‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 19 يناير 2023

هل الموت قنطرة عبور؟؟ سونيا الفرجاني/ تونس

 

لوحة غلاف رواية المائت للفنّان  طارق السويسي

يكتفي الكاتب أحيانا برأي قارئ عالم.. أو شاعر يستشعر وهج الكتابة ويكتب رجْعَ صدى النصّ الذي أضاءه أو أحرقه.. ضوء بضوء.. وحرقة بحرقة.. ولا أعتقد أنّ كاتبا حقيقيّا يرنو إلى أبعد من ذلك..


نصّ كالذي كتبتْه الشّاعرة الصّديقة عن كتابيْن شقيقين، يملأني الآن بالامتنان والرّضا.. ولن أقول شكرا... إنّما الشّكر لغة يتملّق بها غريبٌ غريبا.. ولكنّي أقول: أيّتها الشّقيقةُ.. كم أحببتُ هذا النصّ وكم أبهجَ روحي، أو أوجعها، لا أدري
..

                                                                لطفي الشّابّي

هل الموت قنطرة عبور؟؟

سونيا الفرجاني/ تونس

أسلوب هذه الرّواية باذخ الصّفاء.. من يدخل عوالمها كمن يشرب في كأس كريستال ويخاف أن ينتهي المشروب ويقع الكأس الفاخر.

جلست وحدي بعد انتهائي من الكتاب الأول "المائت"، كان لابدّ أن أجلس وحدي.

رسمت حائطا،

لا أعرف لماذا فعلت هذا ولماذا كان الجدار سميكا بحيث كنت أضغط على القلم مرّات متتالية ليصير داكنا وأكثر كثافة. قلّما رسمت، فأنا لا أجيد هذا الفنّ العسير ولا أحسن استعمال أدواته الرقيقة.

الريشة لا تتحرّك بخفّة بين أناملي ولا قلم الرصاص.

خلال أيّام قليلة، لم تتجاوز الأربعة، أنهيت العيش مع الكتاب الثاني، لم أجلس، وقفت أمام النافذة المطلّة على"عشّ" النخيل كما نسمّيه هنا، أمام النافذة أم خلفها لا أعرف كيف أحدّد الاتجاه حسب زاويتي أو زاوية الخارج.

لكنّي وقفت طويلا وبكيت بصوت خافت.

هل كان ذلك مؤازرة للموت أم غضبا منه؟ أم نقمة على صاحب صناعته في هاتين الروايتين؟

كتبت للطفي الشابي: أيّها المتوحّش، لماذا قتلتها؟

لماااذا؟؟

وماذا كنت تريد؟

سأقتلك يا لطفي الشّابي في رواية سأكتبها بعد سنّ السبعين.

روايتك أثقلت مفاصلي وكسرت عظامي، قويّة البناء ومتينة الأعمدة.

أيّها الشيطان أنت أيّها الرّوائيّ،

لماذا قلت إنّ المرأة شيطان؟

هل بكيت حين انتهيت؟

أنت متوحش في الكتابة، وفي تقمّص الدور.

فاتن هي أنا في هذا العالم،

روايتك ذبحتني من وريدي إلى وريد أمي.

أنا أتخبّط الآن تحت قدمي روايتك، أراها واقفة في الغرفة بيدين وساقين، روايتك صارت عملاقا في الغرفة، عملاق يتربّص بي.

كأنّك جمعت صراخا فظيعا لا تتحمّله آذان الآلهات.

جمّعته في صدر العملاق،

عملاق بيدين وساقين، ويلي من صراخها الذي قطع آذان الآلهات.

اتّصلت بمنيا فوجدتها تكابد حالة تشبهني الآن.

إنّي أرتعد تحت الشجرة الكبيرة في نصّ "المائت".

بين "لن نعبر الجسر معا" و"المائت" كنت أحمل البئر وأحلم بالحديقة على قول زاهر الغافري.

روايتان مهمتان للطفي الشابي تكتظّان بالموت رغم اختلاف النهاية وارتجاف السير بين ضفّتي أنين.

لن أقيّم العملين كما يمكن أن يفعل ناقد أو دارس أدب أو باحث أكاديميّ، سأتحرّك في مناخات الفقد والفقدان وتشابه تدجين الموت داخل نصّين كثيفين يشبهان النهايات المليئة بالبالونات وأصوات الشماريخ.

هل الموت قنطرة ضرورية للعبور؟

حفلة للأصوات أم حفنة للأموات توزّع على مهل؟

هل الموت في كتابات لطفي الشابي الروائي التونسي، موت عربي؟

هل هو تحيّل الإنسان على حيلة الأزمنة المتراصّة المتشابهة المتشابكة؟

بين الحياة التي تبدو هادئة والموت الضروري الذي يبدو طبيعيا، كان حاجز خفيف، خفيف بدرجة تنافس فيه الكاتب مع اللغة في مبارزة رشيقة صوّرت لنا صراعه المرير معها وصولا إلى الموت المشتهى أو المبتغى أو الموت العبور.

هل كان لطفي الشابي الشاعر يشيّد الموت في كتابيه الروائيين؟ أم ينشده لطقوس بشرية أزلية تعدّدت فيها الميتات وانتهت إلى موت مشتبه؟ أم هو يبني أعمدة الخيانة ليقصفها بأغمدة الموت؟؟

حين بدأت الدخول إلى معالم "المائت" و"لن نعبر الجسر معا"، كنت خائفة، وحملت في يدي عصا غليظة كان اشتراها زوجي ذات صباح من سوق تقليدية، فقط ليزيّن بها مدخل البيت.

تتبّعت حركات الأبطال والبطلات بحيرة وحذر، والعصا في يدي،

هل يتسلّل الابطال للبيت؟

رجال الروايتين مصابون بالّطفح ونساؤها مصابات بالصّفح.

لن أضربهم، لكني سأحذر من لطفي الشّابي،

لن أضرم فيهم النار، لكن الكاتب أضرمها داخلي.

يخطو الكاتب على جسور كثيرة كأنّه خبر قسنطينة، وتعلّق بمقاسات العلوّ والانخفاض فيها فصار خفيفا.

سار على حباله بخفّة وحذر وكتب السقوط والموت بهدوء وحنكة، كتب حياة جميلة طالها الإخفاق وأسقطتها الأنفاق وغطّتها أصناف من أدخنة الاحتراق.

كلّ شيء كان يحترق، حتّى القارئ الخائف.

هل تلك هي الحياة الكبيرة التي نتخفّى فيها ونخفيها ونخافها؟

يكتب لطفي الشّابي الموت المعلن والمبطّن والمؤجّل، بشغف التقصّي وحنكة التصوير الدقيق، كمن يجوب مقبرة الأحياء ليصنع لهم فيها مكننة الموت المتسلسلة، إنّه موت تصنعه الرأس مالية أو يصنعه العمل المتسلسل في مصنع عصريّ. من أجل إفراغ الحياة من زيفها وصبّها في زيف العالم.

لعلّ السالبيْن يتحوّلان موجبا.

هل الموت موجب أم سالب؟

لا أعرف لماذا أكتب هذه الفوضى عن المائت ولن نعبر الجسر معا، لماذا كلّ هذه الحركة المطبقة داخلي؟

كتابان عابران لغابات الروح، متقمّصان دورا تونسيا ملفوفا بالثورة منتوفا من شجرة الإنسان العملاقة.

يبحث الكاتب عن وجوهه كمن يبحث عن قطّ صغير في حقل قمح طويل، كأنّه يصنع مزمارا في كلّ حواراته الباطنية والصاخبة، قال الشاعر الفرنسي كريستيان بوبان في نص ترجمه الشاعر الجزائري أحمد عبد الكريم: "الشاعر يحدث بعض الثقوب في عظم اللغة ليصنع نايا "

هل فعل بنا لطفي الشابي كل هذا في عظم اللغة وفي عظامنا كقرّاء يرتعدون من صوت المزامير؟

ليس لطفي الشابي كاتبا رحيما، لم يكن يبكي حين أحدث كلّ ذلك الموت

هل بكى حين قتلهم؟

لماذا قتلتهم أيها الروائي؟

ألأنك مصرّ أن تعبر الجسر وحدك وأنت مائت؟؟؟

سونيا الفرجاني/ تونس

الخميس، 12 يناير 2023

العنف العاطفي،،، الأستاذ عدنان جياد الغريري/ العراق

الأستاذ عدنان جياد الغريري/ العراق
 

العنف العاطفي 

الحبّ نعمة عظيمة أودعها الله في قلب بني آدم (ع) فهم ينجذبون إلى من يشابههم في الميول والطباع ولا نعلم ما هذه القوة الخفيّة الّتي تجعل الإنسان مملوكا لإنسان أخر مشدودا له بكلّ ما يملك من حسّ وشعور يكاد يسيطر عليه بالكامل حتّى لو لم يكن موجودا معه.

الحبّ حاجة روحيّة ثمّ تتطوّر لتكون حاجه روحية وجسدية لتتوحّد. والحاجة الروحية هي الشعور بالأمان والراحة النفسية مع الطرف الأخر وإيجاد الذّات المفقودة إلى درجة يعيش المرء في روح الأخر ويسبح في فضائه. الحبّ مقدّس، حقيقة سامية في النفس البشرية، محجوبة في الطاقة الروحية الساكنة. 

إنّ النفس تعاني من هيمنة الألم وصفعة الخيبات والمكابرة من خلال التواصل الخاطئ وهيمنة سحر الماديات والتعالي والجحود بالأفعال والقساوة بالأقوال فيضمحلّ الحبّ الحقيقيّ بمراقبة العقل فيتحوّل إلى كراهية بغيرة التملك والشكّ فيحدث العنف العاطفي والنفسيّ والجسديّ في النفس البشرية إلى حدّ نكران وتشويه هذه النعمة الربانية والاستخفاف بنورها الذي يطفئ نار جهنم لأنّ بقية الألم من الماضي تقوّي قوّة اللحظة في الحاضر فتسهم في تدمير كلّ الجمال والجميل في العلاقات الإنسانية والمجتمعية.

بقلم الأستاذ عدنان جياد الغريري

 

الاثنين، 9 يناير 2023

شرفة الغياب،،، وهيبة قويّة/ تونس

وهيبة قويّة/ تونس
 

شرفة الغياب

التقينا عند مفارق الطّرقات وفي قلب كلّ منّا حلم قد صحا غناءً في حواصل الطّير... لم يكن همّي حين التقيته إلاّ مواصلة الطّريق إلى نهايتها. فتمنّيت لو أنّني أريح يدي في يده وأن أدخل معه إلى شرفة القلب. (حينها كنت قد سكنتها وأنا لا أعلم). ولم يفكّر هو أن يطلب منّي الدّخول إليها. (حينها كان منشغلا بالأقمار الّتي تخفيها سحائب الحزن المستوطن في عينيّ، وتتوقّد سراجا وهّاجا في شرفة أحلامه).

وفي غفلة من الزّمن الهارب. استفقت عند منتصف الحلم لأجد الغياب، والطّرقات الفارغة قد حفرت أخدودا في روحي. مع ذلك استطعت أن أواصل الحلم.

كان حين يدخل حلمي يرسم على راحتيّ الهمسات ويلوّن أسراب الطّير المحلّقة في سماء روحي ويطلق الفراشات في مداها.

وكنت كلّما غاب أدخل شرفات الذّاكرة وأطلق من راحتيّ الطّير والألوان في الفضاء ثمّ أشعل ما تبقّى فيهما من ذاكرة حطبا يقيني برد الغياب. وأشرع شرفة الحلم على مرافئ الانتظار حقولا من الشّوق أقتات من خضرتها أمنيات تكسر صمت الفضاء بصدى الأغنيات.

كان طيفه يطلّ عليّ من حين إلى حين، فإن اختفى كنت أشعل رائحة القهوة في الشّرفة وأكتب إلى الغائب، أغنيات أودعها حواصل الطّير في فضاء المرايا...

تعوّد الطيف دخول الشّرفة وسماع حكاياتي وصار وفيّا لمواعيدي. متلهّفا على قهوتي. فصرت أعدّ له فنجانه ثمّ أقرأ على خطوطه أسفار العودة.

أدمن الطّيف قهوتي وأدمنت سكناه في روحي فرسمت حقولا من الياسمين أعطّر بها خطوات مَن أدمن الغياب وأمُدّ ظلالها وارفة في شرفتي، شرفة الانتظار، أقي طيفه هجير المسافات.

- طيفي. لن نحتاج إلى رسائل... سنطلق الطّير جميعا إلى سقف الغمام ليمطر الغائب أغنيات. وسننتظره معا...

يبتسم الطّيف كلّما حدّثته عنه. ويطوف بأفكاري لتلد شرفتي مزيدا من الحكايات. كنت أشعر بوجوده وبأنّه يمدّ في روحي شعاع الأمل وأنّ في انتظاري حياة.

أحيانا تعتريني الحمّى وأرى غائبي يوقد قصائده حطبا للشّوق، وأراه يقطف الزّمن الهارب ورودا تُعتّق نبيذ المسافة إليّ... يدخل شرفة الأحلام مع كلّ حمّى ليهديني قصيدة ووردة لا تذبل.

- طيفي، سننتظره معا. فلا تكتب اسميْنا في سجلّ الغائبين ولا تملّ ذاكرة أدمنت الانتظار...

وهيبة قويّة/ تونس

الاثنين، 19 ديسمبر 2022

سليلة الزّئبق،،، جميلة بلطي عطوي/ تونس

الأديبة: جميلة بلطي عطوي/ تونس
 

سليلة الزّئبق

 

دائما أجلس القرفصاء، إنّني على أهبة لتلبية رغبة أو مساعدة. ما عرفت يوما معنى أن أمدّ رجليّ وأسترخي. ما خطر ببالي أبدا أنّ الاسترخاء حقّ طبيعيّ لكلّ طين وينبري السّؤال لجوجا هل أنا فعلا من طين؟ كم بهت الناظر إليّ بل لعلّه جزم أنّني سليلة الزئبق لا أستقرّ على حال ولا آخذ شكل المتعارف المألوف. يقول البعض معجبا أو هازلا إنّني أحجية جديدة تضاف إلى الألف ليلة وليلة لتدرج حركة في قاموس الخوارق بل يتمادى البعض فيتخيّل أنّني امرأة يتلبّسها جانّ أو ما شابه لذلك معنى الرّاحة عندها يغرق في قاموس النسيان. همّها الأوّل والأخير أن تلبي نداء كلّ داع. أن تقتل العجز في كلّ صرح. إنها الشجرة الأثيرية التي ما تمكّنت عاصفة من كسرها وهي لذلك ملاذ كلّ الكائنات تحتمي تحت ظلالها في الهاجرة وتدلف إلى زواياها ساعة القرس وهي كما خلقت عنوان العطاء والحرص تلملم جهدها المتناثر وترتق الكدمات في عمق المسار.  هي تؤمن أنّها صاحبة رسالة وأيّ رسالة، تلك التي ترسّبت في ذاكرتها وشما بإبر من نار بل هي الصّدى يتردّد على مدار الأيّام والسّاعات فتسمع الأصوات الموغلة في الغياب تنادي، تنهر حينا وتلين أحيانا... ابنتي لا تدعي الوسواس يلج دنياك، إنّه مغرم بالتثبيط والإحباط، لا تنصتي أبدا لغير الصّوت السّاكن فيك، أنا صورة منك وفيك، كوني كما عاهدتني وعهدتك حركتي وفعلي بل كوّني وقتك بظلالي لتكوني أثيرية المنبت تولدين من رحم الذكرى وتعلنينها عنوان حياة. أنت عطاء الجهد لينجو مَن حولك من العثار. لتشرق الشمس في قلب كلّ وقت. أنت قرينة الضوء لا يرهبك الظلام ولا تفلّ في جهدك   مشوّشات النّهار...

جميلة بلطي عطوي

تونس في 29/ 11 / 2022

 

الجمعة، 26 أغسطس 2022

نُثار الذّكريات: إليك بنيّـــتي،،، وهيبة قويّة/ تونس

 

نُثار الذّكريات: إليك بنيّـــتي

منذ ساعات وأنا أراقب الظّلام. أنتظر أن يزورني النّوم. ولكنّه أبيّ عَصِيّ هذه اللّيلة كما هو دائما في اللّيالي الّتي تسبق مناسبات هامّة في حياتي. هذه اللّيلة سيشرق صباحُها فيكون أوّل يوم تستقبل فيه كبرى بناتي حياتها الجامعيّة.

أوّل يوم في الجامعة، أراه شبيها بأوّل يوم أخذتها فيه إلى روضة الأطفال، وما أكبر شبهه بأوّل يوم دَخَلَتْ فيه المدرسة الابتدائيّة.

ليس الأرقُ ما يمنعني من النّوم ولا الخوف عليها، وإنّما هذه الصّور المتهاوية من ذاكرتي في فضاء الغرفة فتثقب الظّلام وتنير قلبي.

هنا... أراها تلعب، وفي هذه الزّاوية من البيت أراها منشغلة بدميتها، وهنا ألمحها منكبّة على قطع متناثرة لصورة تركّب أجزاءها بحماس، وفي هذا الرّكن أراها منزوية تكتب على دفتر خاصّ تخفيه كلّما دخلت عليها، وهناك أراها وفي يدها كتاب تطالعه، وها هي في الحديقة بين الأزهار البريّة تحاول مسك الفراشات، وها هي تتعرّف إلى كلّ حمامة تقف على سور البيت وتسمّيها باسمها الّذي اختارته لها، بل ها هي تلقي الحَبّ للدّجاجات.

هنا أراها تبتسم للشّمس وتضحك. وهنا أراها على شاطئ البحر تلاعب موجه ويلاعبها وتندفع إليه برجليها الصّغيرتين في صخب بريء. وها هي توسع الخطى كي لا يفوتها درس من دروسها. أراها تدخل فتلقي محفظتها في أقرب مكان لتتهالك على أقرب كرسيّ تطلب الرّاحة، وأراها تجلس أمام الكمبيوتر تداعب مفاتيح لوحته بمهارة.

بل أسمعها. إنّها ترسل ضحكاتها الصّاخبة، أو هي تغنّي متعمّدة إزعاجي وتطلق العنان لصخب تعرف أنّني لا أحبّه. وها هي ترفع صوتها بالنّقد لكلّ ما تراه أو تقرأه. صوتها الآن يصلني مستهزئا ساخرا من مواقف لا تعجبها. أسمعها تناديني، وتسألني ترجمة كلمة أو عنوان أغنية، أو عنوان كتاب أو اسم كاتب. وأسمعها تضحك بجنون لأنّها تسمع منّي لفظا لا تعرفه تقول إنّه من قاموس لغة غريبة لم يعد لها محلّ في لغة أبناء هذا الجيل.

صوتها يرتفع تارة وينخفض أخرى حسب المواقف الّتي تعيشها، ولكن يكثر صمتها، لأنّ حديثها مع الكتب كثير ومع لوحة مفاتيح الكمبيوتر صار أكثر، وصوتها أجمل عندما يكون صمتا إذْ هو دراسة أو مطالعة أو كتابة أو تفكير في حلّ مشكل رياضيّ أو فيزيائيّ أو تصميم لما لا أفهمه على الكمبيوتر.

أصغي إلى الظّلام الصّاخب في غرفتي وفي نفسي، أميّز من بين كلّ الأصوات المتعالية في أرجاء البيت، صوتها الغاضب يرتفع بالشّكوى من فوضى إخوتها. بل ها هي تلاعبهم وتنصحهم وتشجّعهم أو تعينهم على دروسهم، أسمعها الآن وهي توشوشهم فيصمتون وينتبهون إليها ويأتمرون بأوامرها ويسود الهدوء.

كم هي رائعة عندما تكون هادئة، ولا يصدر من غرفتها غير موسيقى كلاسيكيّة لبتهوفن أو موزارت أو تشايكوفسكي، أو موسيقى أوبيراليّة إيطاليّة، أو تكون مستمتعة بسماع أمّ كلثوم وأسمهان، وحتّى «المالوف» ووصلات «الرّشيديّة» والموسيقى التّونسيّة من العتيق تسمعها بمتعة.

صار للظّلام عطر مميّز يحمل أوّل عطور ابنتي، رائحة مولودة جديدة، أميّزها به عن كلّ المواليد، إلى اليوم لا أحد من المواليد الجدد أو إخوتها له عطرها. ولكن كلّ شيء يتغيّر وصارت تختار لنفسها ما تستحسن من العطور ثمّ اختارت أن نستعمل أنا وهي نفس العطر. فرحتُ للفكرة فقد شعرت أنّها تحاول أن تتشبّه بي، وليس في الدّنيا أجمل من أن أرى ابنتي تقلّدني مع أنّي أسعى إلى أن تكون مستقلّة في شخصيّتها وأن تكون لها بصمتها. وهذا أيضا ألاحظه عليها جيّدا.

يتسرّب من ظلام الغرفة عبق الورد والياسمين وها أنا أمسح عنها ما تبقّى من قطرات ماء على جسمها الصّغير بعد حمّامها الصّباحيّ المنعش وأغمرها قُبلا فتضحك وتغطّي وجهها بيديها وتحاول أن تبعدني ثمّ تدفعني إلى أن أغمرها أكثر. كم لعبنا معا، وكم كبرت اليوم عن مثل هذا اللّعب ولم أعد ألاعبها كما أريد أنا. أصبح لها اختيار خاصّ وذوق لا يجب أن أناقشها فيه.

ما زال الظّلام يُسْقِطُ عليّ صورا من هنا وهناك، وتغزوه بقع من الضّوء خافتا مرّة وساطعا أخرى. وها أنا أرى السّنوات تمرّ وأرى ابنتي أمامي تنظر إليّ فلا أجد غير صوتي يدعو لها.

كَبُرْتِ بنيّتي، ولا يسمح الوقت بالنّصيحة، فقد انتصحتِ بنصحي دائما، وليس الوقت يسمح لأُثْقِلَ عليك بخوف الأمّ. بنيّتي، الآن ليس لي غير عطر الدّعاء أرشّه عليك وعلى أحلامك الهادئة ليحفظك الله من كلّ سوء. فاجعلي دعائي عطرا تتجمّلين به وتحملينه تميمة وليس غير قدرة الله ترعاك.

بنيّتي، حتّى الدّعاء صار يكتظّ في صدري وعلى لساني فلم أعد أعرف أيّ الأدعية أفضل في مثل هذا الوقت، يستجيب الله لكلّ دعاء فلا تشغلي بالك بما يزدحم في قلبي من المشاعر وأعلمي أنّ هذا القلب في صدري يتعطّر نبضه بعطر وجودك فيه. وسيرافقك حيثما كنت.

بدأت خيوط الفجر تنشر نسمات رقيقة في مثل رقّتها. وأراني الآن أمشط شعرها وأعدّها ليومها الأوّل في روضة الأطفال، وها هي تغرقني أسئلة بصوت عذب وبكلام لا تنطق نصف حروفه. وتسألني عن الهديّة الّتي سأكافئها بها لأنّها ستكون هادئة وأفضل البنات. كانت كذلك حتّى صار هذا الهدوء يزعجني. كلّما سألت عنها منشّطة فصلها تخبرني أنّك الهادئة الوحيدة وأنّها تخفي وراء الهدوء نبوغا وتميّزا لأنّها الوحيدة أيضا الّتي كانت تنجز أنشطتها دون أخطاء، حتّى صار خوفي عليها أضعافا. فكلّ الأطفال يلعبون في الفصل أثناء التّنشيط وهي تهدأ وتُظهر خجلا لتندفع في البيت بكلّ الأسئلة وبالأناشيد الّتي حفظتها إضافة إلى الهدايا المفروضة الّتي ألزمتني بها منذ أوّل يوم.

بنيّتي، هل تريدين هديّة لمثل هذا اليوم؟ بكلّ حبّ نختارها معا وترسمين بها ذكرى أوّل يوم في الجامعة. ما أجمل ذكرياتنا إذا تساقطت منها بقع من النّور على عتمة المكان، أعيشها من جديد وأراكِ كما أنتِ، وكما كنتِ. هل تذكرين أوّل درس اتّخذتِ فيه دور المدرّسة المجتهدة؟ كان في وسط العاصمة أمام الإشارة الضّوئيّة في أكبر شارع، لم تتجاوزي حينها الرّابعة. وقفنا أمام الضّوء الأحمر فأمسكت يدي بيدك الصّغيرة ونظرتِ إليّ بعينيك اللّامعتين وأفهمتني متى علينا أن نعبر الطريق ومتى على السيّارات أن تعبر، وأجمل ما في الدّرس عِبْرَتُهُ «علينا احترام إشارات المرور حفاظا على أنفسنا من حوادث الطّريق».

وسرنا في الطّريق. وكم مرّة وقفنا عند نفس الإشارة. نعبر الطّريق لنصل إلى المكتبة، صار من عاداتك ألّا رجوع إلى البيت قبل تفقّد جديد الكتب وقبل شراء مجلّة أو كتاب، وكم مرّة لم نكن نجد جديدا فكنت أشتري رضاك بالشوكولا. ومفاجآت الشوكولا. أنا أحبّ الشّوكولا وكنت أحلم بأن أذهب إلى سويسرا لآكل الكثير منها، ثمّ فكّرت أن أزور باريس في عيد رأس السّنة فيحمل إليّ «بابا نويل» شوكولا كثيرة كما يفعل في الفلم مع الصّغار هناك لأنّه لا يزور ربوعنا.

حاولت أن أكون معكِ أكرم منه وبغير مواعيد وطيلة السّنة. فكلّ أيّام السّنة تنفع للهدايا. ولم أجد أفضل من الكتب ومن الشوكولا لأنّني ألبّي رغبة في نفسي. فسامحيني. إذْ كنتُ بذلك أرضي نفسي قبل أن أرضيك.

ليس هذا فقط، بل كنت أقترح عليك شراء لعب معيّنة أشتهي أن ألعب بها. حتّى الدّمية المغنّية الّتي سمّيتِها «أمل» كانت فكرتي. الرّائع أنّك قبلتها في عيدك الثّالث بكلّ فرح وحفظت ما كانت تغنّيه وكنّا نستمتع بالأنشودة معا «على جسر أفينيون»، كنتُ حفظتها في المدرسة وحفظتها أنتِ قبل المدرسة.

والحمد لله أنّ فكرة الدّمية المتحرّكة لم تكن لي، أنت أردت دمية تمشي، فأوصيت من جاءني بها من إسبانيا، وسمّيتِها «دنيا». لم تحبّيها كثيرا ولكنّك استمتعتِ بها، ولم أرغب بها أنا كثيرا أمام دمية «الباربي» وألعاب التّركيب.

دفعتك إلى الدّمى واخترت أنت السّيّارات والطّائرات ولعبة الجنود، ولمّا كبرت صارت ألعاب السباقات والعنف هي المفضّلة لديك كأنّك تنتقمين من الهدوء الّذي أنتِ عليه غالب الوقت. عندما سألتك لِمَ تعجبكِ مثل هذه الألعاب لم تجيبيني بغير أنّها مثيرة وتصلح للأذكياء ليتخلّصوا من المآزق، إجابتك لم تكن تقنعني ولكنّي لم ألحّ في السّؤال، أعرف أنّ لكلّ شيء نهاية وأنّك لن تلعبي كلّ الوقت. وما كان يخفّف من انزعاجي حبّك للكتب والمطالعة.

تذكرين عندما تسابقنا من منّا ستطالع كتبا أكثر في العطلة الصّيفيّة؟ كنت لا تفعلين شيئا غير القراءة، حطّمتِ أرقاما قياسيّة، كم مائة صفحة في يوم واحد، كم كتابا؟ ما أذكره أنّك في تلك الصّائفة التهمت كلّ مؤلّفات توفيق الحكيم التهاما وأنّك كنت تحدّثينني بعدها عن محتوى الكتاب وتنقدينه وتضحكين. لم أكن أعرف أنّك ستحبّين كتب توفيق الحكيم مثلي. وأذكر أنّ ثلاثيّة نجيب محفوظ أخذت من وقتك ثلاثة أيّام، حتّى خفت أن تنتهي مطالعتك لكلّ ما عندنا من الكتب قبل نهاية العطلة. هل تذكرين كم فرحت بنسخة ثرثرة فوق النّيل عندما وجدتها قديمة؟ أخبرتك أنّنا نملك الكتاب، فقلت لي بأنّ للنّسخة الّتي اقتنيتِها رائحة مميّزة، هي رائحة الورق القديم، أجمل رائحة. وكنتِ لا تقرئين كتابا إلاّ بعد أن تشمّيه وتتعرّفي على رائحته. كم قرأنا من الكتب معا؟ وكم طلبت رأيي في كتب قبل قراءتها. ويوم طلبت منك قراءة كتاب «الحضارة أمّاه» لإدريس الشرايبي، وجدتك تتفاعلين معه من بدايته، ولأوّل مرّة وجدتك تقطعين قراءتك لكتاب بكثير من الكلام عنه، بعدها قدّمت إليّ ورقات مطالعة لتكشفي قدرتك على الفهم والتّلخيص وتحليل القضايا والشخصيّات، ولولا أنّني أتابعك لقلت إنّك نقلت العمل. احتفظت بأوراقك كما احتفظت برسالة بعثتها إليّ في أوّل سنة في الإعداديّة. وكانت أروع رسالة من بنت إلى أمّها عنوانها «أبصرت النّور في ينبوع ذلك القلب»، كتبتِ فيها:

(تيّمتني، أحببتها. لماذا؟ لحسنها ولجمالها أو لرقّتها؟ لا أدري. كلّ ما أدريه أنّني أصبحت كالسّنبلة الخضراء المنتظرة أشعّتها لتنضج وتُقطف. من دونها أكون مَجرّةً تنتظر كواكب وكواكب لتملأني. بل البحر الخالي من الأسماك، والجملة المجرّدة من المعاني والكلمة الخالية من الحروف، لقد صرت قلبا لا يعرف معنى المحبّة إلاّ بها، قلبا محبّا لدنيا اسمها «أمّي»، الكلمة الّتي بقيت تغنّي الفرح في قلبي وتنشد لك لحن الحبّ الجميل وتقول لك من القلب إلى القلب: أحبّك أمّي.)

ربّما أسأت إليك بنيّتي عندما لم أقبل فكرة اختيار شعبة الآداب وحفّزتك على العلوم، لم أكن أنوي الوقوف أمام طموحك ولكنّ تميّزك في العلوم كان يضمن لك ما تحلمين به. ألست أنت من حلمت بأن تكوني مهندسة وأن تصعدي إلى المرّيخ وأن تصلي إلى الكواكب البعيدة؟ أنا كنت أحاول أن أضع أقدامك على الأرض في تصوّر علميّ فيزيائيّ، فنحن نعيش على الأرض بفعل الجاذبيّة ونطير بأحلامنا ثمّ نعود لننفّذها على أرض الواقع، وأردت أن تكوني على أرض الواقع لتحقّقي أحلامك.

اليوم عندما تدخلين أوّل دروسك ستحلمين أكثر، وستجدين أنّ الأحلام ممكن تحقيقها بالاجتهاد وأنّ المعادلة الحقيقيّة الّتي نعيش بها هي أن ننفّذ في الواقع ما نحلم به وإلاّ فما فائدة الأحلام؟ وما قيمة الواقع؟

افتحي الباب بنيّتي، واخرجي إلى هذا العالم الكبير ولا تَرهبي. لن تبتعدي. فكلّ ما في الأمر أنّك تعودين إلى العاصمة حيث كانت دروسك الأولى قبل المدرسة، وهي كما احتضنتك صغيرة ستحتضنك اليوم.

أنا أيضا أحاول أن أستوعب فكرة ألّا تكوني معي كلّ اليوم وأن تعيشي بعيدة عنّي، ولكن هذا الابتعاد ضروريّ لتكوني كما تريدين. ولأراك تحصلين على شهادة عليا. أطلقي العنان لطموحك وحلّقي بجناح الأمل وعودي إلى الأرض لتجعلي حلمك واقعا. سنكون معا دائما وردتي الجميلة وسأسقيك من حناني وحبّي كما فعلت دائما.

ابتدأتِ طريقكِ بخطواتك الأولى إلى الجامعة، وافتتحتُ نهاري بالدّعاء لك وبخفقات من قلبي أرسلتها وراءك تحرس خطاك وتحدو طموحك.

حفظك الله ملاكي، كم تمنّيت أن أمسك من جديد يدك لأدخلك قاعة الدّرس، وتودّعينني بلمعان عينيك وتورّد خدّيك وهمسة حبّ من شفتيك تطردينني بها زاعمة أنّك كبرت ويمكنك الاعتماد على نفسك.

وهيبة ڤويّة/ تونس

سبتمبر 2011

 

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين