|
الأستاذ: مختار الماجري/ تونس |
العلاقات بين الصور البيانية في نظرية عبد
القاهر الجرجاني
حدود التقاطع / حدود التداخل
بقلم: مختار الماجري
تنضوي الصور البيانية كلّها في البلاغة
العربية ضمن علم البيان، ومن هنا نشير إلى أنّ البلاغة العربية استتبّت على العلوم
التالية: الاستعارة والتشبيه والمجاز والكناية. فهذه الصور البيانية في المدوّنة
البلاغية مباحث قائمة بذاتها وليس فيها تداخل إلاّ في مستوى المصطلحات سواء قبل
عبد القاهر الجرجاني أو بعده. غير أنّ عبد القاهر أضاف إلى التراث البلاغي ما
يميّز نظريته. ففيم تتجلّى إضافة عبد القاهر؟ وما الذي يسوّغ العلاقات بين الصور
البيانية في نظريته؟ وهل هو يأخذ بالتداخل بينها في كلّ فصول كتابيه: "دلائل
الإعجاز" و "أسرار البلاغة"؟
ترتبط بداية النشأة لعلوم البلاغة العربية
ارتباطا وثيقا بالجاحظ وابن المعتز. فمع الجاحظ مثلا نشير إلى أنّ هذا العلم بدأ
ينشأ من خلال الصراعات الدينية بين المعتزلة - التي ينتمي إليها الجاحظ - وأهل
الظاهر. هذه الصراعات ازدادت حدّة في القرنين الثاني والثالث، ويُعتبر كتاب "
البيان والتبيين" للجاحظ، من أهمّ المراجع التي سيستفيد منها البلاغيون في
عصور لاحقة معوّلين خاصة على المصطلحات الجديدة التي اعتمدتها المعتزلة(1) في خضمّ
صراعها مع أهل الظاهر(2). ففي "البيان والتبيين" ظهرت ثنائية الحقيقة
والمجاز وهي ثنائية ستبقى ثابتة من ثوابت اللغة العربية. ونشير إلى أنّ الجاحظ
لاحظ أنّ المجاز مظهر من مظاهر الإخراج فحسب، ونعني بالإخراج؛ إخراج الكلام على
غير مخرج العادة. والجاحظ سيكون من الأوائل الذين يؤكّدون أنّ قيمة الأدب لا تكمن
في معانيه، إذ المعاني مطروحة على قارعة الطريق، وإنما تكمن قيمته في تجويد
العبارة وحسن السبك وبراعة النظم. وهذا يعني أنّ المجاز ليس إلاّ إخراجا لمعنى
قديم في ثوب جديد، وكأنّ الجاحظ بذلك ينفي عن المجاز قدرته على توليد المعاني. ويستمر
الصراع بين أهل الظاهر والمعتزلة في شكل جدل تنشأ فيه ومن خلاله علوم البلاغة
لتكون سلاحا فكريا ودينيا قبل أن تكون لها غايات أدبية أو فنيّة.
كان هذا مع الجاحظ، أمّا مع ابن المعتز،
الذي وضّح المسألة أكثر، فيعتبر الكثير من المؤلفين أنّ كتابه "البديع" مثّل
منعرجا حاسما في نشأة البلاغة العربية، بل علامةً في تاريخ النظرية الأدبية عند
العرب. فهو أوّل كتاب اعتنى بالبلاغة وسعى إلى تأصيلها وتبويبها وترتيبها مؤكّدا
من خلال كلّ ذلك استقلالها عن بقية العلوم الأخرى.
ويشير ابن المعتز في مقدمة كتابه المذكور إلى أنّه أوّل كاتب يخصص للبلاغة تأليفا
مستقلاّ بذاته، وبهذا يعترف كلُّ البلاغيين الذين جاؤوا بعد ابن المعتز. من هنا
تصبح أهمية الكتاب متمثلة في تخليص البلاغة من بقية العلوم التي احتضنتها ردحا من
الزمن. ولم يكتفِ بذلك ابن المعتز، بل بوّب في كتابه لأوّل مرّة علوم البلاغة
وثبّت مصطلحاتها فصارت من بعده مصطلحات قارّة.
فمثلا لو نظرنا في التشبيه عند ابن المعتز
نجده يرى فيه "نمط الأعراب الفصحاء" ومن خصائص التشبيه الجاهلي "الوضوح
ودنوّ المأخذ" وربّما كان التشبيه على هذا النحو أثرا من آثار التقاليد
الشفوية الجاهلية، فقد اشترط ابن المعتز، معتمدا في ذلك النص الجاهلي، أن يكون
التشبيه جليا يدركه السامع من الوهلة الأولى. أمّا إذا نظرنا في المجاز عند الجاحظ
فنجد عبارة "المجاز" لم يستتب معناها ولم تستقر دلالتها إلاّ مع الجاحظ
الذي استخدم هذا المصطلح بالمعنى المقابل للحقيقة، فالمجاز عند الجاحظ ضرب من
التوسّع من أهل اللغة ثقةً من القائل بفهم السامع، ويعترف الجاحظ أنّ المجاز قديم
في اللغة جارٍ في كلام العرب، وأنّ القرآن الكريم قد جرى على السَّنَنِ العربية في
عباراته ومجازاته... على أنّنا نلاحظ أنّ غاية الجاحظ من كلّ أعماله لم تكن بلاغية
محضة بل كانت فكرية في المقام الأوّل. فانتماء الجاحظ إلى المعتزلة سيوجّه مباحثه
ويلوّن دراساته. فما هي الصور البيانية؟ وماهي أوجه التداخل والتقاطع بين الصور البيانية
في غير نظرية عبد القاهر؟ أي قبل الجرجاني؟
تتمثّل الصور البيانية في التشبيه
والمجاز والاستعارة والكناية. فالاستعارة مجرّد نقل للفظ عن أصله اللغوي وإجراؤه
على ما لم يوضع له بسبب المشابهة. وكثيرا ما تتداخل الاستعارة بالتشبيه، وكلتا
الصورتين تنهضان بوظيفة واحدة "إثبات المعنى". وارتبطت أو تداخلت
الاستعارة من جهة أخرى بالمجاز، فهي ضربٌ من المجاز اللغوي علاقته المشابهة دائما.
فهي (الاستعارة) إذن "تشبيه حُذف أحدُ طرفيْه" كما اتفق كلُّ البلاغيين
على أنّ لكل مجاز أصلاً حقيقيّاً يرتبط به ارتباطا وثيقا، والأصل الحقيقي هو
المعنى. أمّا المجاز فهو مجرّد فرع مرتبط بذلك الأصل. ثمّ إنّ المجاز عند
البلاغيين لا يمثّل إطلاقا سائبا لطاقات الخيال وإنما هو ارتباط وثيق بالإرث
البياني العربي، أي يجب أن يكون المجاز على صُوَرٍ ألفَتْها الذائقة العربية. أمّا
الكناية فنجدها في الموروث البلاغي ذات تعريفات مختلفة ومتقاربة نسبيّا، كأن
يعرّفها أبو عبيدة (3) بأنّها ما فُهم من سليق الكلام من غير أن يذكر اسمُه صريحا
في العبارة. أما الجاحظ فيشير إلى أنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل
الإفصاح والكشف. أمّا المبرّد (4)، فيرى أنّ الكناية على ثلاثة أضرب: 1- التعمية والتغطية، 2- التفخيم
والتعظيم،3- الرغبة عن الخسيس إلى ما يدلّ على معناه في
غيره.
فلو نظرنا إلى ما تشترك فيه هذه التعريفات
للكناية لوجدناها جميعا لا تخرج عن حيّز التستر والخفاء. إذن فهي ضرب من المجاز،
وهنا يصحّ لنا القول بالتداخل بين هذه الصور البيانية حينا والتقاطع حينا آخر. ولعلّ
أبرز وجوه التداخل تتجلى في المستوى الدلالي،
أي في مستوى دلالة المطابقة وهي دلالة اللفظ على تمام ما وُضِع له، ومستوى دلالة
التضمّن وهي دلالة اللفظ على جزء ما وّضع له، ودلالة الالتزام، وهي دلالة اللفظ
على معنى خارج عن مسمّاه لازم له. والصور البيانية عندهم تنشأ في الثانية
والثالثة، أي فيما يعّده البلاغيون دلالة عقلية تحصل بانتقال العقل من الكل إلى
الجزء في دلالة التضمّن. ومن الملزوم إلى اللازم في دلالة الالتزام. وما يجمع هذه
الصور البيانية عندهم في إطلاق الكلمة من حيّز الوضع إلى حيّز الاستعمال. ويتّضح
التداخل أيضا في الوظيفة البيانية، ذلك
أنّ البيان عند العرب ارتبط بمعاني الفهم والإفهام بغية إظهار المقصود وتوضيحه
وخاصة لدى الجاحظ. وبذلك ارتبطت كل الصور البيانية بهذه الوظيفة المتكونة من الفهم
والإفهام، أي الإبانة والإيضاح. هكذا نلاحظ لدى القدماء مدى تداخل الصور البيانية
خاصة في الخلط بين المصطلحات والوظائف.
أمّا التقاطع، وإن لم يكن جليّا، فإنّه
يتّضح على الأقل من خلال تقسيمهم للصور البيانية، فالتقسيم في حدّ ذاته يوحي
باختلاف صورة عن أخرى إضافة إلى التعدّد. لكن هذا التقسيم والتفريق بين الصور
البلاغية يبقى شكليّا ما لم توضع له حدود صارمة تفصل بين الصورة والصورة في جميع
المستويات وخاصة مستوى الوظيفة التي تؤدي صورة ما. لذا نقول إنّ البلاغيين القدامى
لم تتبلور لديهم نظرية أو نظريات واضحة في البلاغة العربية، حتّى وإن تجلّت ملامح
بعض النظريات وأخذت في الوضوح مع الجاحظ وابن المعتز، فإنّ التبلور الواضح لم يتمّ
بعد إلاّ مع عبد القاهر الجرجاني إن لم نقل تبلورا تامّا، رغم أنّ نظريته لا تخلو
هي الأخرى من تداخل بين الصور البيانية. ففيم تتجلّى حدود التداخل والتقاطع في
نظرية الجرجاني؟
بات من الواضح أنّ لعبد القاهر نظرية
بلاغية رسم فيها وجهة نظره وآرائه في الصور البيانية ووظائف كل صورة. هي نظرية
أخذت من الموروث البلاغي وتجاوزته، إذ لا يمكن لنصّ أو نظرية ما أن تُخلق أو تنشأ
من عدم. لكن رغم تبلور نظرية الجرجاني ووضوحها فهي لا تخلو من أوجه تداخل وتقاطع
وخاصة التداخل الذي يعلن عن عدم تشكّل الرؤية أو النظرية تشكّلا تاما.
فعلى مستوى التداخل نجد الجرجاني في
كتابيه "الدلائل" و "الأسرار" - اللذيْن تظمّنا المنظومة
البلاغية – يُلحِق الظواهر المجازية بالنظم، إذ المجازات عنده من نتائج الاختيار،
يقول " لا يُتصوّر أن يكون هناك فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن
يكون قد اُلّف مع غيره" (5). وعليه فإنّ الجرجاني ينفي أن تدخُلَ
الاستعارة اسما أو فعلا خارجا عن تركيب ما، أو في غير سياق معيّن، يعني أنّ الاستعارة
لا تكون في لفظة مفردة. وهنا نلاحظ التداخل بين النظم والمجاز، حيث يصبح المجاز
قائما على النظم، إذ لا يتحقق إلاّ فيه، فلا مجاز إذن من غير نظمٍ للكَلِمِ وتعالق
العبارات ببعضها، ولا يتحقق المجاز طالما أنّ اللفظة مفردة.
ويتجلّى التداخل أيضا في المستوى الاصطلاحي، حيث استخدم الجرجاني مصطلحات
التشبيه في الحديث عن الاستعارة، يقول الجرجاني: "الاستعارة أن تريد تشبيه
الشيء بالشيء وتظهره فتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه" (6). وهكذا نجد في أغلب حديثه عن الاستعارة حضورا لمصطلح التشبيه،
ولعلّ ما يبرّر هذا النوع من التداخل بين مصطلحيْ الاستعارة والتشبيه هو طبيعة
العلاقة بين الصورتين، فهي علاقة وطيدة فكلاهما يقوم على التشبيه والمشابهة،
وبالتالي فإنّ هاتين الصورتين ترتدّان إلى طبيعة واحدة، وهذا ما أقرّه البلاغيون
السابقون وأكّده الجرجاني فيما بعد. ولعلّ الدافع الذي جعل عبد القاهر يجمع بين
المصطلحين هو أنّه لا يريد أن يقطع مع السابقين وإنما يعيد قراءة التراث البلاغي
كما استقرّ عند الجاحظ وابن المعتز.
ثمّ نلاحظ التداخل في مستوى آخر هو ردّ الصور البيانية في أصل عقلي صريح. فهذه القراءة هي نتاج نظريته في اللفظ والمعنى والصورة،
يقول الجرجاني "لا يتصوّر أن تعرف للّفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، ولا أن
تتوخّى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك..." (7) يبيّن الجرجاني في هذه
القولة إنّ حسن الصورة البيانية وجمالها يُردّان إلى العقل "إعمال الفكر"
فقد استعاض عن جمالية العبارة بجمالية الفكرة. فالحسنُ إذن يُردّ إلى الذهن لا إلى
وقع الصورة اللغوية في نفس المتلقّي. فجمالية النص تكمن في قوانين العقل أو أقيسته
المنطقية، وهو ما يذكرنا بقولة سقراط "كل ما هو معقول جميل". غير أنّ
الجرجاني لم يقتصر في نظريته على مواطن الجمال وأسبابها في الصور البيانية بل عاد
أيضا إلى أصولها فأكّد أنّها عقلية. ولا يُعرف معنى الصورة إلاّ عن "طريق
المعقول"، يقول الجرجاني مشيرا إلى أنّ الكناية تخاطب "عقل المتقبّل"،
«وإذا نظرت إلى الكناية وجدت حقيقتها ومحصول أمرها أنّها إثبات لمعنى أنت تعرف ذلك
المعنى عن طريق المعقول دون طريق اللفظ» (8)
إذن نلاحظ ردّ هذه الصورة البيانية إلى
العقل، والعقل أو الفكر عنده يتلبّس بالمعاني لا بالألفاظ. وعليه فاللغة عند عبد
القاهر تتمثّل الفكر أو هي تعبّر عنه، أي أنّ الفكر يحرّك اللغة ويحدّد طريق
ظهورها. فهذا الأمرُ يُفضي بنا إلى التساؤل التالي: هل ثمّة نحو للفكر ونحو للغة؟
ويتّضح التداخل أيضا في نظرية الجرجاني على
المستوى الدلالي، ونعني بذلك حديثه عن
المعاني الأُوّل والمعاني الثواني، أو ما يسمّيه بـ"معنى المعنى". ونجد
هذه المعاني- حسب الجرجاني – في الكناية، إذ يشير إلى أنّه في كلّ كناية تنتقل
الدلالة من دال إلى مدلول أوّل ومن مدلول أوّل إلى مدلول ثان، أي من صورة حسيّة
إلى معنى مجرّد؛ يقول عبد القاهر الجرجاني "أن تقول «المعنى» و«معنى المعنى» تعني
بالمعنى المفهومَ من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه من غير واسطة، وبمعنى المعنى أن
تعقل مع اللفظ معنى، ثمّ يُفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر" (9)، ومثال ذلك: من
"كثير الرماد" إلى " الكرم".
إذن فالحديث عن معان متعدّدة تتولّد عن
نفسها هو إعلان صريح بالتداخل بين الصور البيانية أو في مستوى معاني الصورة
الواحدة. وتتجلّى مظاهر التداخل بين الصور البيانية في مواضع كثيرة في نظرية عبد
القاهر من خلال كتابيْ " الدلائل" و "الأسرار".
وجانب التداخل هذا لا يُفصح بمفرده عن حقيقة العلاقات بين الصور البيانية في
نظرية الجرجاني ما لمْ ننظر في جانب التقاطع بين تلك الصور حتّى تتضح الرؤية
المتصلة بالعلاقات القائمة بين الصور البيانية في نظرية الجرجاني البلاغية، فما هي
حدود التقاطع إذن؟
إذا ما رمنا التصاقا بالنصّين المصدرين أي"
الدلائل" و "الأسرار"، نلاحظ أنّ الوجه الأوّل للتقاطع يتجلّى على
مستوى منهجيته في الكتابة، حيث يكاد كل
مبحث من مباحث الصور البيانية يستقلّ بذاته، أي كأنّ كل مبحث في صورة معيّنة يكاد
يخصّص قسما بذاته، ممّا يوحي بتقاطع العلاقات بين الصور. إضافة إلى ذلك، نشير إلى
ملمح آخر يوحي بالتقاطع ويتّصل بالمستوى الوظيفي، ويمكن أن نستدلّ على ذلك من خلال
النظر في وظائف بعض الصور البيانية حتى نبرز حدود التقاطع. واختيارنا لبعض الصور
يكون على سبيل المثال لا الحصر. فمثلا لو تناولنا التشبيه والاستعارة من حيث وظيفة
كلّ منهما نجدهما يتقاطعان رغم التداخل الذي غالبا ما يتجلّى في مستوى المصطلح
أثناء حديث الجرجاني عن إحدى الصورتين.
ففي
التشبيه يرى عبد القاهر علاقة مقارنة تجمع بين طرفين متمايزين لاشتراكٍ بينهما في
الصفة نفسها أو في حكمٍ لها. ويمكن أن نختزل فاعلية التشبيه عند عبد القاهر في
عنصرين: فالتشبيه عنده نشاط تصويري يقوم على قاعدة حسّية. هذه الدلالة الحسية ليست
لذاتها وإنما يُقصد منها الأُنس والتأثير. فالفاعلية التي أشرنا إليها هي الوظيفة
التي يؤدّيها التشبيه. أمّا الاستعارة – التي يعتبرها الجرجاني، على خلاف
السابقين، قائمة على فكرة الادّعاء لا النقل- فهي ليست مهارة لغوية وإنّما هي قيم
فنّية ووجدانية. فوظيفة الاستعارة عند الجرجاني ليست إثبات شبه خارجي وإنما رسم
صورة لما يعتمل في النفس. وعبد القاهر يتنبّه إلى أنّ العلاقة الرابطة بين
المستعار له والمستعار منه لا تقوم على المدركات الحسّية أو المرئيات وإنما على
الإحساس النفسي.
ويقيم عبد القاهر الجرجاني الفرق بين
الاستعارة والتشبيه على أساسين هما مقولة الادعاء،
حيث يدخل المشبّه في جنس المشبّه به في حالة الاستعارة، ويبقى خارج جنس المشبه به
في حالة التشبيه (10)، ومقولة طريقة
الإثبات، حيث يميّز بين الصيغ النحوية الخبرية والحالية (11). ويؤكّد الجرجاني في "دلائل الإعجاز" هذا الفرق بين
المصطلحيْن المذكوريْن على أساس آلية عمل كلّ منهما (12). وهذا
الاختلاف يوحي بالتقاطع. والتقاطع بين الصور البيانية واضح بصورة جليّة إذا ما نحن
تابعنا تجلّياته في مختلف الوظائف.
وعموما ما يمكن أن نستنتجه من خلال نظرية
عبد القاهر الجرجاني البلاغية، أنّه أخرج الظواهر المجازية من مجال نظرية النحو
لأنّها ناجمة عند عبد القاهر عن نوايا ومقاصد ترتيبية راجعة إلى المتكلّم وظروفه
وملابساته. كما أنّ مسائل علم البيان لا تنفصل عنده عن مسائل علم المعاني. والحق
أنّ المباحث البلاغية لم يكن بعضُها مفصولا عن بعض في زمن الجرجاني، وكل ما في
الأمر أنّها اتّجهت في عهد السكاكي إلى فصل هذه العلوم من جهة موضوعها وإلى جمعها
من جهة الغاية اللغوية التي تشملها. وفي هذا الإطار يمكن أن نعُدّ عبد القاهر
مفكّرا حاول أن يبيّن أنّ هذه الظواهر اللغوية ذات منشإ واحد أو أن يدل على الأساس
الذي يجعل هذه الظواهر اللغوية تلوينات (تشبيه، استعارة، كناية...) تعلوه [تعلو
هذا الأساس]، ولكنّها لا تغيّر من طبيعتها تغييرا يذهب بها، فكأنها تنوّع تلك
الطبيعة، بحيث يرجع الموضوع اللغوي عنده إلى نظرية تنظيمية متينة. وبالتالي يكون
من المفيد أن نعيد بناء النظرية عنده من خلال النظم.
وحاصل القول إنّ الدرس البلاغي عند العرب
درسٌ مدقّق يصعب أن تكتنه مختلف تفريعاته بمعزل عن السياق الذي نشأ فيه أي عن
منبته لا البلاغي وحسب وإنما الثقافي بالمعنى الواسع للكلمة. ولاشكّ أنّ الجرجاني
قد أضاف إنجازات هامّة إلى المبحث البلاغي لا يمكن تجاهلها، ولكن الناقد المعاصر
قد يختلف اختلافا جذريا مع عبد القاهر فيما يتّصل بماهية الصور البيانية. ففيم تتمثّل وجهة النظر النقدية الحديثة؟
بقلم مختار الماجري، أستاذ أوّل مميّز للتعليم الثانوي/ تونس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1- الْمُعْتَزِلَةُ (والمفرد: مُعْتَزِلِيّ) هي
فرقةٌ كلاميّةٌ ظهرت في أواخر العصر الأموي بداية القرن الثاني الهجري في البصرة وازدهرت في العصر العباسي. لعبت المعتزلة دوراً رئيساً على المستوى الديني والسياسي. غلبت على المعتزلة النزعةُ العقلية فاعتمدوا على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه
على النقل.
2- أهل الظاهر نسبة إلى الظاهرية وهي مذهب فقهي، وقيل منهج فكري وفقهي، نشأ المذهب في بغداد في منتصف القرن الثالث الهجري ، إمامهم داود بن علي الظاهري ثم تزعمهم الإمام علي بن حزم الأندلسي. وتعد بعض المصادر أن الظاهرية هو المذهب
السني الخامس. المدرسة الظاهرية تنادي
بالتمسك وفق رؤيتها بالقرآن الذي هو كلام الله وسنة الرسول وذلك بحسب الدلالة المتيقنة منهما وإجماع الصحابة، وطرح كل ما عدا ذلك من الأمور التي تعتبرها
ظنّية (كالرأي والقياس واستحسان ومصالح مرسلة وسد الذرائع وشرع من قبلنا...).
3- مَعْمَر بن المُثنّى 110 - 209 هـ / 728 - 824 م: أديب، لغوي، إخباري، ولد ومات بالبصرة. زار بغداد، ودرس على أبي عمرو بن العلاء و يونس بن حبيب، فصار أحد ثلاثة تعاصروا وتنافسوا: هو، وأبو زيد، والأصمعي. امتاز
عنهما بمعرفة أيام العرب وأخبار الجاهليين.
4- أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المعروف بالمُبَرِّد ينتهي
نسبه بثمالة،
وهو عوف بن أسلم من الأزد.
(ولد 10
ذو الحجة 210 هـ/825م، وتوفي
عام 286 هـ/899م)، أحد
العلماء الجهابذة في علوم البلاغة والنحو والنقد،
عاش في العصر العباسي في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).
5 - عبد القاهر
الجرجاني «دلائل الإعجاز» مكتبة
الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة، ص 361
6 – المرجع السابق ص 67.
7- المرجع السابق ص 96
8- عبد القاهر الجرجاني، «أسرار البلاغة» دار المدني بجدّة ص404
9- عبد القاهر الجرجاني «دلائل الإعجاز» مكتبة
الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة، ص 262
10- انظر أسرار البلاغة، ص 322 و323
11- المرجع السابق ص 325-327.
12 انظر، دلائل الإعجاز، ص 56
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم
مختار الماجري، أستاذ أوّل مميّز للتعليم الثانوي/ تونس