس في ترسيخ الحجاج نمطا تعليميّا،،، مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

أثر طريقة التدريس في ترسيخ الحجاج نمطا تعليميّا

تقديم

    يقتضي عنوانُ المبحث التركيزَ على عنصرين أساسيين هما: الحجاج كنمط تعليميّ وأثرُ طريقةِ التدريس في ترسيخه. أمّا العنصرُ الأوّلُ فسنُمهّد له بالإشارة إلى تنوّع الأنماط التعليميّة ونشير إلى الحجاج من حيث هو نمط تعليميّ مهمّ له خصائصه ومؤشّراته، ومن ثَمَّ نمُرّ إلى التعريف به لغة واصطلاحا.

   أمّا العنصر الثاني فسنتناولُ فيه طريقتين لتدريس الحجاج؛ الأولى تقليدية والثانية فعّالة. ثُمّ نمرّ إلى المقترحات أو الحلول المؤدّية إلى ترسيخ قيم الحجاج في العملية التعليميّة.

 تمهيد

    تتعدّد الأنماط التعليميّة وتتنوّع، فمنها ما يتّصل بالبصريّ ومنها ما يتّصل بالسمعي أو بالمقروء والمكتوب أو بالحركي، وإضافة إلى ما سبق ذكره نجد النمط الحجاجي وهو إحدى الأنماط التي تتمّ كتابةُ النصوصِ بها، وتعتمد على الإقناع والتأكيد والتعبير عن الآراء، فهو يركّز شيئا معيّنا ثمّ يعرض القضايا المؤكّدة أو غير المؤكّدة لإثبات صحّة الكلام أو نفيه. ومن مؤشّرات النمط الحجاجي كثرة البراهين والحجج، واستخدام ضمير المتكلّم وضمير الغائب لدعم النص بالحجج والأدلة العلمية المنسوبة إلى علماء متخصّصين في موضوع النص، إضافة إلى الاعتماد على النفي والإثبات، ويُعتبر هذا المؤشّر هو ما يميز النمط الحجاجي عن الأنماط الأخرى، إذ يستعمل الكاتب النفي لتجاهل فكرة معينة وإبطالها، وعلى النقيض الآخر يستخدم الإثبات للإقناع برأيه. ومن المؤشرات الأخرى للنمط الحجاجي استخدامُ أدوات الربط المنطقية المتصلة بالأسباب مع حشد الحجج لإثبات صحتها، بالإضافة إلى استخدام الأمثلة الواقعية.

      وبما أنّ الحجّة أصبحت جوهر الحياة المعاصرة في كلّ المجالات كالسياسة والقضاء والدّعاية والإشهار وغيرها، فإنّها أضحت ضرورة حتميّة لا غنى عنها، وقد أثبت الحجاج فعاليته وقدرته الفائقة على فكّ الكثير من مغاليق الخطاب، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن ماهية الحجاج. فما المقصود بالحجاج؟

    قبل تناول التعريف لغة واصطلاحا لابدّ من الإشارة إلى أنّ الحجاج عرف محطّاتٍ تاريخيّةً متنوّعةً عبر أزمنةٍ متباعدةٍ، إذ لاحت بوادره في المقولات الغربية والعربية القديمة. أمّا الغربية فتجلّت عند السفسطائيين، والسفسطائية حركة فلسفية تميّز روادها بالكفاءة اللّغوية وبالخبرة الجدلية القولية التواصليّة، وربطوا الحجاجَ بالنفعِ. ومن ثمّ أفلاطون فأرسطو مرورا بالفكر الغربي الحديث ولاسيما مع بيرلمان وتيتيكا وديكرو وغيرهم. وأمّا المقولات العربية فبدت ملامحها مع الجاحظ في اتّجاه أدبي خطابي، ومع ابن وهب في اتجاه منطقي فقهي، ومع السكاكي في اتجاه بلاغي منطقي، وصولا إلى المقولات العربية المعاصرة مع الرّواد حمادي صمّود وطه عبد الرحمان وعبد الله صولة ومحمد العمري وغيرهم.

تعريف الحجاج

أ- لغة: تكاد تُجمع المعاجمُ العربيةُ في تعريفها للحجاج على ما جاء في لسان العرب لابن منظور: يُقال حاججته أُحاجُّه حِجاجا حتّى حجَجتَه؛ أي غلبته بالحجج الّتي أَدليْتُ بها... والحجّةُ البرهانُ، وقيل الحجّة ما دافع بها الخَصم، وفي الحديث "حجَّ آدمُ موسى أي غلبه بالحجّة"[1]. وعموما، يُقصدُ بالحجّة في اللّغة الدليل، يقول الجرجاني في كتاب "التعريفات" "الحجة ما دلّ على صحّة الدعوى".

ب- اصطلاحا: وأمّا اصطلاحا فقد جعل أرسطو موضوع الحجاج الخطابي "إقناع الجمهور بوسائل عقلية وعاطفية"[2]

في حين عرّف بيرلمان الحجاج بأنّه:" مجموع تقنيات الخطاب التي تؤدّي بالأذهان إلى التسليم بما يُعرضُ عليها من أطروحات أو تزيد في درجة ذلك التسليم". هذا التعريف أورده د. عبد الله صولة في كتابه" الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته" وكذلك د. صلاح فضل في مقاله "بلاغة الخطاب وعلم النصّ" بمجلة عالم الفكر[3].

    ولكن إذا اعتمدنا آخر التعريفات من الوجهة التاريخية لنعدّه أشمل التعريفات وأصدقها لأنّه يتمثّل كلّ ما سبقه من أشكال التداول التاريخي، فهي إمكانية لا تستقيم لا منطقا ولا تاريخا، حيث أنّ ما نعدّه آخر التعريفات ليس هو كذلك بالنسبة إلى إمكانات المستقبل من حيث أنّه في الصيغة المستقبليّة سيصبح مجرّد تعريف تاريخي، لذلك ارتأينا أن نلجأ إلى التعريف الّذي انبثق عن أكبر عدد ممكن من التعريفات وصيغ في تعريف موحّد شامل استفاد من المشترك في كلّ التعريفات السابقة.

      وبناء على ذلك أجمعت معظم المعاجم على أنّ الحجاج مصطلح يُقصد به المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة لإلزام الخَصم، وهو تقديم لحجج وأدلّة مؤدّية إلى نتيجة معيّنة. فالحجاج فاعليّة حوارية تتأسّس على الاختلاف، انطلاقا من نسبية الحقيقة، وهذه النسبيّة هي المناخ الأمثل الذي ينمو فيه الحجاج. ونستخلص من كلّ هذا أنّ الحجاج هو نمط خطاب غايته جعل المخاطب يشاطر المحاجّ (المخاطَب) فيما ذهب إليه أو دفعه إلى تعديل موقفه أو تغيير رأيه ودحضه وبالتالي يكون الإقناع والإفحام. فما الطريقة المثلى لتدريسه وترسيخه؟

 أثر طريقة التدريس في ترسيخ الحجاج

يمكن أن نميّز بشكل عام بين طريقتين أساسيتين في التدريس:

1- الطريقة التقليدية :

وهي التي تُعطي الأولوية لسلطة المدرّس، وفي هذه الحالة يُصبح المدرّس ممثِّلا لحجة السلطة التي تجعل المتعلمين يتقبلون رأي المدرّس دون مناقشة أو مراجعة، وفي هذه الحالة يكون المدرّس ضامنا لاستماع الجمهور(المتعلّمين)، باعتباره الناطق الرسمي باسم الجماعة الّتي ينتمون إليها، بحيث يكون التلاميذ مطالبين بالثقة العمياء في ما يقوله ويصدر عنه. يقول بيرلمان "إنّ المربّي ضامن لسماع الجمهور له ولثقته، دون حاجة إلى مجهود خاص باعتباره ممثلا للمجتمع الذي ينتمي إليه هذا الجمهور، إنّه يتلفّظ بما ينبغي اعتقاده، وينطق بما ينبغي على المرء فعله، كيْ يُقبَلَ كُفْءًا في جماعة، يتطلّع السامع إلى الانتماء إليها. إنّه غير مطالب دوما بإثبات ما يدّعيه: 

 إنّ كلامه موثوق به، فليس عليه أن يتكيّف مع جمهوره بل جمهوره هو الذي يتكيّف معه"[4].

   ولا شكّ أنّ هذه السلطة الحجاجية لا تساعد المتعلمين على تعلّم تقنيات الحجاج، إذ تعلّمهم الامتثال لسلطة أعلى، وهو ما يُضعف تَمثُّلَهم لثقافة الاختلاف والحوار ومناقشة ما يُعرَض عليهم من أطروحات، كما يُضعف لديهم كفايات التفكير النقدي وحرّية الرأي. وفضلا عن ذلك فمهمّة المدرّس تكون هي تلقين المعارف أكثر من عرضها للنقد، ومعارضتِها بأفكار مضادّة، وفي هذا الإطار يقول بيرلمان: "ولن تشتغلَ روحُ النقد لدى التلميذ بشكل جيّد إلاّ بعد أن يمرّ من مرحلة امتلاك المعارف الأوّلية ... ولن يستطيع النقد أن يُثبت أهميّته إلاّ باللجوء إلى نوع من التعارض"[5]. 

2- طريقة التدريس الفعّال :

في هذه الحالة يطفو الحجاج على السطح باعتباره وسيلة أساسية لنجاح العملية التعليمية، يقول بيرلمان "فلكيْ يتعلّم المرءُ ولكي يعرف، ينبغي أن يُدرك وأن يستدلَّ، وكلّ إنسان مزوَّد منذ ولادته بكلّ ما ينبغي، لكي يُجيد الإدراك ويجيد الاستدلال... ووفق هذا التصوّر ليس المربي المثالي من يُكلَّف بنقل التقليد وتكوين عقل تلامذته، بل إنّ دوره هو استعمال قدرات الطفل وحفظها في منآى من الآراء الخادعة"[6]، ومن هنا تُكرِّسُ الطريقةُ الفعّالةُ حرّيةَ الطفل في الحجاج وإبداء الرأي والإيمان بوجود آراء مختلفة، ويترسّخُ لديه أنّ حرّية الرأي حقّ لكلّ فرد.

إنّ طريقة التدريس يجب أن تستند إلى أصول الحوار الذي يقوم على مبدإ التعاون والتفاهم واحترام الآخر، وقد اقترح بيرلمان حلاّ وسطا لترسيخ قيم الحجاج في التربية يقوم على المزاوجة بين حجّة السلطة التي يمارسها المدرس باعتبارها تزوّد المتعلّم بالمعارف والتقنيات الضرورية للحجاج، وبين التكوين الّذي ينبني على إعمال العقل وجعل التلميذ فاعلا في العملية التعليميّة-الحجاجية.

   ولترسيخ الحجاج هناك مهارات متنوّعة كالتعبير والدرس اللّغوي والبلاغي تحديدا لألوان الزخرف والزينة والمحسّنات البلاغية التي ترد في الخطاب، وهو ما أكّده بيرلمان في نظريته وجعل هذه المحسنات من المقوّمات الحجاجية الإقناعية.

֎ مهارات التعبير:

يشكّل درس التعبير والإنشاء مدخلا أساسيّا لترسيخ أخلاقيات الحوار والقدرة على الحجاج، باعتبار ذلك مدخلا أساسيّا يوجّه المتعلّم إلى الدفاع عن وجهة نظره بأساليب حضارية تنبذ العنف ورفض الآخر. فكلّما كان التلميذ أو الطالب قادرا على الحجاج اكتسب سلوكيات حضارية تجعله لا يفرض رأيه بالقوّة، بل يحاجج لإثباته، وقد يتخلّى عنه لصالح رأي آخر إذا أقنعه الآخر بحجّته. وفي هذا الصدد تظهر مجموعة من المهارات التي نسعى إلى ترسيخها لدى المتعلّمين من خلال درس التعبير والإنشاء لتتحوّل من ممارسة تعليمية إلى ممارسة واقعيّة، ونعني المهارات التالية: مهارة إنتاج نص حجاجي، مهارة الدفاع عن وجهة نظر، مهارة المقارنة والاستنتاج، مهارة إلقاء عرض شفهي...

   في كلّ هذه المهارات لا بدّ من الانطلاق من وضعيات تعليمية شبيهة بالحياة، ففي الدفاع عن الرأي ينطلق الأستاذ من قضية إشكالية معيّنة، ويطلب من التلاميذ التحاور بشأنها على أن يجنّد كلّ تلميذ مهاراته الحجاجية للإقناع بوجهة نظره دون أن نفرض عليه رأيا معيّنا. ونَخلُصُ من كلّ ذلك إلى تبنّي وجهة نظر معيّنة أو أكثر حسب وجاهتها الحجاجيّة.

  بهذا تغدو الممارسة الحجاجية سلوكا مترسَّخا لدى المتعلّم ينقله من المدرسة إلى خارجها مادامت المدرسة مجتمعا مصغّرا كما يؤكّد الكثير من المربّين، ما يُعتبر مدخلا أساسيا لتكوين مُواطِن متشبّع بثقافة الحوار والاعتدال وتقبّل الرأي الآخر.

֎ مهارات اللغة:  

         يرى الألسني الفرنسي" أوزوالد ديكرو" أنّ اللّغة تحمل في جوهرها بعدا حجاجيّا، وليست الوظيفة الإبلاغية هي الأساس والوحيدة في اللّغة، بل إنّ الوظيفة الحجاجية هي أهمّ وظائفها. ففي اللّغة نجد العوامل والروابط هي ما يتصدّر المنطلقات أو المبادئ وتزيد في قوّة توجّهها إلى الحجّة، إذ تمثّل الروابط الحجاجية مجموعة من المورفيمات (والمورفيم هي أصغر وحدات المعنى في اللغة) تصل بين ملفوظين أو قولين أو أكثر في إطار استراتيجية واحدة. فهي نوع من العناصر النحوية والظروف (الواو، الفاء، لكن، حتّى، إذن، ثمّ، بل، لاسيما، بما أنّ، إذ...إلخ)

   ويمكن تقسيم هذه الروابط إلى:

- روابط مدرجة للحُجج: حتّى، بل، لكن، مع ذلك

... روابط مدرجة للنتائج : إذن، لهذا، وبالتالي

- روابط مدرجة للتعارض الحجاجي: بل، لكنّ، مع ذلك…

-  روابط مدرجة للتساند الحجاجي: حتّى، لاسيما...

فقولنا: "زيد مجتهد إذن سينجح"؛ تكوّن هذا القول من حجّة ونتيجة قام الرابط الحجاجي بالربط بينهما.

֎ مهارات البلاغة:

 لئن كان الحجاجُ مبثوثا في مختلف الدروس فإنّه يتجلّى أكثر في الدرس البلاغي لما تلعبه المحسّنات البديعية التي ترد في الخطاب من دور حجاجي لا يمكن إغفاله بأي حال من الأحوال، وهو ما أكّده بيرلمان في نظريته وجعل هذه المحسّنات من المقوّمات الإقناعية. فمعظم الأساليب البلاغية تمتلك خاصّية التحوّل لآداء أغراض إقناعية تواصلية منها على سبيل الذكر لا الحصر الاستعارة والتمثيل:

- الاستعارة:

والتي تُعدّ من الآليات الحجاجية المهمّة التي يمارس المتكلّم من خلالها التأثير في المتلقي، ونبّه الجرجاني إلى وظيفتها الإقناعية حين قال: "فقد حصل في هذا الباب أنّ الاسم المستعار كلّما كان قِدمُه أُثبت في مكانه، وكان موضعه من الكلام أضنّ به، وأشدّ محاماة عليه، وأمنع لك من أن تتركه وترجع إلى الظاهر وتصرّح بالتشبيه، فأمر التخييل فيه أقوى، ودعوى المتكلّم له أظهرُ وأتمُّ "[7] .  ومثال ذلك في قول عروة بن الورد:

ثعالبُ في الحرب العوان وإنْ تنجُ          وتنفرجُ الجُلّى، فإنّهُمُ الأسْـــــــــــــــــــــــــــــدُ

فاستعارات عروة استعارات حجاجية، لأنّه يصف قومه في حالتي السلم والحرب، ولا يمكن أن يصفهم إلاّ بالوصف الذي يجعلهم في مرتبة أعلى من غيرهم، ولذلك نظر في السمات التي يمكن أن تحقّق لهم ذلك، فوجد أنّها الدهاء والحيلة في الحرب مع الشجاعة في السلم. ومن ثمّ اختار مستعارا منه وأورده بلفظه في خطابه.

- التمثيل:

وهو من الوسائل الحجاجية المهمّة، يقول محمد العمري في هذا السياق: "يقوم المثل في اللغة مقام الاستقراء في المنطق، والمثل هو استقراء بلاغي، والمثل حجّة تقوم على المشابهة بين حالتين "[8].  أمّا عبد القاهر الجرجاني فيقول: "واعلم أنّ ما اتّفق العلماء عليه أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي في معرَضه، ونُقلت عن صورها الأصليّة إلى صورته، كساها أبّهةً، وكسبها منقبةً، ورفع من أقدارها وشبّ من نارها وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، و دعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً و كلفًا... فإن كان مدحا كان أبهى و أفخم، وأنبل في النفوس و أعظم... و إن كان ذمّا مسّهُ أوجعَ وميْسمُه ألذعَ... وإن كان اعتذارا كان إلى القبول أقرب و للقلوب أخلب... وإن كان وعظا كان أشفى للصدر وأدعى للفكر..."[9].

الخاتمة:

  ختاما نؤكد أنّ الحجاج يبقى عنصرا مهمّا في التربية، وفضلا عن ترسيخه أخلاقيات الحوار وتقنياته، يسعى إلى ترسيخ قيم التعاون والتفاهم واحترام الاختلاف. على أنّ الحجاج يجب ألاّ يبقى مادّة مستقلة تُدرّس ضمن منهاج اللغة، بل عليه أن يشمل مختلف المواد العلمية البحتة والعلوم الإنسانية. والأهم من هذا وذاك يجب أن يصبح الحجاج ممارسة بيداغوجية تتجلّى في طريقة التدريس التي يجب أن تتخلّص من سلطة المدرّس لتفسح المجال لتدخّلات التلاميذ الذين تتكوّن لديهم الاستقلالية، ويتعلّمون طرائق الإقناع والنقد الذاتي وحرّية الرأي واحترام الآخرين المختلفين، وكلّها قيم حضارية عليا تتأسس عليها المجتمعات الحديثة.

بحث أنجزه الأستاذ: مختار الماجري / تونس

الهوامش:


[1] ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مادّة حجج، دار صادر بيروت، لبنان، المجلد2 ط،1-1997 ص 570.

[2] أرسطوطاليس، الخطابة، ترجمة عبد الرحمان بدوي، ط : 1986 ص29-30.

[3] انظر د. عبد الله صولة في كتابه "الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته" ص229، و د. صلاح فضل في مقاله " بلاغة الخطاب وعلم النص" بمجلة عالم المعرفة الكويت 1992 ص 76

[4] شاييم بيرلمان، [وهو أكاديمي بلجيكي (19121984) ، أستاذ بجامعة بروكسل، مؤسس ما يعرف بـ البلاغة الجديدة،] "التربية والخطابية" ص 154.

[5] المرجع السابق ص 155.

[6] المرجع السابق ص 157.

[7] عبد القاهر الجرجاني، "أسرار البلاغة"، تحقيق محمد رشيد رضا، ص 276.

[8] محمد العمري، " في بلاغة الخطاب الإقناعي" ص82.

[9] عبد القاهر الجرجاني، فصل في مواقع التمثيل وتأثيره، "أسرار البلاغة" ص85

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين