|
الشاعر والنّاقد: محمّد سلاّم جميعان/ الأردن |
تقديم
"جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان،
بقلم
الأديب والشاعر والنّاقد محمّد سلاّم جميعان
[رؤية إبداعيّة
متميّزة قدّمها النّاقد والمفكّر الشّاعر محمّد سلّام جميعان في حفل توقيع كتاب
"جارة القمر" للأديبة كفاية عوجان يوم الأربعاء
18/ 1/ 2023 في مركز الملك عبد الله الثاني الثقافي- الزرقاء]:
"لا أدبَ بدونِ حياةٍ أو شعور. ومِثلما
أنشأَ اللهُ العظيمُ الكونَ بكلمة، علَّمَ الإنسانَ -أحبَّ
المخلوقاتِ إليه- علّمه بالقلم، فطارَ الإنسانُ على أجنحةِ خياله إلى آفاقِ أمانيه
وأحلامه، وطاف يُناجي الفكرَ والشُّعورَ عبر أطوار حياته المختلفة.
فمنذ أنْ علّمَ اللهُ آدمَ
الأسماءَ، لم يَطْوِ الإنسانُ شِراعَ قلمه. ومازالَ الخَلْقُ يسْطُرون، تارةً
يكتبونَ أنفسَهم، وتارةً أخرى يكتبون الناسَ من حولهم والحياةَ ومجالي الفكرِ
وخلجات الأحاسيس.
رويداً رويدا، وبخطوٍ واثقٍ
مطمئنّ تَعبرُ الأديبةُ كفاية عوجان صرْحَ الأدبِ المُمَرَّدِ بثلاث قواريرَ
حِسانٍ ملأتْها من ينابيع نفسها الخصبةِ بالمعنى، وروحِها العالية في مدارج جمالِ
الحَرْف.
نعم، ثلاثُ قواريرَ حِسانٍ
تعبقُ برؤاها وتسيلُ منها في خاطرِ كيف قارئها الصورةُ والكلمةُ والفكرة.
أنا أعني ما أقولُ، ولا أنفثُ
في العُقَدِ، ولا أقولُ أحاجيَ وألغازًا.
تأمَّلوا معي كيف ملأتِ
الكاتبةُ قواريرَها الثلاث، كلُّ قارورةٍ منها حَمْلُها وفِصالُها في عامين:
- حديثُ
الصمت عام 2018
- من
فيض الوجدان عام 2020
- جارة
القمر عام 2022
لقد وقفتُ متأمّلاً عند هذه
العناوين، وقلتُ لن أُلقيَ رحلي قبلَ أنْ أقصَّ عليكم نبأً عنها، وأولُّها زمانا "حديث
الصمت". فاجتماعُ الحديث والصّمت فيه مفارقةٌ لطيفة بين أمرين متباينين،
فكأنَّ للصمتَ فمًا يتكلّم محاطاً بهالةٍ رهيبة من الهمس الشّفيف المليء بالموجات
الصّوتيّة شديدةِ الانتظام. تسمعُها وتكاد تلمسها من شدّة وضوحها ونجواها. فالصّمتُ
هو اللّغةُ الّتي تحوي كلَّ اللّغاتِ. ففي حديث الصّمت يسكتُ اللّسان ويتكلّم
القلب، فهي تستمدُّ كلماتِها من قلبِها وروحِها بنفسٍ راضيةٍ مطمئنّة، تتوارى خلف
صمتها وهي تتحدَّثُ للعالَم الخارجيّ من وراءِ حجاب.
أمّا في فيضِ الوجدان، فتخرجُ
قليلاً من ثوبِ تقمُّص الذاتِ وتَتَّشِحُ بقوسِ قُزَح، فصار الصمتُ فيضًا مُشمِسًا.
حتّى إذا صارت " جارة
القمر" أضاءتْ من علٍ بكمال الصّورة والإيقاعِ والمشهد، علامةً على الزّمنِ
والتاريخ. وجارة القمر هو كوكبُ الزُّهرةِ لا ينفكُّ عن القمر مكانًا ولا زمانًا،
حتّى وإنْ كان القمرُ كلَّ يومٍ هو في شأن... يضيء اليومَ من مكانٍ، وغدا من مكانٍ
آخر... يبدأُ هلالاً ثمّ يأخذ بالامتلاء والاكتمال والتزايد، ويتوسَّطُ السماءَ
بدراً منيراً.
وقد تسألونَ أين تجدون في
"جارة القمر" معنى المفردة وروحها، وكيف رنَّتها وصِبغَتها ولونها؟
فأقولُ بإشارة سريعة: لا
تنفصمُ القصيدةُ عن السياق الدلاليِّ للعنوان. وتأمّلوا معي حين تقرأون "جارة
القمر" عناوين القصائد التالية وكيف حلّت في بنيتها الشفيفة مفردةُ القمر:
منزل الروح، نبض مشاغب، مناجاة تبعثرها الريح، تأويل، خشوع.
ففيها يعلنُ القمرُ عن نفسه
لفظاً ومعنىً ومنزلة، كقولها:
ما زالَ يسكُنُ
خَلْفَكُم فوقَ الجِدارِ
بقيّةٌ من
ذكرياتٍ
نَبْضُها هذي
الصُّوَرْ
فَلِمَنْ
سأهديها إذا ناجاكمُ ضوءُ القمرْ؟
كنتم هنا
الجنائنَ المعلَّقةْ
فكيف أضحتْ
رِعشةُ الحنين
في صدوركم
ممزَّقةْ.
ففي الروحِ الإنسانيّة عطشٌ
لا ينطفئ إلى هذا الجمال التعبيريّ وهذه الموسيقى المتناغمة كخرير الماء، وحفيف
أوراق الشجر.
ففي كلمات كفاية نغمٌ وموسيقى
عند حدود كلِّ مقطعٍ وانطلاقةٍ مع موجاتِ الأثير وهي تنتقلُ من وحدةٍ تعبيريّة إلى
أُخرى كما ينتقلُ القمرُ من فَلَكٍ إلى فلك.
لا أقول لكم اقرأوا الكلمات،
بل اقرأوا الخلجات والشعورَ في الكلمات، ليظلَّ دمُ العبارات دافئاً في مشاعركم.
بلغةٍ شاعريّةٍ كتبت كفاية
عوجان نصوصها. وما أشقانا نحنُ الأدباء حين نشغل بالنا وفكرنا في الأجناس الأدبيّة
ونمنحها صكوك الغفران في الشّعر والنثر... دعونا نعرف معنى التسامح والغفران
ونعيشُ حالة من التعايش الفنّي الّذي تعيش فيه المذاهب الفنّيّة على تباينها جنباً
إلى جنب حتّى يتولّى الزمانُ أمر الفصل في هذه المذاهب، ولنَنْتَصرْ للجمال حيثما
كان في أيِّ لونٍ أدبيٍّ جاء.
لقد قرأتُ "جارة
القمر" مرّات؛ مرّة بخشوعٍ متصوّفٍ عابد، ومرّة بإحساس شاعر، ورأيتُ بعين
القلب كيف تفتحُ نصوصُ كفاية أذرُعَها للعصافير الزائرة، ولا تبخلُ على واحدٍ
بعريشةِ ظلّ، أو ورقٍ أخضر. ففي نصوص كفاية من شاعريّة الحسّ والشعور ما يكفي
مزاجَكَ ليشعر كيف كلُّ نغمةٍ تجذبُ نغمة وكيف كلُّ قرارٍ ينادي قراراً حتّى تكتمل
سمفونية النصّ عندها فتغدو عالَماً كاملاً بشموسه ومحيطاته ومجرّاته، سواء ما كان
من هذه النصوص نشيجاً مكتوماً أو بسمةً مُخْضرّة.
الفنّ الأدبي في طراز هذه النّصوص
كالفنِّ المعماريّ، يمكن من خلاله توليد أشكالٍ لا حصر لها. فكما أنّ الفنّ
المعماري يعتمد وحدةً أساسيّة هي الحجر لإخراج ألوف التصاميم فإنَّ الوحدة الأساسيّة
في هذه النصوص هي النغم.
أحيي كفاية عوجان إنسانة
وأديبة، تعمل بصمتِ، كالزهرةِ ترسلُ أريجها بلا ضوضاء، وتبثُّ كلَّ حينٍ في قنديل
إبداعها زيتاً جديداً يضيء نصوصها كسنا البرق.
وأحيّيي أُسرتها وعائلتها وهي
ترى شريط حياتها وإبداعها ممتدًّا في الزمان.
وأحيّي حضوركم وإصغاءكم
وأُسلِّمُ عليكم "
محمّد
سلاّم جميعان/ الأردن