‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2022

البحث عن الذّات،،، مختار الماجري/ تونس

 

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

البحث عن الذّات

    حين تعامل الآخر بأخلاق حضاريّة وتجد نفسك تُعاملُ بشكل غير منتظر من قِبل فئة تشتغل بفضاء يدّعي التأسيس للثقافة، تُدرك أنّ الأخلاق ليست المذهب الذي يعلّمنا كيف نكون سعداء، بل هي المذهب الذي يعلّمنا كيف نكون جديرين بالسّعادة. ويهيم فكرك باحثا عن مفاهيم كنت تظنّ أنها واضحة المعالم في تصوّرك كالثقافة أو الأخلاق أو الشخصية، أو بالأحرى كيفيّة تحقيق الذّات داخل هذا الخضمّ الذي يدفعك إلى الإحساس بالاغتراب، بالظلم، بالقهر، فتستفيق من وقع الصدمة لتُدرك أنّ "الثقافة بداهة خاطئة، كلمة تبدو وكأنّها ثابتة حازمة والحال أنّها كلمة فخّ خاوية منوّمة ملغّمة خائنة..." بتعبير إدغار موران. ولكن هل يمكن أن أعيش بشخصيتي منفردا بعيدا عن الضجيج الكاذب والقيم المغلوطة التي تُخفي أكثر ممّا تصرّح؟

      إنّ الشخصيّة تكمن في الشخص ولكنّها تتجاوزه لترتبط بالمواقف المتعدّدة والمؤثّرات الخارجيّة المتغيّرة، ولعلّ نيتشة قد عبّر عن ذلك فلسفيّا في جملة عميقة ومقتضَبة "كُنْ انطلاقا ممّا أنت" تعبيرا عن تزاوج الثابت والمتحوّل وجدل إرادة الإمكان لما هو كائن وتوحّد القيمة بالطبع وملابسة القناع الظاهري للعمق الباطني، فالأنا المنفصلة والمستقلّة عن المجتمع ليست إلاّ وهما وضلالا. إنّ مَنْ تحمله أنانيته على معاملة الآخر كشيء، إنّما يفقد إنسانيته، والتاريخ مُفعمٌ بأمثلة عبيد الربح الغريبين عن الشخصية الإنسانية. تُطرح في هذا السياق علاقة الفرد بالجماعة من حيث الخضوع والتفرّد، إشكاليّة التغيير وإمكاناته، وفي ذلك غاية البحث الحضاريّ، والأبعد منها سعادة الإنسان. وهل يحدث التغيير في بقاء المثقف وحيدًا أعزل، ووعيًا مفردًا؟

      إنّ تحقيق الذّات عمليّة مستمرّة و متقدّمة، و الإنسان مطالب في نفس الآن بأن يعلو على إرثه البيولوجي في ردود الأفعال والاستجابات الغريزيّة وعلى إرثه الاجتماعي في الروتين والخضوع القطيعي، أي كيف يكون الفرد حاضرا هو ذاته دوما في كلّ ما يفعله أو ما يجرّبه بما يحمله في ذات الحين حضوره من غياب يهمس بضآلة الدور الذي يلعبه الاختيار الواعي و التفكير الواقعي في تعيين الفعل الإنساني فإذا "لم يحدث سابقا للغوّاص في أعماق النفس أن كشف نفسه للرّحالة و المغامرين" كما يقول نيتشة، فليفعل حتى يجعل كلّ لحظة من الحياة البشريّة لا مجرّد تجربة عابرة و إنّما مناسبةً خطيرةً إرضاءً لشهوة الوجود و حتّى تكون علاقة الشخصيّة بالشخص الإنساني علاقة الموطن المستنبت فلا يتحوّل الأشخاص إلى ذوات يترصّدهم اليأس و الجنون.

      في هذا السياق السوسيوثقافي تسعفنا محاكاة خطاب أحد الجنرالات لجنوده: ليتصرّف كل واحد منكم كما لو أنّ الحرب بكاملها تتوقّف عليه.. كما لو أنّ تغيير المجتمع يتوقّف على خيار الفرد الحرّ وإرادته الواعية؛ على أن يكون كالحصاة ترمى في بركة ماء راكد فتحدث دوائر تتّسع لتشمل صفحة الماء؛ وإن تلاشت، فهي بإمكانها أن تعكّر صفو هذا اليقين على أقلّ تقدير. إلاّ أنّ مهمّة كهذه لا يمكن أن تقوم بها إلاّ عقول حرّة لا تجزع إذا رأت من الأفكار ما يخالف المألوف، بل إنّها تعمل على تحطيم كلّ الأصنام وإزاحة الأقنعة لتتخلّص من هيمنةٍ لوعي تاريخي ضاجّ وكاذب، فللعقل الحرّ الحقّ بأن يخلق من الأفكار الجديدة ما يستطيع، انطلاقا من عمليّة هدم كلّي وأساسي لكلّ ما شكّل عبئا أثقل كاهل الإنسان تاريخيّا. لذا إذا كان لابدّ من "فلسفة المطرقة" فكذلك لابدّ من مطرقة تهدم زيف القيم وتظهر بطلانها.

        كثرٌ من يمتلكون الوعي بالحق والعدالة، ومن لديهم رؤية للتغيير؛ إنّما من يمتلك شجاعة القول وإرادة الفعل قد يكونون قلّة. لتبقى الإجابة، في ختام القول، معلّقة عن سؤال سعادة الفرد خارج قطيعه؛ في حين أنّ ألبير كامو يتصوّر سيزيف سعيدًا في شقائه، وفي وعيه بهذا الشقاء الأبدي. لكنّ الوعي بالشقاء يزيده شقاءً تبعا لقول كارل ماركس “أن نجعل القمع أشدّ قمعا بأن نظيف إليه وعي القمع"، وحالنا كالمسافر في دروب غامضة يبحث عن معنى لحياته، حالة وصفها نزار قبّاني في قصيدة " المسافر" قائلا في بعض أجزائها:

"وخبزنا مبلّل بالخوف والدموع

إذا تظلمنا إلى حامى الحمى قيل لنا: ممنـــوع

وإذا تضرعنا إلى ربّ السما قيل لنا: ممنوع

وإن هتفنا.. يا رسول الله كن فى عوننا

يعطوننا تأشيرة من غير ما رجوع

وإن طلبنا قلماً لنكتب القصيدة الأخيرة

أو نكتب الوصيّة الأخيرة قبيل أن نموت شنقاً

غيّروا الموضوع"

                              مختار الماجري/ تونس

الخميس، 28 يوليو 2022

مفهوم الحياة عند ميخائيل نعيمة في كتابه "من وحي المسيح" فصل "يسوع والسامريّة" نموذجا،،، مختار الماجري: تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس
 

مفهوم الحياة عند ميخائيل نعيمة في كتابه "من وحي المسيح"¹

فصل "يسوع والسامريّة"² نموذجا

بقلم: مختار الماجري/ تونس

             يختلف مفهوم الحياة من مفكّر إلى آخر انطلاقا من زاوية النظر التي يطلّ منها كلّ ناقد أو أديب أو عالم، فها هو نعيمة يعاطينا الحديث عن معنى الحياة من داخل كتابه "من وحي المسيح" وتحديدا من خلال فصل "يسوع والسامريّة" الّذي يقع بين الصفحتين 161 و171 من الكتاب المذكور، وإذا أردنا أكثر دقّة نقول يقع بين الفصلين "السبت والإنسان" و "يسوع والإيمان". وفي هذا النصّ يشير نعيمة إلى حديث يسوع إلى فرقة السامريّة³ لتلقينها تعاليم عديدة، ويتّخذ الكاتب من هذا الحديث منطلقا لتوضيح مسائل تبدو مهمّة في المعتقد المسيحي كمسألة "الخلاص". وهذه الأخيرة تُعدَّ أرضيّة انطلاق خصبة بالنسبة إلى نعيمة توصله حتما إلى ضالّته المنشودة الّتي شغلت باله طويلا وهي "مفهوم الحياة"، وعبر التدرّج المنطقي وجد في حديث المسيح عن "ماء الحياة" ما من شأنه أن يطفئ ظمأه ويوصله إلى شاطئ السلام. ومن "ماء الحياة" ينتقل إلى "شجرة الحياة" ثمّ إلى إشكالية " المعرفة"، ومن هنا يقرّ كاتبنا بأنّ الخلاصَ رهين المعرفة. فما المقصود بالخلاص؟ وكيف تبدو المعرفة سبيلا إلى الخلاص؟ وأيّ نوع من المعرفة يقصد المؤلّف؟

      لئن كان مطمح الكاتب في هذا النصّ الوصول إلى ملامسة الهدف الرئيس والغاية القصوى ونقصد "مفهوم الحياة" فإنّه مرّ بمسائل أخرى يُفضي بعضها إلى بعض تُعتَبَرُ مُمهّدةً للمسألة الأمّ. وبفضل هذه المسائل ينقسم النصّ إلى أربع وحدات معنويّة تتّصل كلّها بـ "الحياة". وسوف نعمد إلى عدم رسم الحدود الشكلية لكلّ وحدة إيمانا منّا بأنّ التحديد الشكلي ليس سوى عمل إجرائي لا غير، فالخطاب والخبر كلّ لا يتجزّأ – حسب تودوروف - إذ لا يمكن الفصل بينهما. إضافة إلى إمكانية الوقوع في التكرار المعنوي لفكرة قد تُعاد في أكثر من وحدة معنوية. فما محتوى الوحدات المذكورة؟

       تتناول الوحدة الأولى الحديث عن ماء" الحياة الأبدية" ونوعيّته، أمّا الوحدة الثانية – التي تُعتبر همزة وصل بين الوحدة الأولى والثالثة - فموضوعها حول الخطيئة الأولى للإنسان لمّا أكل من الشجرة المحرّمة. ويوضّح لنا الكاتب مفهوم تلك الشجرة ثمّ ينتقل بنا إلى الوحدة الثالثة للتعريف بشجرة ثانية تفوق الأولى من حيث الأهميّة وهي "شجرة الحياة"، ويقرن المؤلف هذه الشجرة بمسألة "المعرفة". وأمّا الوحدة الرابعة فقد اشتملت على كلّ ما ورد في الوحدات السابقة من معان ومفاهيم لتصيغ مفهوما لمعنى الحياة".

      استُهلّ هذا النصُّ بمقولة كان المسيح قد وجّهها إلى فرقة السامريّة لتلقينهم أشياء يجهلونها، أو قل شيئا يجهلونه وهو الماء "الذي يتفجّر حياة أبدية". إنّ المعروف عن الأنبياء والرسل أنّهم جاؤوا لنشر الدين، أي أنّ رسالة دينية أُنيطت بعهدتهم، فما علاقة "الماء" بالدين؟ هل هو ماء مادّي أم معنوي؟ لماذا الماء بالذات دون العناصر الطبيعية الأخرى؟

في البدء، نشير إلى أنّ المعجم المقدّس أشار إليه البلاغيون حين تحدّثوا عن المجاز في المعجم المقدّس والقرآن خصوصا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ الماء مصدر أساسي للحياة به تحيا كافة المخلوقات، فهل تستقيم الحياة بلا ماء؟ ولكن هل إنّ يسوع يتحدّث عن الماء والحياة المادّيين؟

      حين يذكر نعيمة الماء يقرنه بأزليّة الحياة فيقول على لسان المسيح عليه السلام "ماء يتفجّر حياة أبدية"، وبالتالي فهذا الماء هو غير المألوف لدى المخلوقات جميعا في حياتنا المعهودة، بل هو "غير الماء المألوف وهو لا ينبع من أشياء محسوسة بل من ينابيع خارج   نطاق المحسوسات"5.  إنّنا إزاء كلام قد يعسر فهمُه على العامّة لا تفهمه سوى نخبة معيّنة من الناس قد تفهم المجرّدات بحكم طبيعة الوسائل المعرفية التي تمتلكها. وهذا ما سنوضّحه في الوحدة المعنوية الثالثة إضافة إلى " شجرة الحياة" التي تمثل ينبوع هذا الماء أو مصدره. ولكن قبل ذلك يعرّج نعيمة – في الوحدة المعنوية الثانية – على قصة الخطيئة الأولى تعريجا ليست الغاية منه سرد أحداث القصّة بقدر ما يريد أن يذكر مصدر الخطأ المتمثل في "الشجرة المحرّمة" وكأنّه يريد مقارنة بين هذه الشجرة و "شجرة الحياة" التي سنتعرّض إليها فيما بعد.

      إنّ الكاتب يضعنا حيال قصّة هامة ذكرتها كلّ المصادر الدينية أو أغلبها وتتمثّل في الخطيئة الأولى للإنسان التي تسببت في عقابه بحرمانه من البقاء في الجنة والنزول به إلى الأرض حين أكل من ثمار الشجرة المحرّمة. وقد استقى الكاتب هذا الخبر من التوراة من خلال قوله: «حسب الأسطورة التي جاء بها موسى»6. ولكنّ اللافت للانتباه أنّ هذه القصّة على أهميتها اختزلها الكاتب في خمسة أسطر، وهو ما يؤكّد لنا أنّ هذه القصة ليست غاية بقدر ما هي وسيلة عن طريقها يريد الكاتب أن يطرح مسائل تكاد تكون فلسفية لِما تتسم به من طابع تجريديّ بحت يتصل بمفاهيم من قبيل "المعرفة"، "الخير"، "الشر" وغيرها. "والشجرة المحرّمة هي شجرة معرفة الخير والشر"7. إنّ الأمر لا يتعلّق البتّة بمصطلح "الشجرة" في حدّ ذاته بقدر ما يتّصل بمسألة فلسفية عالجها العديد من المفكرين هي ثنائية الخير والشر. ولعلّ تأصيلَهما في الذات البشريّة استدعى حضور لفظ "شجرة" لِما ترمز إليه هذه الأخيرة من تأصّل وتجذّر وثبات. ولكن إذا كانت ثنائية الخير والشرّ متصلة بما هو جِبِلّةٌ في الإنسان، فكيف يتحدث كاتب النص عن إمكانية الخلاص من خلال "شجرة الحياة"؟

     قبل المرور إلى الوحدة الثالثة المتعلّقة بـ “شجرة الحياة" فحريّ بنا أن نوضّح مصطلح "الخلاص". هو مصطلح ديني عادة ما يُستعمل في الخطابات الصوفية، ولئن لم يذكره نعيمة ذكرا صريحا في هذا النصّ فإنّنا نستوحيه – من خلال طرحه للمسألة – إيحاء جدوليا حسب التداعي الجدولي في اصطلاح دي سوسير.

       فالخلاص إذن متّصل بالمعنى الصوفي، أي أنّ الخلاص- حسب نعيمة – هو التخلّص من المعارف الحسّية إلى معارف أخرى تمكّن الإنسان من إدراك ما هو غير حسّي، أي من إدراك "شجرة الحياة". وبذلك يكتسب الإنسان نوعا من الوعي يسمّيه نعيمة بِـ "الوعي الشامل"، يقول: "إنّه حالة من وعي الإنسان لنفسه وعيا شاملا لا مجال فيه لأيّ فاصل أو حاجز بينه وبين ربّه الّذي منه وفيه"8. فالخلاص إذن يتصل بـ “الوعي الشامل" وهذا الوعي يتّصل بالاتّحاد بالذّات العلويّة، وبذلك يكون الإنسان قد حقّق الخلاص وأصبح روحا محضا وتمكّن من معرفة الحياة. وهذه المعرفة لا تتمّ إلاّ بعد تذوّق ثمار "شجرة الحياة" وهي الشجرة التي " لم يتذوّق بعدُ ثمارَها الإنسانُ وهو يوم بتذوّقها يصبح في غنى عن الطعام والشراب فلا يجوع أبدا ولا يعطش أبدا"9.

     إنّ الحياة التي يعنيها المؤلّف هي حياة تُدرك بوسائل معرفية غير عادية، إنّها الحياة التي بموجب معرفتها يتخلّص بالإنسان من أدران المادّة ليتّحد بالذّات العلويّة ويحلّ فيها. إنّها فلسفة الحلول عند نعيمة أو ما تُسمّى بِـ"الأُحادية الروحانية"، وذلك ما يسمّيه نعيمة بـ “معرفة الحياة". ويعتبرها المعرفة الحقيقية الوحيدة وكل ما عداها جهل يقول في هذا السياق: «فمعرفة الحياة هي وحدها المعرفة وكل ما عداها جهالة، إنها وحدها النور وكلّ ما عداها ظلام، تلك المعرفة أدركها يسوع عندما أدرك أنّ الله هو الحياة»10. ولعلّ أبرز وسائل هذه المعرفة هي: الإيمان والحدس، وقد أشار نعيمة إلى ذلك في كتابه "اليوم الأخير"، كما أشار إلى ذلك محمد شفيق شيّا في دراسته النقديّة لفلسفة نعيمة في "اليوم الأخير". يقول نعيمة في كتابه: "من وحي المسيح": فالإيمان في أسمى مظاهره اعتراف المؤمن بحدود العقل المقيّد بالمحسوسات ثمّ تخطّيه تلك الحدود إلى حقيقة الوجود الّتي لا تُحس... ذلك هو الإيمان المبصر. وقليل هم المبصرون»11. أمّا الحدس فهو ضرب من المعرفة الباطنية أو ما يُطلق عليه اسم " الحاسّة السادسة"، فهو نوع من الإبصار الداخلي، ولعلّه يكون عن طريق القلب، إنّه الإبصار بعين غير العين المألوفة، فهو بتعبير هنري برغسون «النظر بعين غير العين العادية»12. ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الحدس هو «التجربة الميتافيزيقية» التي فيها تنكشف لنا ذواتنا، فندرك «المطلق» في صميم نفوسنا. 

     إنّ الوسائل المعرفية التي يطرحها المؤلّف تبدو مستعصية على العامة من الناس، إنها موجّهة إلى فئة معيّنة قد تكون المتصوّفة أو غيرها من الفئات القادرة على استيعاب تلك الوسائل وهم قلّة، ألم يقل هو نفسه: «وقليل هم المبصرون»؟ نلاحظ أنّ نعيمة يسعى جاهدا إلى بلورة مفهوم الحياة من خلال مفاهيم ومصطلحات تنحو منحى تجريديا تتّضح معالمها في الوحدة الرابعة.

     لقد عبّر صاحب الأثر - في أسلوب يقوم على الحدّ والتعريف - عن صفة توحي بنظرته للحياة قائلا: «فالحقيقة هي الحياة والحياة التي هي الروح»13. فنحن إزاء معادلة رياضية كالتالي:

الحقيقة = الحياة

الحياة= الروح

فنستنتج أنّ الحقيقة = الروح.

وإذا أردنا أكثر دقّة يمكن أن نرمز إلى الحقيقة بِـالحرف(أ) وإلى الحياة بالحرف (ب) وإلى الروح بالحرف(ج) فنقول:

(أ) = (ب)

(ب) = (ج)

إذن (أ) = (ج)

ومن هنا نلاحظ منطقيّة نعيمة في الإدلاء بآرائه واستنتاجاته من جهة، ومن جهة أخرى نشير إلى أنّ نعيمة منذ البداية يريد أن يصل بالقارئ إلى هذه النتيجة التالية: الحقيقة تساوي الروح، بمعنى أنّ الحياة الحقيقية هي فناء في الروح التي لا تُدرك بالعقل المحدود. بل الحياة هي الاتّحاد بالله، بل الحياة هي أن يكون الإنسان إلاها، ألم يقل نعيمة في "اليوم الأخير": لا قيمة للإنسان ما لم يصبح إله نفسه»؟ إذا كانت هذه الدعوة ممكنة، فكم من إله يصبح في العالم؟ ولئن اعتمد نعيمة النص الإنجيلي وأشار إلى نظرية الحلول محيلا على إنجيل يوحنّا المعمدان وتحديدا الأصحاح الرابع عشر وكذلك الأصحاح العاشر، فإنّ النص يقرّ بوحدانية الله " أحبّوا الربّ إلهكم «، وإن كانت الدعوة غير ممكنة فلِم يدعو إليها نعيمة؟ هل إنّ تصوّر نعيمة للإله هو ما نملكه نحن من تصوّر أم له معنى آخر؟  يقول نعيمة بأنّ الكون مجموعة عوالم ولكل عالم ربه الذي يهيمن عليه لكنّ الأرباب جميعا خاضعون لسلطان الله. ولقد بيّن نعيمة الفوارق بين الألوهية والربوبية. أمّا الله فقد عرّفه بأنّه الحياة التي لا نعرف لها بداية ولا نهاية، وهو روح وهو منزّه عن الشكل والصورة - وفي هذا السياق تلتقي المسيحية مع الإسلام - وهو مختلف عن الربّ ولا يمكن أن يدرك بالحواس لأنّه روح والروح لا تُدرك إلاّ بالروح. كما تلتقي المسيحية مع الإسلام في مسألة الوحي حين نقرأ ما قيل على لسان السيد المسيح «لأنّي لا أتكلم بشيء من عندي بل الأب الذي أرسلني وأوصاني ما أقول لكم... فالكلام الذي أفوه به أقوله كما قاله لي الأب»14

    أمّا مسألة المعرفة التي يطرحها نعيمة من حيث النوع فهي المعرفة المطلقة التي تسبر أغوار الماضي والحاضر والمستقبل؛ ما كان وما هو كائن وما يجب أن يكون. وأمّا أدواتها فمختلفة، منها "روح القدس" وهو ما يسمّيه نعيمة "روح الوعي الشامل"، إضافة إلى أداة "الحدس" وكذلك أداة "الإشراق"... وهي الأدوات الوحيدة الموصلة إلى الحقيقة التي هي " شجرة الحياة".

    وفي ختام هذا المبحث حريّ بنا أن نشير إلى أنّ ميخائيل نعيمة قد تجشّم صعوبة خوض غمار مثل هذه المسائل التي لا تبدو سهلة البتّة، الأمر الذي جعله يقع في التناقض في العديد من المواضع رغم محاولته إضفاء الطابع المنطقي على خطابه. وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر أنّ موضوع الاتّحاد مع الذات العلوية والأدوات المعرفية المعتمدة في فلسفة الحلول تبدو كلّها مستمدّة من الفكر الصوفي من خلال خطابات روّاده كالحلاّج وابن الفارض وابن عربي والسهروردي وغيرهم، إلاّ أنّ نعيمة يـُنكر اعتماده على رجال الدين، يقول: «إنّني لا أكتب لرجال اللاهوت ولا بوحي منهم...بل بوحي من أعمق أعماقي»15، وهنا يتجلى التناقض. كما يتّضح أيضا في إقرار النص الإنجيلي بأنّ الله له عرش وله يمين ويسار "...وله عرش في ذلك المقر وله يمين ويسار، واليمين هو مقام الشرف. ومن هنا قول يسوع إنه يجلس عن يمين الآب"16. بينما يقول في موطن آخر: «لا يمين له ولا يسار ولا عرش له ولا صولجان».

       لقد كان نعيمة معجبا بالمسيحية مأخوذا بها إلى حدّ الانبهار، يقول: «يا مسيحي! أشهد أنّك حاضر أبدا في حياتي منذ أن وعيتُ نفسي وحتّى الساعة»17، فكانت كل أفكاره نتاج هذا العشق العاطفي الوجداني فبدت أقرب إلى الانطباعية منها إلى المعقولية، يقول موجّها خطابه إلى المسيح: «وأنا فيما أستنتج لا أسير على هدى عقلي بل على نور محبّتي لك ومحبتك لي»18. ولعلّ هذا الإعجاب المفرط بالمسيحية وعدم تحكيم العقل في مثل هذه المسائل هو الذي أوقعه في بعض التناقضات فغابت الموضوعية عن أغلب مواقفه وآرائه.

      صحيح إنّ عيسى بن مريم عليه السلام رسول ذُكر في القرآن الكريم عدّة مرّات، بل دعانا الله سبحانه إلى عدم التفريق بين الرسل إذ جاء في أواخر سورة البقرة «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»19. فالدين المسيحي دين تسامح وهي سمة حميدة، غير أنّه مُغال ومغرق في تلك السّمة مقارنة بالدين الإسلامي الذي هو دين علم وعمل، وتتّضح تلك المغالاة حين اجتمع السيد المسيح بالجموع على الجبل لكي يعلّمهم دستورا أخلاقيا لهدوء النفس وسلامها وسعادتها أيضاً في الحياة فقال لهم: حينما يؤذيك أحدهم لا تقابل الشَر بمثله بل من لطمك على خدك الأيمن (أي فعل الشَر بك) فحوّل له الخد الآخر أيضاً (أي أظهر له الجانب الأخر وهو المحبّة والتسامح. وتتجلى صفة التسامح بوضوح في الإنجيل الرابع ليوحنّا المعمدان.

      رغم بعض المواقف والرؤى الانطباعية عند نعيمة الناتجة عن عشقه اللامتناهي للمسيحيّة ممّا وسم كتابه"من وحي المسيح" بطابع يسوّغ لنا تسميته بالإنجيل الخامس، فإنّنا لا يمكن أن ننكر مجهود الرجل في تقصّية كلّ التعاليم والمبادئ التي تقوم عليها المسيحية. ومن كلّ هذا استقى مفهوما للحياة يتماشى مع تلك التعاليم التي تأخذ طابعا صوفيّا يصعب تطبيقه في واقع الحال. ومفهوم الحياة بهذا المعنى تناولته مصادر أخرى ذات طابع فلسفي- ديني إلاّ أنّ نعيمة تصرّف في المسألة ليضفي عليها طابع التفرّد وطابع التفلسف بحكم ثقافة الرجل الشاملة.

      ولئن اكتسى مفهوم الحياة عند نعيمة طابع الفرادة في اغلب جوانبه فإنّه ظلّ يتأرجح بين النصرانية والإسلام نظرا لطبيعة المسألة وارتباطها بالمقدّس، فالأديان المتصلة بالرّسل وتشهد لها الكتب المقدسة بذلك فهي مهما تنوّعت تسمياتها واختلفت تفاصيلها فإنها سليلة مصدر واحد يمتح من رافد واحد مهما اختلفت المشارب، ويصعب على من يحاول الفصل بينها فصلا جذريا. فأفكار نعيمة القريبة من الفلسفة هي بمثابة أسئلة تلقي بضلالها على مفاهيم مجرّدة أبوابها مشرعة على البحث. وضلال الأسئلة هو التعبير عن الفرادة المكرورة أو عن قدامة الجدّة وعن تصارب الاقتدار والانعتاق تصاربا هو منهما كالجذمور أو الأرمولة الممتدّة بعيدا في أرومة الوجود.

بقلم: مختار الماجري- أستاذ أوّل مميّز لغة عربية/ تونس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- "من وحي المسيح" مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1987

2 - هذا الفصل يقع بين فصليْ " السبت و الإنسان" و " يسوع و الإنسان" من كتاب " من وحي المسيح" لميخائيل نعيمة.

3-سُمّيت بـ"السامريّة" نسبة إلى السامرة في نابلس وهم طائفة من اليهودلا تعترف من العهد القديم إلاّ بالأسفار الخمسة الأولى التي تشتمل على الشريعة. وقد قبلوا رسالة المسيح ولم يكن بينهم وإيّاه صدام عقدي، أمّا علاقتهم باليهود فتقوم على التنافر والتضاد. 

4 - " من وحي المسيح" مؤسسة نوفل ،بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية 1987 ص 163.

5 – المصدر نفسه ص 169.

6 - المصدر نفسه ص 169.

 7- المصدر نفسه ص 169.

8 - المصدر نفسه ص 63.

9 - المصدر نفسه ص170

10 - المصدر نفسه ص170

11 - المصدر نفسه ص175

12 – انظر : Henri Bergson : Essai sur les données immédiates de la conscience, EDITION ORIGINALE, (1889).

13 - " من وحي المسيح" مؤسسة نوفل ،بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية 1987 ص171

14 – المصدر نفسه ص112

15 - المصدر نفسه ص35

16 - المصدر نفسه ص103

17 - المصدر نفسه ص7

18 – المصدر نفسه ص8

19 - سورة البقرة الآية 285

بقلم: مختار الماجري- أستاذ أوّل مميّز لغة عربية/ تونس

الجمعة، 22 يوليو 2022

العلاقات بين الصور البيانية في نظرية عبد القاهر الجرجاني حدود التقاطع/ حدود التداخل بقلم: مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس
 

العلاقات بين الصور البيانية في نظرية عبد القاهر الجرجاني

حدود التقاطع / حدود التداخل

بقلم: مختار الماجري

        تنضوي الصور البيانية كلّها في البلاغة العربية ضمن علم البيان، ومن هنا نشير إلى أنّ البلاغة العربية استتبّت على العلوم التالية: الاستعارة والتشبيه والمجاز والكناية. فهذه الصور البيانية في المدوّنة البلاغية مباحث قائمة بذاتها وليس فيها تداخل إلاّ في مستوى المصطلحات سواء قبل عبد القاهر الجرجاني أو بعده. غير أنّ عبد القاهر أضاف إلى التراث البلاغي ما يميّز نظريته. ففيم تتجلّى إضافة عبد القاهر؟ وما الذي يسوّغ العلاقات بين الصور البيانية في نظريته؟ وهل هو يأخذ بالتداخل بينها في كلّ فصول كتابيه: "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة"؟

       ترتبط بداية النشأة لعلوم البلاغة العربية ارتباطا وثيقا بالجاحظ وابن المعتز. فمع الجاحظ مثلا نشير إلى أنّ هذا العلم بدأ ينشأ من خلال الصراعات الدينية بين المعتزلة - التي ينتمي إليها الجاحظ - وأهل الظاهر. هذه الصراعات ازدادت حدّة في القرنين الثاني والثالث، ويُعتبر كتاب " البيان والتبيين" للجاحظ، من أهمّ المراجع التي سيستفيد منها البلاغيون في عصور لاحقة معوّلين خاصة على المصطلحات الجديدة التي اعتمدتها المعتزلة(1) في خضمّ صراعها مع أهل الظاهر(2). ففي "البيان والتبيين" ظهرت ثنائية الحقيقة والمجاز وهي ثنائية ستبقى ثابتة من ثوابت اللغة العربية. ونشير إلى أنّ الجاحظ لاحظ أنّ المجاز مظهر من مظاهر الإخراج فحسب، ونعني بالإخراج؛ إخراج الكلام على غير مخرج العادة. والجاحظ سيكون من الأوائل الذين يؤكّدون أنّ قيمة الأدب لا تكمن في معانيه، إذ المعاني مطروحة على قارعة الطريق، وإنما تكمن قيمته في تجويد العبارة وحسن السبك وبراعة النظم. وهذا يعني أنّ المجاز ليس إلاّ إخراجا لمعنى قديم في ثوب جديد، وكأنّ الجاحظ بذلك ينفي عن المجاز قدرته على توليد المعاني. ويستمر الصراع بين أهل الظاهر والمعتزلة في شكل جدل تنشأ فيه ومن خلاله علوم البلاغة لتكون سلاحا فكريا ودينيا قبل أن تكون لها غايات أدبية أو فنيّة.

       كان هذا مع الجاحظ، أمّا مع ابن المعتز، الذي وضّح المسألة أكثر، فيعتبر الكثير من المؤلفين أنّ كتابه "البديع" مثّل منعرجا حاسما في نشأة البلاغة العربية، بل علامةً في تاريخ النظرية الأدبية عند العرب. فهو أوّل كتاب اعتنى بالبلاغة وسعى إلى تأصيلها وتبويبها وترتيبها مؤكّدا من خلال كلّ ذلك استقلالها عن بقية العلوم الأخرى. ويشير ابن المعتز في مقدمة كتابه المذكور إلى أنّه أوّل كاتب يخصص للبلاغة تأليفا مستقلاّ بذاته، وبهذا يعترف كلُّ البلاغيين الذين جاؤوا بعد ابن المعتز. من هنا تصبح أهمية الكتاب متمثلة في تخليص البلاغة من بقية العلوم التي احتضنتها ردحا من الزمن. ولم يكتفِ بذلك ابن المعتز، بل بوّب في كتابه لأوّل مرّة علوم البلاغة وثبّت مصطلحاتها فصارت من بعده مصطلحات قارّة.

       فمثلا لو نظرنا في التشبيه عند ابن المعتز نجده يرى فيه "نمط الأعراب الفصحاء" ومن خصائص التشبيه الجاهلي "الوضوح ودنوّ المأخذ" وربّما كان التشبيه على هذا النحو أثرا من آثار التقاليد الشفوية الجاهلية، فقد اشترط ابن المعتز، معتمدا في ذلك النص الجاهلي، أن يكون التشبيه جليا يدركه السامع من الوهلة الأولى. أمّا إذا نظرنا في المجاز عند الجاحظ فنجد عبارة "المجاز" لم يستتب معناها ولم تستقر دلالتها إلاّ مع الجاحظ الذي استخدم هذا المصطلح بالمعنى المقابل للحقيقة، فالمجاز عند الجاحظ ضرب من التوسّع من أهل اللغة ثقةً من القائل بفهم السامع، ويعترف الجاحظ أنّ المجاز قديم في اللغة جارٍ في كلام العرب، وأنّ القرآن الكريم قد جرى على السَّنَنِ العربية في عباراته ومجازاته... على أنّنا نلاحظ أنّ غاية الجاحظ من كلّ أعماله لم تكن بلاغية محضة بل كانت فكرية في المقام الأوّل. فانتماء الجاحظ إلى المعتزلة سيوجّه مباحثه ويلوّن دراساته. فما هي الصور البيانية؟ وماهي أوجه التداخل والتقاطع بين الصور البيانية في غير نظرية عبد القاهر؟ أي قبل الجرجاني؟

        تتمثّل الصور البيانية في التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية. فالاستعارة مجرّد نقل للفظ عن أصله اللغوي وإجراؤه على ما لم يوضع له بسبب المشابهة. وكثيرا ما تتداخل الاستعارة بالتشبيه، وكلتا الصورتين تنهضان بوظيفة واحدة "إثبات المعنى". وارتبطت أو تداخلت الاستعارة من جهة أخرى بالمجاز، فهي ضربٌ من المجاز اللغوي علاقته المشابهة دائما. فهي (الاستعارة) إذن "تشبيه حُذف أحدُ طرفيْه" كما اتفق كلُّ البلاغيين على أنّ لكل مجاز أصلاً حقيقيّاً يرتبط به ارتباطا وثيقا، والأصل الحقيقي هو المعنى. أمّا المجاز فهو مجرّد فرع مرتبط بذلك الأصل. ثمّ إنّ المجاز عند البلاغيين لا يمثّل إطلاقا سائبا لطاقات الخيال وإنما هو ارتباط وثيق بالإرث البياني العربي، أي يجب أن يكون المجاز على صُوَرٍ ألفَتْها الذائقة العربية. أمّا الكناية فنجدها في الموروث البلاغي ذات تعريفات مختلفة ومتقاربة نسبيّا، كأن يعرّفها أبو عبيدة (3) بأنّها ما فُهم من سليق الكلام من غير أن يذكر اسمُه صريحا في العبارة. أما الجاحظ فيشير إلى أنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والكشف. أمّا المبرّد (4)، فيرى أنّ الكناية على ثلاثة أضرب: 1- التعمية والتغطية، 2- التفخيم والتعظيم،3- الرغبة عن الخسيس إلى ما يدلّ على معناه في غيره.

      فلو نظرنا إلى ما تشترك فيه هذه التعريفات للكناية لوجدناها جميعا لا تخرج عن حيّز التستر والخفاء. إذن فهي ضرب من المجاز، وهنا يصحّ لنا القول بالتداخل بين هذه الصور البيانية حينا والتقاطع حينا آخر. ولعلّ أبرز وجوه التداخل تتجلى في المستوى الدلالي، أي في مستوى دلالة المطابقة وهي دلالة اللفظ على تمام ما وُضِع له، ومستوى دلالة التضمّن وهي دلالة اللفظ على جزء ما وّضع له، ودلالة الالتزام، وهي دلالة اللفظ على معنى خارج عن مسمّاه لازم له. والصور البيانية عندهم تنشأ في الثانية والثالثة، أي فيما يعّده البلاغيون دلالة عقلية تحصل بانتقال العقل من الكل إلى الجزء في دلالة التضمّن. ومن الملزوم إلى اللازم في دلالة الالتزام. وما يجمع هذه الصور البيانية عندهم في إطلاق الكلمة من حيّز الوضع إلى حيّز الاستعمال. ويتّضح التداخل أيضا في الوظيفة البيانية، ذلك أنّ البيان عند العرب ارتبط بمعاني الفهم والإفهام بغية إظهار المقصود وتوضيحه وخاصة لدى الجاحظ. وبذلك ارتبطت كل الصور البيانية بهذه الوظيفة المتكونة من الفهم والإفهام، أي الإبانة والإيضاح. هكذا نلاحظ لدى القدماء مدى تداخل الصور البيانية خاصة في الخلط بين المصطلحات والوظائف.

       أمّا التقاطع، وإن لم يكن جليّا، فإنّه يتّضح على الأقل من خلال تقسيمهم للصور البيانية، فالتقسيم في حدّ ذاته يوحي باختلاف صورة عن أخرى إضافة إلى التعدّد. لكن هذا التقسيم والتفريق بين الصور البلاغية يبقى شكليّا ما لم توضع له حدود صارمة تفصل بين الصورة والصورة في جميع المستويات وخاصة مستوى الوظيفة التي تؤدي صورة ما. لذا نقول إنّ البلاغيين القدامى لم تتبلور لديهم نظرية أو نظريات واضحة في البلاغة العربية، حتّى وإن تجلّت ملامح بعض النظريات وأخذت في الوضوح مع الجاحظ وابن المعتز، فإنّ التبلور الواضح لم يتمّ بعد إلاّ مع عبد القاهر الجرجاني إن لم نقل تبلورا تامّا، رغم أنّ نظريته لا تخلو هي الأخرى من تداخل بين الصور البيانية. ففيم تتجلّى حدود التداخل والتقاطع في نظرية الجرجاني؟

      بات من الواضح أنّ لعبد القاهر نظرية بلاغية رسم فيها وجهة نظره وآرائه في الصور البيانية ووظائف كل صورة. هي نظرية أخذت من الموروث البلاغي وتجاوزته، إذ لا يمكن لنصّ أو نظرية ما أن تُخلق أو تنشأ من عدم. لكن رغم تبلور نظرية الجرجاني ووضوحها فهي لا تخلو من أوجه تداخل وتقاطع وخاصة التداخل الذي يعلن عن عدم تشكّل الرؤية أو النظرية تشكّلا تاما.

         فعلى مستوى التداخل نجد الجرجاني في كتابيه "الدلائل" و "الأسرار" - اللذيْن تظمّنا المنظومة البلاغية – يُلحِق الظواهر المجازية بالنظم، إذ المجازات عنده من نتائج الاختيار، يقول " لا يُتصوّر أن يكون هناك فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد اُلّف مع غيره" (5). وعليه فإنّ الجرجاني ينفي أن تدخُلَ الاستعارة اسما أو فعلا خارجا عن تركيب ما، أو في غير سياق معيّن، يعني أنّ الاستعارة لا تكون في لفظة مفردة. وهنا نلاحظ التداخل بين النظم والمجاز، حيث يصبح المجاز قائما على النظم، إذ لا يتحقق إلاّ فيه، فلا مجاز إذن من غير نظمٍ للكَلِمِ وتعالق العبارات ببعضها، ولا يتحقق المجاز طالما أنّ اللفظة مفردة.

     ويتجلّى التداخل أيضا في المستوى الاصطلاحي، حيث استخدم الجرجاني مصطلحات التشبيه في الحديث عن الاستعارة، يقول الجرجاني: "الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشيء وتظهره فتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه" (6). وهكذا نجد في أغلب حديثه عن الاستعارة حضورا لمصطلح التشبيه، ولعلّ ما يبرّر هذا النوع من التداخل بين مصطلحيْ الاستعارة والتشبيه هو طبيعة العلاقة بين الصورتين، فهي علاقة وطيدة فكلاهما يقوم على التشبيه والمشابهة، وبالتالي فإنّ هاتين الصورتين ترتدّان إلى طبيعة واحدة، وهذا ما أقرّه البلاغيون السابقون وأكّده الجرجاني فيما بعد. ولعلّ الدافع الذي جعل عبد القاهر يجمع بين المصطلحين هو أنّه لا يريد أن يقطع مع السابقين وإنما يعيد قراءة التراث البلاغي كما استقرّ عند الجاحظ وابن المعتز. 

       ثمّ نلاحظ التداخل في مستوى آخر هو ردّ الصور البيانية في أصل عقلي صريح. فهذه القراءة هي نتاج نظريته في اللفظ والمعنى والصورة، يقول الجرجاني "لا يتصوّر أن تعرف للّفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخّى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك..." (7) يبيّن الجرجاني في هذه القولة إنّ حسن الصورة البيانية وجمالها يُردّان إلى العقل "إعمال الفكر" فقد استعاض عن جمالية العبارة بجمالية الفكرة. فالحسنُ إذن يُردّ إلى الذهن لا إلى وقع الصورة اللغوية في نفس المتلقّي. فجمالية النص تكمن في قوانين العقل أو أقيسته المنطقية، وهو ما يذكرنا بقولة سقراط "كل ما هو معقول جميل". غير أنّ الجرجاني لم يقتصر في نظريته على مواطن الجمال وأسبابها في الصور البيانية بل عاد أيضا إلى أصولها فأكّد أنّها عقلية. ولا يُعرف معنى الصورة إلاّ عن "طريق المعقول"، يقول الجرجاني مشيرا إلى أنّ الكناية تخاطب "عقل المتقبّل"، «وإذا نظرت إلى الكناية وجدت حقيقتها ومحصول أمرها أنّها إثبات لمعنى أنت تعرف ذلك المعنى عن طريق المعقول دون طريق اللفظ» (8)

      إذن نلاحظ ردّ هذه الصورة البيانية إلى العقل، والعقل أو الفكر عنده يتلبّس بالمعاني لا بالألفاظ. وعليه فاللغة عند عبد القاهر تتمثّل الفكر أو هي تعبّر عنه، أي أنّ الفكر يحرّك اللغة ويحدّد طريق ظهورها. فهذا الأمرُ يُفضي بنا إلى التساؤل التالي: هل ثمّة نحو للفكر ونحو للغة؟

      ويتّضح التداخل أيضا في نظرية الجرجاني على المستوى الدلالي، ونعني بذلك حديثه عن المعاني الأُوّل والمعاني الثواني، أو ما يسمّيه بـ"معنى المعنى". ونجد هذه المعاني- حسب الجرجاني – في الكناية، إذ يشير إلى أنّه في كلّ كناية تنتقل الدلالة من دال إلى مدلول أوّل ومن مدلول أوّل إلى مدلول ثان، أي من صورة حسيّة إلى معنى مجرّد؛ يقول عبد القاهر الجرجاني "أن تقول «المعنى» و«معنى المعنى» تعني بالمعنى المفهومَ من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه من غير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل مع اللفظ معنى، ثمّ يُفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر" (9)، ومثال ذلك: من "كثير الرماد" إلى " الكرم".

     إذن فالحديث عن معان متعدّدة تتولّد عن نفسها هو إعلان صريح بالتداخل بين الصور البيانية أو في مستوى معاني الصورة الواحدة. وتتجلّى مظاهر التداخل بين الصور البيانية في مواضع كثيرة في نظرية عبد القاهر من خلال كتابيْ " الدلائل" و "الأسرار". وجانب التداخل هذا لا يُفصح بمفرده عن حقيقة العلاقات بين الصور البيانية في نظرية الجرجاني ما لمْ ننظر في جانب التقاطع بين تلك الصور حتّى تتضح الرؤية المتصلة بالعلاقات القائمة بين الصور البيانية في نظرية الجرجاني البلاغية، فما هي حدود التقاطع إذن؟

     إذا ما رمنا التصاقا بالنصّين المصدرين أي" الدلائل" و "الأسرار"، نلاحظ أنّ الوجه الأوّل للتقاطع يتجلّى على مستوى منهجيته في الكتابة، حيث يكاد كل مبحث من مباحث الصور البيانية يستقلّ بذاته، أي كأنّ كل مبحث في صورة معيّنة يكاد يخصّص قسما بذاته، ممّا يوحي بتقاطع العلاقات بين الصور. إضافة إلى ذلك، نشير إلى ملمح آخر يوحي بالتقاطع ويتّصل بالمستوى الوظيفي، ويمكن أن نستدلّ على ذلك من خلال النظر في وظائف بعض الصور البيانية حتى نبرز حدود التقاطع. واختيارنا لبعض الصور يكون على سبيل المثال لا الحصر. فمثلا لو تناولنا التشبيه والاستعارة من حيث وظيفة كلّ منهما نجدهما يتقاطعان رغم التداخل الذي غالبا ما يتجلّى في مستوى المصطلح أثناء حديث الجرجاني عن إحدى الصورتين.

     ففي التشبيه يرى عبد القاهر علاقة مقارنة تجمع بين طرفين متمايزين لاشتراكٍ بينهما في الصفة نفسها أو في حكمٍ لها. ويمكن أن نختزل فاعلية التشبيه عند عبد القاهر في عنصرين: فالتشبيه عنده نشاط تصويري يقوم على قاعدة حسّية. هذه الدلالة الحسية ليست لذاتها وإنما يُقصد منها الأُنس والتأثير. فالفاعلية التي أشرنا إليها هي الوظيفة التي يؤدّيها التشبيه. أمّا الاستعارة – التي يعتبرها الجرجاني، على خلاف السابقين، قائمة على فكرة الادّعاء لا النقل- فهي ليست مهارة لغوية وإنّما هي قيم فنّية ووجدانية. فوظيفة الاستعارة عند الجرجاني ليست إثبات شبه خارجي وإنما رسم صورة لما يعتمل في النفس. وعبد القاهر يتنبّه إلى أنّ العلاقة الرابطة بين المستعار له والمستعار منه لا تقوم على المدركات الحسّية أو المرئيات وإنما على الإحساس النفسي. 

      ويقيم عبد القاهر الجرجاني الفرق بين الاستعارة والتشبيه على أساسين هما مقولة الادعاء، حيث يدخل المشبّه في جنس المشبّه به في حالة الاستعارة، ويبقى خارج جنس المشبه به في حالة التشبيه (10)، ومقولة طريقة الإثبات، حيث يميّز بين الصيغ النحوية الخبرية والحالية (11). ويؤكّد الجرجاني في "دلائل الإعجاز" هذا الفرق بين المصطلحيْن المذكوريْن على أساس آلية عمل كلّ منهما (12). وهذا الاختلاف يوحي بالتقاطع. والتقاطع بين الصور البيانية واضح بصورة جليّة إذا ما نحن تابعنا تجلّياته في مختلف الوظائف.

      وعموما ما يمكن أن نستنتجه من خلال نظرية عبد القاهر الجرجاني البلاغية، أنّه أخرج الظواهر المجازية من مجال نظرية النحو لأنّها ناجمة عند عبد القاهر عن نوايا ومقاصد ترتيبية راجعة إلى المتكلّم وظروفه وملابساته. كما أنّ مسائل علم البيان لا تنفصل عنده عن مسائل علم المعاني. والحق أنّ المباحث البلاغية لم يكن بعضُها مفصولا عن بعض في زمن الجرجاني، وكل ما في الأمر أنّها اتّجهت في عهد السكاكي إلى فصل هذه العلوم من جهة موضوعها وإلى جمعها من جهة الغاية اللغوية التي تشملها. وفي هذا الإطار يمكن أن نعُدّ عبد القاهر مفكّرا حاول أن يبيّن أنّ هذه الظواهر اللغوية ذات منشإ واحد أو أن يدل على الأساس الذي يجعل هذه الظواهر اللغوية تلوينات (تشبيه، استعارة، كناية...) تعلوه [تعلو هذا الأساس]، ولكنّها لا تغيّر من طبيعتها تغييرا يذهب بها، فكأنها تنوّع تلك الطبيعة، بحيث يرجع الموضوع اللغوي عنده إلى نظرية تنظيمية متينة. وبالتالي يكون من المفيد أن نعيد بناء النظرية عنده من خلال النظم.

      وحاصل القول إنّ الدرس البلاغي عند العرب درسٌ مدقّق يصعب أن تكتنه مختلف تفريعاته بمعزل عن السياق الذي نشأ فيه أي عن منبته لا البلاغي وحسب وإنما الثقافي بالمعنى الواسع للكلمة. ولاشكّ أنّ الجرجاني قد أضاف إنجازات هامّة إلى المبحث البلاغي لا يمكن تجاهلها، ولكن الناقد المعاصر قد يختلف اختلافا جذريا مع عبد القاهر فيما يتّصل بماهية الصور البيانية. ففيم تتمثّل وجهة النظر النقدية الحديثة؟

بقلم مختار الماجري، أستاذ أوّل مميّز للتعليم الثانوي/ تونس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

1- الْمُعْتَزِلَةُ (والمفرد: مُعْتَزِلِيّ) هي فرقةٌ كلاميّةٌ ظهرت في أواخر العصر الأموي بداية القرن الثاني الهجري في البصرة وازدهرت في العصر العباسي.  لعبت المعتزلة دوراً رئيساً على المستوى الديني والسياسي. غلبت على المعتزلة النزعةُ العقلية فاعتمدوا على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل.

2- أهل الظاهر نسبة إلى الظاهرية وهي مذهب فقهي، وقيل منهج فكري وفقهي، نشأ المذهب في بغداد في منتصف القرن الثالث الهجري ، إمامهم داود بن علي الظاهري ثم تزعمهم الإمام علي بن حزم الأندلسي. وتعد بعض المصادر أن الظاهرية هو المذهب السني الخامس.  المدرسة الظاهرية تنادي بالتمسك وفق رؤيتها بالقرآن الذي هو كلام الله وسنة الرسول وذلك بحسب الدلالة المتيقنة منهما وإجماع الصحابة، وطرح كل ما عدا ذلك من الأمور التي تعتبرها ظنّية (كالرأي والقياس واستحسان ومصالح مرسلة وسد الذرائع وشرع من قبلنا...).

3- مَعْمَر بن المُثنّى 110 - 209 هـ / 728 - 824 م: أديب، لغوي، إخباري، ولد ومات بالبصرة. زار بغداد، ودرس على أبي عمرو بن العلاء و يونس بن حبيب، فصار أحد ثلاثة تعاصروا وتنافسوا: هو، وأبو زيد، والأصمعي.  امتاز عنهما بمعرفة أيام العرب وأخبار الجاهليين.

4- أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المعروف بالمُبَرِّد ينتهي نسبه بثمالة، وهو عوف بن أسلم من الأزد. (ولد 10 ذو الحجة 210 هـ/825م، وتوفي عام 286 هـ/899م)، أحد العلماء الجهابذة في علوم البلاغة والنحو والنقد، عاش في العصر العباسي في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).

5 - عبد القاهر الجرجاني «دلائل الإعجاز» مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة، ص 361

6المرجع السابق ص 67.

7- المرجع السابق ص 96

8- عبد القاهر الجرجاني، «أسرار البلاغة» دار المدني بجدّة ص404

9- عبد القاهر الجرجاني «دلائل الإعجاز» مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة، ص 262

10- انظر أسرار البلاغة، ص 322 و323

11- المرجع السابق ص 325-327.

12 انظر، دلائل الإعجاز، ص 56

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقلم مختار الماجري، أستاذ أوّل مميّز للتعليم الثانوي/ تونس

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين