‏إظهار الرسائل ذات التسميات إصدارات جديدة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات إصدارات جديدة. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 22 يناير 2023

تقديم "جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان، بقلم النّاقد محمّد سلاّم جميعان

 

الشاعر والنّاقد: محمّد سلاّم جميعان/ الأردن

تقديم "جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان،

بقلم الأديب والشاعر والنّاقد محمّد سلاّم جميعان

 

[رؤية إبداعيّة متميّزة قدّمها النّاقد والمفكّر الشّاعر محمّد سلّام جميعان في حفل توقيع كتاب "جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان يوم الأربعاء 18/ 1/ 2023 في مركز الملك عبد الله الثاني الثقافي- الزرقاء]:

"لا أدبَ بدونِ حياةٍ أو شعور. ومِثلما أنشأَ اللهُ العظيمُ الكونَ بكلمة، علَّمَ الإنسانَ -أحبَّ المخلوقاتِ إليه- علّمه بالقلم، فطارَ الإنسانُ على أجنحةِ خياله إلى آفاقِ أمانيه وأحلامه، وطاف يُناجي الفكرَ والشُّعورَ عبر أطوار حياته المختلفة.

فمنذ أنْ علّمَ اللهُ آدمَ الأسماءَ، لم يَطْوِ الإنسانُ شِراعَ قلمه. ومازالَ الخَلْقُ يسْطُرون، تارةً يكتبونَ أنفسَهم، وتارةً أخرى يكتبون الناسَ من حولهم والحياةَ ومجالي الفكرِ وخلجات الأحاسيس.

رويداً رويدا، وبخطوٍ واثقٍ مطمئنّ تَعبرُ الأديبةُ كفاية عوجان صرْحَ الأدبِ المُمَرَّدِ بثلاث قواريرَ حِسانٍ ملأتْها من ينابيع نفسها الخصبةِ بالمعنى، وروحِها العالية في مدارج جمالِ الحَرْف.

نعم، ثلاثُ قواريرَ حِسانٍ تعبقُ برؤاها وتسيلُ منها في خاطرِ كيف قارئها الصورةُ والكلمةُ والفكرة.

أنا أعني ما أقولُ، ولا أنفثُ في العُقَدِ، ولا أقولُ أحاجيَ وألغازًا.

تأمَّلوا معي كيف ملأتِ الكاتبةُ قواريرَها الثلاث، كلُّ قارورةٍ منها حَمْلُها وفِصالُها في عامين:

-              حديثُ الصمت عام 2018

-              من فيض الوجدان عام 2020

-              جارة القمر عام 2022

لقد وقفتُ متأمّلاً عند هذه العناوين، وقلتُ لن أُلقيَ رحلي قبلَ أنْ أقصَّ عليكم نبأً عنها، وأولُّها زمانا "حديث الصمت". فاجتماعُ الحديث والصّمت فيه مفارقةٌ لطيفة بين أمرين متباينين، فكأنَّ للصمتَ فمًا يتكلّم محاطاً بهالةٍ رهيبة من الهمس الشّفيف المليء بالموجات الصّوتيّة شديدةِ الانتظام. تسمعُها وتكاد تلمسها من شدّة وضوحها ونجواها. فالصّمتُ هو اللّغةُ الّتي تحوي كلَّ اللّغاتِ. ففي حديث الصّمت يسكتُ اللّسان ويتكلّم القلب، فهي تستمدُّ كلماتِها من قلبِها وروحِها بنفسٍ راضيةٍ مطمئنّة، تتوارى خلف صمتها وهي تتحدَّثُ للعالَم الخارجيّ من وراءِ حجاب.

أمّا في فيضِ الوجدان، فتخرجُ قليلاً من ثوبِ تقمُّص الذاتِ وتَتَّشِحُ بقوسِ قُزَح، فصار الصمتُ فيضًا مُشمِسًا.

حتّى إذا صارت " جارة القمر" أضاءتْ من علٍ بكمال الصّورة والإيقاعِ والمشهد، علامةً على الزّمنِ والتاريخ. وجارة القمر هو كوكبُ الزُّهرةِ لا ينفكُّ عن القمر مكانًا ولا زمانًا، حتّى وإنْ كان القمرُ كلَّ يومٍ هو في شأن... يضيء اليومَ من مكانٍ، وغدا من مكانٍ آخر... يبدأُ هلالاً ثمّ يأخذ بالامتلاء والاكتمال والتزايد، ويتوسَّطُ السماءَ بدراً منيراً.

وقد تسألونَ أين تجدون في "جارة القمر" معنى المفردة وروحها، وكيف رنَّتها وصِبغَتها ولونها؟

فأقولُ بإشارة سريعة: لا تنفصمُ القصيدةُ عن السياق الدلاليِّ للعنوان. وتأمّلوا معي حين تقرأون "جارة القمر" عناوين القصائد التالية وكيف حلّت في بنيتها الشفيفة مفردةُ القمر: منزل الروح، نبض مشاغب، مناجاة تبعثرها الريح، تأويل، خشوع.

ففيها يعلنُ القمرُ عن نفسه لفظاً ومعنىً ومنزلة، كقولها:

ما زالَ يسكُنُ خَلْفَكُم فوقَ الجِدارِ

بقيّةٌ من ذكرياتٍ

نَبْضُها هذي الصُّوَرْ

فَلِمَنْ سأهديها إذا ناجاكمُ ضوءُ القمرْ؟

كنتم هنا الجنائنَ المعلَّقةْ

فكيف أضحتْ رِعشةُ الحنين

في صدوركم ممزَّقةْ.

ففي الروحِ الإنسانيّة عطشٌ لا ينطفئ إلى هذا الجمال التعبيريّ وهذه الموسيقى المتناغمة كخرير الماء، وحفيف أوراق الشجر.

ففي كلمات كفاية نغمٌ وموسيقى عند حدود كلِّ مقطعٍ وانطلاقةٍ مع موجاتِ الأثير وهي تنتقلُ من وحدةٍ تعبيريّة إلى أُخرى كما ينتقلُ القمرُ من فَلَكٍ إلى فلك.

لا أقول لكم اقرأوا الكلمات، بل اقرأوا الخلجات والشعورَ في الكلمات، ليظلَّ دمُ العبارات دافئاً في مشاعركم.

بلغةٍ شاعريّةٍ كتبت كفاية عوجان نصوصها. وما أشقانا نحنُ الأدباء حين نشغل بالنا وفكرنا في الأجناس الأدبيّة ونمنحها صكوك الغفران في الشّعر والنثر... دعونا نعرف معنى التسامح والغفران ونعيشُ حالة من التعايش الفنّي الّذي تعيش فيه المذاهب الفنّيّة على تباينها جنباً إلى جنب حتّى يتولّى الزمانُ أمر الفصل في هذه المذاهب، ولنَنْتَصرْ للجمال حيثما كان في أيِّ لونٍ أدبيٍّ جاء.

لقد قرأتُ "جارة القمر" مرّات؛ مرّة بخشوعٍ متصوّفٍ عابد، ومرّة بإحساس شاعر، ورأيتُ بعين القلب كيف تفتحُ نصوصُ كفاية أذرُعَها للعصافير الزائرة، ولا تبخلُ على واحدٍ بعريشةِ ظلّ، أو ورقٍ أخضر. ففي نصوص كفاية من شاعريّة الحسّ والشعور ما يكفي مزاجَكَ ليشعر كيف كلُّ نغمةٍ تجذبُ نغمة وكيف كلُّ قرارٍ ينادي قراراً حتّى تكتمل سمفونية النصّ عندها فتغدو عالَماً كاملاً بشموسه ومحيطاته ومجرّاته، سواء ما كان من هذه النصوص نشيجاً مكتوماً أو بسمةً مُخْضرّة.

الفنّ الأدبي في طراز هذه النّصوص كالفنِّ المعماريّ، يمكن من خلاله توليد أشكالٍ لا حصر لها. فكما أنّ الفنّ المعماري يعتمد وحدةً أساسيّة هي الحجر لإخراج ألوف التصاميم فإنَّ الوحدة الأساسيّة في هذه النصوص هي النغم.

أحيي كفاية عوجان إنسانة وأديبة، تعمل بصمتِ، كالزهرةِ ترسلُ أريجها بلا ضوضاء، وتبثُّ كلَّ حينٍ في قنديل إبداعها زيتاً جديداً يضيء نصوصها كسنا البرق.

وأحيّيي أُسرتها وعائلتها وهي ترى شريط حياتها وإبداعها ممتدًّا في الزمان.

وأحيّي حضوركم وإصغاءكم

وأُسلِّمُ عليكم "

محمّد سلاّم جميعان/ الأردن

الثلاثاء، 12 يوليو 2022

قراءة في رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف المجهر اللّغويّ النّافذ من الظّواهر إلى الباطن (4) بقلم: صالح مورو/ تونس

قراءة في رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف

المجهر اللّغويّ النّافذ من الظّواهر إلى الباطن (4)

بقلم: صالح مورو/ تونس

 

*الاسترجاع ودوره في الفواصل الزّمنيّة التّاريخيّة

*لوّاجيست الماضي، رجل المقعد الأمامي-الخلفي:

*حاضره: أواخر العشريّة الأولى من الرّبيع العربي، واقعه بين يدي خليفة حفتر وفايد السّرّاج والمبعوث الأممي... كان سائق سيارة أجرة بليبيا 2007 وسائق شاحنة إغاثة تابعة للأمم المتحدة بجنوب ليبيا باتجاه دارفور، واليوم أصبح لا مقود بين يديه ولا نجمة بكامل دلالاتها. يعيش التيهَ والضياع.              

*ماضيه القريب والبعيد: "عهد القذافي وكيف كانت جرائم القتل تتحل داخل القبيلة والحاكم ما يتدخّلش فيها واللّيبيّة اليوم يتقاتلو موش باسم القبيلة ولكن باسم المصالح الفرديّة... لحساب القوى الأجنبيّة." حنينه وشوقه لتاريخ مدينة غمراسن بولاية تطاوين والتي كانت عاصمة دولةٍ ما بين القرنين الخامس عشر والسّادس عشر، كان اسمها "قصر حمدون". هذه العاصمة سَاسَها رجل بمن فيها وما حواليها من قبائل عربيّة وبربريّة، بعد أن جمع رؤساءها وصالح فيما بينهم فأصبحوا بذلك قوّة إقليميّة اتحاديّة. هذا الرّجل القائد، جاء من السّاقية الحمراء بالمغرب على ظهر ناقة، والذين معه ستّةٌ من رفاقه، غلاظ شداد، لا يعصون سيّدهم ما أمرهم... رحماءُ بينهم، أشدّاءُ على الأعداء... اسمه "الشّريف الإدريسي" قائدُ دولةِ ورغمّة وعاصمتها "قصر حمدون".                                                              

*مُستقبله: يَحلمُ بعودة الماضي التّليد. قال: "شوف يا ولدي، التقدّم الي صارت عليه الشعوب حكاية فارغة... والموديرنيزم والدّيمقراطية والأحزاب والتعدّدية وحقوق الإنسان والانتخابات... موش متاعنا... يحبُّو يلبّسو برطلّة الانتخابات للقبائل اللّيبيّة... حتّى لينا نحن التوانسة خاطيتنا الدّيمقراطيّة... القبيلة مازالت في أعماقنا... والدين والدّيمقراطيّة كيف الشّمس والظّل... يَا مدّيّن، يا ديمقراطي... الاثنين مع بعض موش ممكن. أروبّا ما صارتْ ديمقراطيّة إلا ما خلعت الدّين وخلّاتو في الكنيسة... اليوم ليبيا يلزمها راجل يرجّع اتحاد القبائل... لو يطل علينا (الشريف إلادريسي) فجأة... نأكّدلك اللّوّاج الماشية من تونس لبنقردان وإلا لتطاوين تتعبّا في ربع ساعة"... كانت هذه رؤية لوّاجيست الماضي وما تمثّله خلال فترة العشريّة الأخيرة وما قبلها... قبل ثورة الربيع العربي بالجارة ليبيا... لكنّ السّيلَ جارف والأمر خلاف ما يرى...                                                                                                  

لوّاجيست الحاضر... القائد:

*لوّاجيست الحاضر: واقعهُ حاضرٌ مَعيش... ضمن واقعٍ مُعاصر وجبتْ مسايرته داخل فترة تاريخيّة تشهد تحوّلات عالميّة عميقة بحكم العولمة والمسار الحضاري... وهو ما يقتضي الصبر والأناة والتّروّي والكثير من الحكمة... وبما أنّ هذا اللّواحيست هو قائد المركبة... مركبة تسلّمها للقيادة أواخر العشريّة الأخيرة من ثورة الرّبيع العربي... قيادة كان يحلم بها كمن يحلم بحيازة "نجمة" مُضيئة في ركن من السماء... فيها ما فيها من الآمال والأحلام حياةً، قيمًا، حبّا، حرّيّة... تلك النجمة المضيئة هي "نجمة الرّاعي"، تلك الأسطورة... أسطورة لا ككلّ الأساطير، نزلت من عليائها لتكون بين يدي هذا القائد باعتباره راعٍ لما يقود وأسبغت عليه اسما جديدا "راعي النّجمة" وما تعنيه من دلالات... فإمّا أن يكون في مستوى الرّعاية كما تمّ العهد بينهما، وإمّا فنصيبه الصَّلبُ... ليخرجَ البطل الثّاني... المنتظَر... سيكون ذلك الطفلَ غيرَ المُتوقَع... ذلك النّشء المنتظرَ الذي لن يخيب إطلاقا...   أ لمْ نقلْ إنّه ابن أمّه؟ تلك السيّدة الشابّة السمراء الجميلة، ذاتُ الجسدِ الأسطوري، بضفيرةٍ طويلةٍ تنسكبُ على طهرها، مثلُ هذه الأمّ ما ولدتْ عقيمَا...                                                                                       

 

*مواطن التّناصِّ القرآني داخل الرواية

*(وتبسّم ضاحكا من قولها) مجزوء من الآية 19 من سورة النمل ((فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ...)) والمقصود بالمتبسّم سليمان مع النملة...                                   

*(يُقلّبه ذات اليمين وذات الشمال) في إشارة إلى سورة الكهف، الآية 18 ((وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال))                                                                           

*(جعلوا الليل معاشا والنّهار سُباتا) عكس مفهوم الآية 47 من سورة الفرقان ((وهو الذي
جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا))                                                    

*(وأسرّها في نفسه) في إشارة إلى الآية 77 من سورة يوسف ((قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرّها يوسف في نفسه ولم يُبدها))                                                                     

*(هي والرّجل في قميص واحد) في إشارة إلى قميص يوسف شاهدا على صراعه مع امرأة العزيز الآية 25 من سورة يوسف ((واستبقا البابَ وقدّتْ قميصه من دُبر وألفيا سيّدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يُسجن أو عذاب أليم)).                                                                

*(بينهما برزخ لا يبغيان) في إشارة إلى الآيتين 19 و20 من سورة الرّحمان: ((مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان)).                                                                                           

*أكله الذئبُ وأنتَ (عنه غافلون) في إشارة إلى يوسف وما قاله أبوه لإخوته حين أرادوا أن يذهبوا به معهم. الآية 13 من عنه غافلون سورة يوسف (قال إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ ((عنه غَافِلُونَ))                                                                                   

*(وبالنّجم هم يهتدون) في إشارة إلى الآية 16 من سورة النّحل ((وعلاماتٍ وبالنّجمِ هم يَهتدون))                                                                                                          

                                                             

بقلم صالح مورو/ تونس

 

الجمعة، 1 يوليو 2022

قراءة في رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف،،، دلالات الظّواهر والبواطن وما صدر عنها، بقلم صالح مورو/ تونس

 

قراءة في رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف

دلالات الظّواهر والبواطن وما صدر عنها

بقلم صالح مورو/ تونس


...
حين الوصول إلى صفاقس، صعدتْ سيّدة مع ولدها ذي السنواتِ العشر وابنتِها ذاتِ السّنوات السِّتّ في اتّجاه مدنين. وبذلك أصبح عدد المسافرين سبعة. كانت هذه السيّدة شابّة سمراء جميلة، ذاتَ جسدٍ أسطوريّ، بضفيرةٍ طويلةٍ تنسكبُ على ظهرها. انطلقت السّيّارة في اتجاه "الصّخيرة" حيث ستكون الاستراحة. مسافةٌ ليست بالطّويلة، لكن ما حدث خلالها كان من الغرابة بمكان، نشب صراع بين الطّفل ابنِ السيّدة السّمراء ورجلِ المقعد الخلفي حيث جلس ذلك الطفل، أمّا أمّه وأخته فقد جلستا أمامه. الرّجل الخلفيّ يُهيْمن فيه على كامل الرّؤية الأماميّة والجانبية. وفجأة صاح الرّجل الخلفيّ متألّما فالتفتَ كلّ مَنْ في السيّارة مُتفاجئا، لقد ركل الطفل الرّجل ركلة قويّة على ساقه وهو يصرخ: "ما تخزرش لأمّي... مِن وقت طلعنا وأنتَ تبقّقْ عينيك فيها... أخزرْ قدّامك"...

ابتلع الرّجل الخلفيّ الصّدمة مُحاولا مُحاورةَ الطفل: "وعلاش ما تحبّشْ نخُزرْلها؟" فأجابه: "مَامَا متاعي أنا موش متاعك أنتَ. ما نحبْ حتّى حدْ يخُزرْلها."

حاولت الأمّ تهدئة ولدها، لكنّه كان قاطعًا، حاسمًا. أجبرته أمّه على مبادلة أخته بالمكان. لمّا استقرّ بالقرب من والدته ظلّ يلتفتُ ويُرسلُ بنظراتٍ شزراءَ باتّجاه الرّجل. أمّا أخته فقد التصقتْ بالنّافذة. اعتذرت السيّدة للرّجل، أمّا هو فقد حاول أن يفسّر الأسباب، لكنّ الطفل انتصبَ واقفا مُتمرّدا، رافضٍا كلَّ تعليل. وتواصلت السفرة حتّى الصّخيرة حيث نزل الجميع للاستراحة والغداء... لسوء الحظّ أو لحسنه، لاحظتْ دوريّةُ أمنٍ الرّجلين المُتكتّمين والسّاكتين طوال السفرة، أوقفتهما، طلبت هويّتهما فإذا بهما مطلوبان لديها. تمَّ تَكبيلهما، هما جزائري ومغربي مهرّبان للسّلاح من ليبيا إلى الارهابيّين، مطلوبان من الأمن الجزائري. انتهت الاستراحة والغداء وانطلقت السّيّارة بمن تبقّى من المسافرين في اتّجاه مدنين فتطاوين...

عَنوَنَ الروائيُّ عبد المجيد يوسف روايته بِــــــــ "اللّواجيست أو نجمة الرّاعي" لغايةٍ في نفس يعقوب. الإشارة إلى "نَجمة الرّاعي" هذه، وقعتْ عند فجر اليوم الثاني، بعد وصول اللّوّاجيست إلى "تطاوين-قصر أولاد دبّاب"، مُتخلّصًا من كلّ المسافرين إلاّ الطبيبة. "نجمة الرّاعي"، كُنية أسندها اللّواجيست للطبيبة، التي حلّت بأرضها المُبتغاة من أقصى شمالها "بنزرت" حيث كان مَقامها إلى أقصى جنوبها "تطاوين" على مشارف بلدة "رمادة"، حيث سيكون مَقامها الثاني، وبذلك يُصبح وجودها نورا على كامل بلدها... النّجمة؟ أ ليستْ هي علامة "امتياز" للمرأة، كائنةً مَنْ تكون... هي إشارة انطلاقٍ للرّاعي عند الفجر، تُضيءُ سبيله ساعة الخروج مع الماشية وهي تتلألأ شرقًا، أو العودةَ بها مع المساء بإشارةٍ دوما من نجمته وهي تُشِعُّ غربًا... ذلك ما فسّره "اللّوّاجيست" للطّبيبة، بحسب الأسطورة، وهو يُغادرها رجوعا إلى شمال "تونس" في ذهابه وإيّابه المعتاد بين الشمال والجنوب... ودّعها على موعدٍ للرّجوع إليها وهي باقية كما قالت في انتظاره: تبادلا اسميهما، نسبت لها اسمَ "نجمة الرّاعي" واختارتْ لصاحبها اسمَ "راعي النّجمة " بعد أن سجّلا رقميهما كلٌّ في هاتفه... "بُهِتتْ وصمتتْ مطوّلا، وظلّتْ رانية إليه وملامحه لا تبين، تماما كالنّخلتين، لا يبدو منهما إلاّ شبحان معتنقان وأهدابٌ تخفقُ... لقد مثّل اللّوّاجيست "القائدَ" وبكفاءةٍ في حاضر هذه السّفرة مكانا وزمانا، على العكس من غريمه، رجل المقعد الأمامي-الخلفي، فيما مضى من رحلاته عبر (الاسترجاع) سائق سيارة أجرة بليبيا وسائق شاحنة إغاثة تابعة للأمم المتحدة بجنوب ليبيا باتجاه دارفور... كان عرضة للكثير من الأهوال، لم يسلمْ حتّى من الجنجويد الذين نكّلوا به ومرّغوا أنفه في التراب... بالرغم من ادّعائه العلمَ والمعرفة والمهارةَ في كلّ شيء... الاثنان، لوّاجيست الحاضر والماضي، كلّ منهما يُمثّل فترة تاريخيّة لنظام سياسيّ-اجتماعيّ معيّن: لوّاجيست الحاضر يمثل أواخر العشريّة الأخيرة من فترة ما بعد الربيع العربي بتونس، أمّا لوّاجيست الماضي فهو مُمثّل لفترة العشريّة الأخيرة قبل ثورة الربيع العربي بالجارة ليبيا... بقيَ قائدها بلا نجمة وهو يبحث عنها بين الوجوه مُتشبّثا بالمكان الأمامي حتّى فقده وفقد الوجه المرغوب في مواجهة مع طفل صغير داخل اللّوّاج، ابنُ أمّه، ابنُ السّيّدة السمراء، ذات الجسد الأسطوريّ، ابن طبيعة وسليقة، يفهم ما له وما عليه، باطنه نسخة من ظاهره لا غبار عليه... مازال أوديبيّا ويبقى كذلك حتّى الشيخوخة. من لا يغار على أمّه فلا دين له... نَشؤٌ آخر لمستقبل آخر ناضج قبل أوانه، ربّما ليتسلّمَ المشعل حين الفُتُوّة من لوّاجيست الحاضر إذا ما زاغَ وهوى وقُيِّدَ مُطلّا من على شرفةٍ على "نجمة الرّاعي" لأنّ هذه المرّة لن تُمسخ ولن تطلع إلى السماء... هي ها هنا باقية في انتظار من سيكون في مستوى قَوامها، منتصبا يُدافع على سلامتها.

*خلاصة القراءة :

... وأنا أنهي هذه القراءة المتواضعة بما ضمّت من هفواتٍ، بقيتُ مسكونا بذلك الطّفل الشّهم ذي السنوات العشر، الذي ركل الدّكتور، الرّجلَ الأماميَّ-الخلفيَّ، ركلةً صاحَ لوقعِ ألمها صيحةً قضّتْ مضجع كلّ من في السّيّارة... نفخ الطفل كالأفعى صارخا في وجه هذا المسكين: - ما تَخزْرَشْ لأمّي... من وقت طلعنا وأنت تبقّقْ عينيك فيها... أخزر قُدّامكْ...

أيُّ فحل هذا الذي انفجر فجأة؟ أ يكون هو البطل الفعلي في هذه الرّواية وأنا عن ذلك من (الغافلون)؟ وما المانع؟ هو أجرؤهم وأشجعهم وأوضحهم... في (استرجاع) لي لعقودٍ من السنين خلتْ، في أوّل عهدي بمهنة التّدريس، عثرتُ على قولةٍ لأحد الباباوات الكبار في نصٍّ باللغة الفرنسيّة يقول فيها متحدّثا عن الطفل وأهمّيّته ما مضمونه: ((كم يكون العالَمُ أفضلَ لو أنّ مُهمّة عدمِ جرحِ نفوس الأطفال تحتلُّ أكثر عقولَ الرّجال...)). حفظتها في نصّها الأصلي وعملتُ بها طوال مهنتي مع الأخذ بكلّ شيء من طرف...

لآلئُ من بحر المطالعة

مقاطع في صورٍ زادتني نشوة مع ابتسامة:

زَأرَ واحدٌ صعيديّ "بلغَ الفراتَ زئيرُه والنّيلا": السّتّاتْ أوّلا ااا سيّدة شابّة سمراء جميلة، ذاتُ جسدٍ أسطوري، بضفيرةٍ طويلةٍ تنسكبُ على ظهرها...

نَحله أنا... باش أنْطِيحْ في صَحْفَه عسل ااا

اللِّي حَطْبِتُّو الحَايْرَهْ شَيْحَتْ بِيهْ حْرَامْها... 

بقلم صالح مورو/ تونس

 

الجمعة، 24 يونيو 2022

قراءة في رواية "اللّواجيست"، لعبد المجيد يوسف،،، المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر (2) بقلم صالح مورو/ تونس

قراءة في رواية "اللّواجيست"، لعبد المجيد يوسف (2)

المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر

بقلم صالح مورو/ تونس

رابط الحلقة1 من القراءة

موضوع الرّواية: تصنيفها، حبكتها، مكانها وزمانها

للوهلة الأولى، تبدو رواية "اللّوّاجيست" واقعيّة بحتة، لكن وأنتَ تطوي صفحاتِها قارئا، مُتمعّنا، مُتلهّفا، ينحرف بك مسارها من الواقع البحت إلى الواقع المَشُوب بالخيال، انطلاقا مِمّا تتمظهر به بعض شخصيّتها من سلوكيّاتٍ غريبةٍ، منحرفةٍ عن الاعتدال "السّلوكي-الفكري-المجتمعي" السّائد نسبيّا... انحرافٌ يطغى عليه الفضول الزّائد عن حَدِّهِ ليرتقيَ إلى دوافعَ غيرِ أخلاقيّة في البعض من زوايا الرّواية والشخصيّات عبر الحوار والنظر الدائر بينها، فضول ينطلق من عينيْ الشخصيّة النّاظرة إلى المنظور إليها ليقف عند الباطن المُريب للنّاظر... بواطن اجتماعيّة مُريبة أدّتْ إلى الخصام، فالاشتباك، فالانفصال، فالتسامح على الطّريقة التونسية "بُوسْ خُوكْ" والباطن في حكم الغيب... ويبقى حبل الحوار والأفعال وردود الأفعال مشدودا وفي تصاعدٍ محبوكٍ ومَنسوجٍ بكلّ دقّة وعناية... أطرافُ الحديث في الحوار بين الشخصيّات دَبلجتْ هذه الرّوايةَ العصماءَ بالأقصوصةِ السّاخرة، الأسطورةِ الواعدة، التّاريخ التّليد للقبائل، أنظمةِ الحكم، مفهومِ السياسة والمجتمع القبليّ والديمقراطيّ غربا وشرقا... لو حدّدنا مكان الرّواية وزمانها وما يَعْمُرها من شخصيّات لقلنا: إنّ محورَها الأساسي "عيّنة اجتماعيّة" تونسيّة، من ذكر وأنثى، صغير وكبير، جمعتها سفرة في سيّارة "لوّاج" من تونس العاصمة شمالا إلى تطاوين جنوبا. دامت السفرة من الفجر انطلاقا إلى فجر اليوم الثاني وصولا... ونما الحوار إلى حدّ فَتح بابِ (الاسترجاع) عن طريق البطل الثاني للرّواية، غريمِ البطلِ الأوّلِ "اللّوّاجيست"... وهو "رجل المقعد الأمامي-الخلفي". بطلٌ ربط باسترجاعه في حديثه الأقطار العربيّة الثلاثة "تونس، ليبيا، مصر" حين كان هو الآخر "لوّاجيست" ولعشرِ سنواتٍ خلتْ، أثناء العشريّة الأولى قبل الرّبيع العربي... مشاهدٌ وحكاياتٌ يَطربُ لها القارئ... أطروحاتٌ بمقارباتٍ أساسها المعرفة بالتاريخ والجغرافيا والاجتماع، وما شابه... عناصر تربط بين الأقطار الثلاثة... مِثلُ هذا الواقع اعتمد أساسا على الخيال في روايتنا هذه النّادرة، مُرتكزها واقعٌ ولكن بتمدّدٍ خياليٍّ نادرٍ لا يقدر عليه إلا ذكاء نادر. وهو ما توصّل إليه الرّوائي عبد المجيد يوسف. هي إذا، من صنف "رواية الخيال الواقعي" لأنّ أحداثها مرتبطة بالحاضر القريب والواقع المعاصر... مع حاضرٍ مَعيشٍ داخل تونس كلِّها أثناء أواخر العشريّة الأولى من الرّبيع العربي...

 

عبد المجيد يوسف كراوٍ، من هو؟

يبدو خفيّا كمحرّك الدّمى تماما، كأنّي به مُخْتَبئٌ وراء المرآة العاكسة داخل سيّارة اللّوّاج... تتبّعتُ خطواتِه على مدى الرّواية... لاحظتُ بعين اليقين، وكلّ شيء نسبيّ، لكنّ حدسي لا يُخطئ في الكثير من الأحايين، أنّ سلاحه الأساسيّ هو "المعرفة" وفي أبهى مظاهرها وأشكالها: يتشكّل هذا الرّاوي من خلال تلك المعرفة مُطلَقَ الذّكاءِ مُطوِّعَه، مُتسلسلَ اللّسانِ حَاذِقَه، مُطِلاًّ واعٍ من شُرفات التّاريخ الأدبي والإنسانيّ... منصهرًا تمام الانصهار في بيئته الاجتماعيّة والجغرافيّة والسّياسيّة... مُنفتحًا على محيطه العربي... يُعطي الانطباع بكونه "رحّالة"... تَمسُّكه بناصيّة اللّغة العربيّة والسّيطرة عليها في أدقّ دقائقها جعل منه مُصوًّرًا بارعًا... كأنّ بين يديه "كاميرا" وهو يلتقط الصّورةَ تلو الأخرى ويرمي بها أمامك حياةً نابضة، ناطقة، تعيشُها مع شخصيّاته التي يرصد أقوالها وأفعالها وردود أفعالها بمنظاره اللّغويّ النّافذ من الظّواهر إلى البواطن في حبكة مُنقطعة النّظير... ثراءُ الخيال لديه مكّنه من الكثير من التّسرّبات التي أبهرني بها وسَيُبهر بها كلّ قارئ لهذا الأثر حيثما كان... لغته التّونسيّة "الدّارجة" ضمن الحوار بين شخصيّات الرّواية أضافت نكهة أخرى لبلورة المضمون ودقّة المعاني ومثّلت معينا آخر مُميَّزا في ثنايا الرّواية والأدب التّونسيّ عموما...

بقلم صالح مورو/ تونس

 

الجمعة، 17 يونيو 2022

قراءة في رواية "اللّواجيست" لعبد المجيد يوسف،،، المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر (1) بقلم صالح مورو/ تونس

 قراءة في رواية "اللّواجيست" لعبد المجيد يوسف

المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر (1)

بقلم صالح مورو/ تونس

توطئة

عبد المجيد يوسف كاتب تونسيّ، مكانه بين الشّعر والرّواية، النّقد والتّرجمة، البحث والثّراء الفكري... لا يهدأ... الكتابة ديدنه الوحيد... ورث القراءة في مفهوم المطالعة عن والده منذ الطفولة... أصيب بالنّهم وبقي كذلك... تهاجمه القصيدة في لحظة فارقة، مشحونة ومكثّفة... أمّا مولد الرّواية لديه فينبعثُ من خلال تأمّل عميق ورويّة ثاقبة في منحًى من مناحي الحياة... ولكم أعجبتني روايته الأخيرة "اللّوّاجيست أو نجمة الرّاعي" وإعجابي بها دفعني لمحاولة قراءتها في هذه الورقة... على طريقتي ومن وجهة نظري... زادي في ذلك القارئُ المُعجَبُ بهذا الأثر وكلّ أملي أن لا أسيء لمضمونه ولو بشائبة.

 تقديم الرّواية

تصديرا لروايته، تبنّى الكاتب مقتطفا من الآية 29 من سورة غافر متمثّلا في قولةٍ لفرعون: "ما أريكم إلا ما أرى"... فِرعون هذا، أشهر طغاة الزّمان والإنسانية على الإطلاق كما يقولون... لو نظرنا في قِيله لانتهينا إلى أنّ كلَّ ما سيُروى داخل هذا الأثر، سيكون بعلاقة متلازمة بـــــ"التّناصّ القرآني" في المعنى داخل المقتطف من الآية، لكن بعيدا عن مخيالنا الدّيني الذي قد يعمد أحيانا إلى "لَيِّ أعناق النّصوص" كما يقول الباحثون. قِيلُ فرعونَ جاء ردّا على قِيل المؤمن من آلِهِ، نَاهٍ إيّاه عن قتل موسى...

المجهر اللّغوي النّافذ من الظّواهر إلى البواطن في البناء الرّوائي:

يقولون: "إنّ الشّاعرَ تُرجُمان النّفس، كما أنّ اللّسان تُرجمان القلب مثل هذه المسلّمات تُحيلني مباشرة إلى لُبِّ رواية الكاتب عبد المجيد يوسف "اللّوّاجيست"، وما اعتمد عليه من واقعيّة وخيال ولغة بأساليبَ فنّيّةٍ راقيةٍ، لبلوغ سبر أغوار شخصيّاته داخل روايته هذه التي نروم الوقوف عند مضمونها لتفكيك ما يمكن تفكيكه ووضعه أمامنا للنّظر فيه مليّا إن استطعنا إلى ذلك سبيلا...

عقدة الرّواية وفكّها

انبجست عقدة الرّواية، وفي جوهرها "عاطفيّة"، من رحم ذاكرة المسافرة الرّابعة وهي شابّة "طبيبة"، قد جمعتها الصّدفة ذات مرّة في سفرة مع "اللّوّاجيست" من بنزرت إلى تونس العاصمة حيث تشتغل بمستشفى الرّابطة... قالت بعد أن رَكَنتْ حقيبتها في مؤخرة السيارة واقتربت من مقعد الباب الأمامي يمين السائق وكان به رجل، قالت للّوّاجيست: "ما نعرفش وين لاقيتك، وجهك موش غريب عليّ بالمرّة... أنا شبه متأكّدة..." اكتفى بأن تمتم: "ممكن... علاش لا؟". رفضت الصّعود متعلّلة بما يُصيبها من دوّارٍ بالرأس وغثيانٍ وتقيّءٍ وما يمكن أن تُحدثه من تعطيلٍ خلال الرّحلة... أصرّت على البقاء واقفة، نظر إليها الرّجل الأمامي بعد أن سمع قولها فبادرها قائلا: أنا مثلكِ تماما، بل أفدحُ منك بكثير وانبرى يقدّم حُجَجًا علميّة دامغة أفضت بالسّائق إلى إمكانيّة ركوبهما معا في نفس المقعد بما أنّ السيّارة مازالت شبه فارغة، وكان الأمر كذلك... نزل الرّجل الأمامي، صعدت الطبيبة، زحفت سنتمترات إلى الشمال، صعد الرّجل وأغلق اللواجيست الباب فزحمه وتراصَّا مثل سردينتين في علبة... انطلقت اللّوّاج بأربعة مسافرين في اتجاه صفاقس فالجنوب. طلب السائق وضعَ حزام الأمان، ما أجبر الطبيبة على أخذ طرف الحزام وأطالته وغرزته في المنشب الذي عن يسارها وهكذا دخلت (هي والرجل في قميص واحد). نظر الرجل الأماميّ إلى الحزام وقد نزل بين نهديْ الطبيبة وفصلهما فصلا وأبرز نتوءهما. فقال: (بينهما برزخ لا يبغيان). نحن أمام لوحة سورياليّة. نظر إليه من في السيارة ولم يبدُ أنّ أحدا فهم مقالته. نلاحظ أنّ المقطعين الواردين بين قوسين جاءا في تناصٍّ قرآنيٍّ ثابت: المقطع الأوّل وردت الجملة "هي والرّجل في قميص واحد" في إشارة إلى قميص يوسف شاهدا على صراعه مع امرأة العزيز إن كان قميصه قُدّ من دبرٍ أو قُبلٍ لإثبات الخائن. إمكانيّة قدّ أو شقِّ قميصٍ واحدٍ من طرف اثنين لا تَرِدُ إلا في حالة قميص يوسف بناء على الآية 25 من سورة يوسف ((واستبقا البابَ وقدّتْ قميصه من دُبر وألفيا سيّدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يُسجن أو عذاب أليم)). أمّا المقطع الثاني "بينهما برزخ لا يبغيان" فهو الآخر يُبرزُ تناصّا قرآنيّا بليغا في تشبيه النّهدين المنفصلين بحزام الأمان ببحرين لا يلتقيان، هذا عذب وهذا مالح، لأنّ لكلّ واحد منهما خصائصه التي يتميّز بها، فوضع الله بينهما برزخا، في شبه حزام الأمان، فاصلا لكيلا يبغي أحدهما على الآخر، بناء على الآيتين 19 و20 من سورة الرّحمان: ((مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان)). مشاهد كانت مباشرة بعد الانطلاق من العاصمة. بعد مسافة هامّة، وقفت السيارة بمحطةِ استراحةٍ وصبِّ البنزين، نصفُ ساعةٍ ورجع الجميع إلى أماكنهم. أخذ الرجل الأمامي حزام الأمان وسحبه مليّا حتّى يبلغ المنشب البعيد شمال الطبيبة... أحسّت بتماسٍّ جليٍّ بينها وبين جارها حتّى لامس مرفقُه نهدها الأيمن... تحرّكت قليلا لتبتعد، لكنّ الرّجل ما فتئَ يُلقي نظرة مواربة على جيب قميصها من حين لآخر... واتّضح البغْيُ وانكسرت حرمةُ البرزخ على اليابسة... ركن اللّوّاجيست إلى مقعده، ماسكا مقوده بين يديه، موزّعا بصره على بهو الطريق في نظرة استشراف وقيادة، يتحكّم في مُكوّنات السيّارة بما فيها من أشخاصٍ وآلة... خيّمَ الصمت على المجموعة لريبةٍ ما... أحسّ الرجل الأمامي بالضّيق، طلب من السائق الوقوف قائلا: "بربّي أوقف لحظة... ما فيش فايدة..." ثمّ نظر إلى الطبيبة، فهمت رغبته، فكّت حزام الأمان، نزل وبيده حقيبته، فتح الباب الجانبيَّ وصعد إلى الخلف تماما داخل السّيارة وراء المسافريْن الآخريْن ويبدوان مُتكتّميْن كأنّ على رأسيْهما الطّير... رآه اللّواجيست في المرآة العاكسة الدّاخليّة قد استقرّ في مقعده، ابتسمت الطبيبة مُستَجِمَّةً بالاتّساع الحاصل بعدَ رحيل الجار الثقيل، ونظر إليها مبتسما كأنّ هناك ارتياحا شعُرا به معا... وانطلق الحديث فيما بينهما وتوالت الابتسامات... لكنّ الرّجل الأمامي الذي أصبح خلفيّا ما انقطع عن مشاكسة الطبيبة من حين لآخر، عارضا عليها خدماتِه إن رغبت في ذلك... نهاية الرّواية ستكون كفيلة بتأكيد ما رصدناه من "عقدة" وما توصّلنا إليه من فكٍّ لها بحكمةٍ وبراعةٍ مردّهما ذكاءُ اللّوّاجيست مع صبره وأناته.

(يتبع)

بقلم صالح مورو/ تونس

السبت، 11 يونيو 2022

رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف النّاقد يقرأ ذاته/ عبد المجيد يوسف/ تونس

 

رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف

النّاقد يقرأ ذاته

يمكن القول إنّ رواية اللّواجيست الّتي صدرت عن دار الوطن العربي للنشر والتوزيع بالمنستير سنة 2022 رواية تجريبيّة على أكثر من مستوى:

من جهة الزمن : عادة يمتدّ زمن الحكاية في النصّ الروائي على فترات طويلة يختزل الراوي بعضها ويقفز على بعضها ويضمّ بعضها إلى بعض كما يفصّل بعضها تفصيلا. أمّا رواية اللّواجيست فديمومة الحكاية فيها 24 ساعة لا غير.

الزمن الممتدّ يقتضي بنية درامية متشابكة ومتعدّدة الأوجه بعضها حاضر وبعضها مستحضر... أمّا رواية اللّواجيست فلا بنية درامية فيها، بل إنّ ما يقع فيها من الأحداث مسطّح لا أهمّية له مثل انفلاق عجلة وسيطرة السّائق على السيارة... وربط حزام الأمان أو عواء ذئب في الصّحراء وظهور نجمة الراعي...

الرواية تقتضي شبكة معقدة من العلاقات بين الشخصيات كما يقتضي تحليلا لهذه الشخصيات من الناحية السيكولوجية والعملية... أما شخصيات "اللواجيست " فلا أسماء لهم ولا ذاكرة (ماعدا واحدة) ولا يعرف بعضهم بعضا.

المكان في اللواجيست مكانان، مكان متسع هو الطريق من العاصمة تونس إلى تطاوين وآخر ضيق هو سيارة الأجرة بحيث يقع التفاعل الوثيق بين الداخل والخارج... وهذا "الخارج" هو في ذات الوقت متحرك وثابت (تقدم السيارة وتوقفها) وللحركة والثبوت دور في توجيه أحداث الرواية.

من حيث التيار العام للكتابة في رواية اللواجيست يسهل على القارئ الربط بينها وبين تيار الواقعية السّحرية لكتاب أمريكا اللاتينية حيث تلعب الصحراء وخارطة السماء عند الغروب وعند الفجر وحركة النجوم دورا مهما في تحديد مسار بعض الشخصيات.

كما يمكن ربطها بتيار الرواية الجديدة في بعض جزئياتها من حيث تغييب مفهوم البطل او تعدد البطولة في النص الواحد كما تلتقي بها من جهة استيعاب المرئيات والأشياء ووصفها وذكر استعمالها. وتخالفها من جهة التغييب القصدي للتحليل النفسي والاستبطان والاكتفاء في السرد بذكر ما يُرى وما يُسمع ولا شيء غير ذلك.

من حيث محدودية الزّمن وتسطيح الأحداث يمكن ربطها بروايات جيمس جويس "عوليس" و"الأموات"...

وهكذا فإن "اللواجيست" تدخل في شبكة واسعة من التقاطعات النصية بأمكنة وأزمنة مختلفة، بروايات متعددة وبالنص التاريخي والنص السياسي والنص الأسطوري أيضا.

عبد المجيد يوسف/ تونس

الأربعاء، 8 يونيو 2022

كأنّه الآن وهنا، إصدار جديد للشاعر سوف عبيد/ تونس

 

كأنّه الآن وهنا

عن دار اِتحاد الكتاب للنّشر والتّوزيع صدر اليوم الأربعاء 8 جوان 2022 بتقديم الأديب جلال المخّ كتابُ "كأنّه الآن وهنا" الذي وصفه " بأنّه يضمّ عدّة أجناس كتابيّة تحُوم حول السّيرة الذّاتية بالخُصوص إلى جانب المذكّرات والخواطر والشّهادات بل والمقالات كذلك..." أمّا لوحةُ الغلاف فهي للفنّان محمّد القماطي.

الاثنين، 20 سبتمبر 2021

سيمياء اللباس في "سمفونية شغف" لزينب بوخريص بقلم: مراد الشابّي/ تونس

 سيمياء اللباس في "سمفونية شغف" لزينب بوخريص

 بقلم: مراد الشابّي/ تونس

"سمفونية شغف" مجموعة قصصية لزينب بوخريص تضمّ عشرين أقصوصة تنفتح على قراءات عديدة وتتيح النظر من زوايا مختلفة من بينها اللباس من حيث هو علامة حضرت في احدى عشْرة أقصوصة وغابت عن تسع أقاصيص.

جاءت الجبة والشاشية عنوان أصالة وجمال وفي مقابل هذا اللباس المفعم بالانتماء إلى الوطن تظهر الفساتين الجديدة في "ثورة الشك" عنوان إغراء و"ربطة العنق" في "نوافذ الذاكرة" عنوان تكلّف لذلك تخلص منها الطبيب ليقترب من المريضة ويلتقي معها حول ماهو انساني عميق تحجبه المظاهر. وفي "حلم مفقود" يلتقي البطل الذي ضحى من أجل مبادئه بشخص أنيق "يرتدي ملابس فخمة من أحدث الصيحات" فإذا هو أحد رفاقه القدامى الذين تنكروا لمبادئهم وإذا اللباس عنوان نفاق ورياء وانهيار قيمي. وفي "المفارقة" تضع المومس، التي تحاول إنقاذ ما تبقى من شرفها، "ثوبا باليا" اُنهك كما اُنهك الجسد الذي يحمله فما عاد يصلح لباسا، أما في "استيتيقا" فترفض الصحفيةٌ الكتابة عن "آخر صيحات الموضة والأزياء" وتفضّل الاستقالة على الانخراط في التفاهة وبذلك جاء اللباس رمزا للسطحية والابتذال عكس ما بدا عليه في "سمفونية شغف" التي تدور حول فتاة تقاوم المرض بالعزف وتحضر الحفل بـ"ثوبها الأبيض الجميل وشعرها المنساب على كتفيها يزينه شريط أحمر". لقد كان حضور اللباس وظيفيا إذ طُعّم بعناصر وصفية جعلته يتجاوز وظيفته الاجتماعية لينفتح على آفاق جمالية ودلالية جديد.

وكان غياب اللباس وظيفيا أيضا ففي أقصوصتيْ "أمل" و"لص رغم أنفه" يطالعنا الواقع عاريا ملؤه الشقاء والمعاناة بسبب الفقر المدقع الذي تعانيه الشخصيات، ويعوّض اللباسَ إطارُ اللوحة في "انعتاق" ورحمُ الأم في "قبس من ضياء"، وفي أقصوصتيْ "وجهة نظر" و"سراب" "تحيا الفتاة في ألفاف نشوتها". والبحر في "خيبة أمل" و"أشجار السرو الباسقة" في أقصوصة "شيماء" ينوبان عن اللباس فكأن الكاتبة تأبى أن تترك شخصياتها عارية تماما فتجعل لها أكسية تستعيرها حينا (ألفاف نشوتها) وتمدّها من جسم الشخصية حينا آخر (الرحم / الشعر) وتتخذها من الطبيعة حينا ثالثا (الشجر والبحر).

هذا التوظيف المميّز للباس ـ استحضارا وتغييبا ـ حدّد في المجموعة القصصية "سمفونية شغف" الاتجاه الهويّاتي (شاشية تونسية أصلية) والاتجاه الديني (شرائط ملوّنة) لتزيين أضاحي العيد والاتجاه الجمالي (ثوبها الأبيض الجميل)، وأفصح عن أهم خصائصها الفنية لأنه أتاح التركيز على الوظيفي الهام في رسم الشخصيات والاهتمام بها من زاوية محددة وربَط الأقاصيص بالواقع وأكسب عباراتها طاقة إيحائية وهبت للمجموعة شعريتها وأسهمت في تحقيق فرادتها.

 

مراد الشابّي/ تونس

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين