كتاب مجمع البحرين، لناصيف اليازجي
بقلم الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس
الأجناس الأدبية تنبعث
وتتناسل بعد طول ركود. قد تنبعث في شكل جديد كما تحوّلت التراجيديا إلى أجناس أخرى... قد تحافظ
على مقولاتها المتعالية التي لا تكون إلاّ بها وقد تفقد بعضها كما هو الشأن الآن
في المسرح الأوروبي حيث التراجيديا مجزّأة أو محوّرة وقد اختفى منها ما كان يميّز
التّراجيديا: الغناء والرقص.
وفي خصوص الثقافة العربية
فإنّ المقامة هي الجنس الذي لم يصمد صمودا كاملا أمام الإرهاصات الثقافية
والتّحولات المجتمعية والمعرفية كما صمد الشعر مثلا، فعرفت المقامة إمّا تقليداPastiche قد يصيب من
الأدبية ما لا يتدنّى به دون النموذج وقد يتدنّى أحيانا إلى درجة الباروديا Parodie وأحيانا تنبعث في شكل أقصوصيّ،
فكان أستاذنا البشير خريّف قد حوّل المقامة المضيرية للهمذاني إلى أقصوصة بعنوان
"النقرة مسدودة" ضمن مجموعه القصصي "مشموم الفل" (انظر
كتابنا: تلوينات على وشاح طائر. دار رسلان للطباعة والنشر تونس 2015) ولكن هذا
التّحويل يظلّ بعيدا عن ذهن القارئ غير المتبصّر، ولم نجد من تفطّن، بعد سنوات من
الصّدور، إلى الصّلة الوثيقة بين مقامة الهمذاني المذكورة وبين قصّة أديبنا البشير
خريّف.
وقد شهد العصر الحديث
مجموعة من التّقليدات لجنس المقامة ظلّت محتفظة بالمقولات العامّة المتعالية
المؤسّسة لجنس المقامة:
• الحادثة الطريفة
المفارقة
• ثنائية الخادع والمخدوع
أو التعتيم والكشف
• الرّاوي بضمير
التّكلّم والذي عادة ما يكون المخدوع
• الخطاب القصصي
المسجوع المحمّل بالمحسّنات البديعية
ومن مظاهر التقليد والرّبط
بالنّموذج أنّ المقلدين، فضلا عن احتفاظهم بالمقولات المتعالية التي أشرنا إليها
والتي تؤسّس جنس المقامة وتجعله خطابا
مخصوصا، يجعلون الخطاب في نصوصهم لا تاريخيا
متجاوزين بذلك خصوصيات عصرهم الحضارية والمعرفية، جاعلين من اللغة صورة
ثابتة غير محكومة بالتّطور التّاريخي، فضلا عن ذلك قد يجعلون -بالتبعية- الأطر
التاريخية لنصوصهم لا تاريخية أيضا
فتتمركز وقائع نصوصهم في أحقاب خالية (انظر المقامة العبسية حيث نزل سهيل بن عباد
مستجيرا بقبيلة عبس...(ص 331 من الطبعة المذكورة) وهكذا يتّسع عند دراسة المقامة
مجال النّصّية العابرةtranstextualité
التي -
بدراستها - تتحقّق أدبيّة النّص.
وقد ساهم الكاتب اللبناني
ناصيف اليازجي في هذه المحاولات الإحيائيّة فوضع كتابا سمّاه "مجمع
البحرين". والنّسخة التي لديّ صادرة
ببيروت عن المطبعة الأدبية (مطبعة حجرية فيما يبدو) سنة 1885 في 436 صفحة من الحجم
الكبير24/16 وقد احتوى على ستين مقامة. (الطبعة الرابعة)
ناصيف اليازجي (1800/1871)
كانت أسرته تمتهن الكتابة لدى أمراء لبنان ولدى الأسرة الشّهابيّة (الشهابيون
سلالة حكمت لبنان تحت الحكم العثماني، تسلّموا الحكم عام 1697م انتهى حكمهم عام
1861 ) ومن هنا جاء اللقب اليازجي أيْ الكاتب باللغة التركية، وهو مترجم وهو ناقل
كتاب العهد القديم والإنجيل إلى العربية. وقد كان له دور مهمّ في ترسيخ اللغة
العربية ومحاولة إحيائها بعد إذ كادت تضمحلّ في القرن التاسع عشر (انظر ما في
المؤلفات والمراسلات السّياسية في هذا القرن من ضعف المستوى اللّغوي لدى مؤلّفين
كبار وما اعترى نصوصهم من إخلال بالنّظام النّحوي وبالنظام التركيبي وما خالط
مؤلفاتهم من لحن)
الشخصية القاصّة الموحّدة
هي سهيل بن عبّاد، والمقامات السّتّون تنقسم إلى أنواع:
• مقامات
قصصيّة تحدث
فيها خدعة تنكشف في النّهاية وتنسب في عنوانها إلى المكان الذي صارت فيه وقائعها
(المقامة البدوية، المقامة الحجازية، المقامة الشّامية... ومنها ما نسب إلى أقوام
أو قبائل: المقامة التّغلبيّة/ المقامة العبْسيّة/ المقامة الحِمْيَرِيّة...
• مقامات
تعليميّة مثل المقامة الخزرجيّة وفيها أسماء المطاعم والنّيران والسّاعات
والرّياح وخيل السّباق.../ المقامة الحِمْيَريّة فيها مباحث لغوية ومسائل شتّى من
فقه اللّغة ومسائل من النّحو والصّرف... كما في المقامة الأزهرية والمقامة الفلكية
وفيها ذكر للكواكب السّيّارة والبروج والمنازل...
• مقامات
حجاجيّة كالمقامة الجدلية وفيها مفاضلة بين العلم والمال/ والمقامة
الكوفية فيها جدال حول مسائل نحوية.
• مقامات
إلغازية كالمقامة اللغزيّة والمقامة الأزهريّة وفيها إلغاز بلفظيْ الحرف
والنون واسم الصوت... والمقامة الحِلية فيها معميات وأحاجي.
ويحتوي الكتاب على جهاز
للشّرح المعجمي للمفردات الغريبة القديمة ولملاحظات لغوية تعليميّة كالملزومة التي
أوردها في الهامش حول المواقع التي تثبت فيها الهمزة في "ابن وابنة" أو
التّمييز بين عطف البيان وعطف البدل... وفيه كذلك في الهوامش تعريف بالأعلام
الواردِ ذكرُهم وبعض الأخبار المأثورة.
والواضح أنّ هذه الهوامش
الثريّة جدّا هي من وضع المؤلف نفسه لأنّ الطبعة الرّابعة التي لدينا صدرت بُعيْد
وفاته، كما أنْ ليس هناك عمل تحقيق قام به غيره.
ويظل "مجمع
البحرين" عمل شديد الأهمية لا في قيمته الأدبية فحسب بل هو مفيد للدراسة
اللسانية -التّاريخيّة أيضا.
ورقة
من إعداد: الباحث عبد المجيد يوسف/ تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يتم نشر التعليق بعد المراجعة