قراءة
في رواية اللّواجيست لعبد المجيد يوسف
دلالات الظّواهر والبواطن وما صدر عنها
بقلم صالح مورو/ تونس
... حين الوصول إلى صفاقس،
صعدتْ سيّدة مع ولدها ذي السنواتِ العشر وابنتِها ذاتِ السّنوات السِّتّ في اتّجاه
مدنين. وبذلك أصبح عدد المسافرين سبعة. كانت هذه السيّدة شابّة سمراء جميلة، ذاتَ
جسدٍ أسطوريّ، بضفيرةٍ طويلةٍ تنسكبُ على ظهرها. انطلقت السّيّارة في اتجاه
"الصّخيرة" حيث ستكون الاستراحة. مسافةٌ ليست بالطّويلة، لكن ما حدث
خلالها كان من الغرابة بمكان، نشب صراع بين الطّفل ابنِ السيّدة السّمراء ورجلِ
المقعد الخلفي حيث جلس ذلك الطفل، أمّا أمّه وأخته فقد جلستا أمامه. الرّجل
الخلفيّ يُهيْمن فيه على كامل الرّؤية الأماميّة والجانبية. وفجأة صاح الرّجل الخلفيّ
متألّما فالتفتَ كلّ مَنْ في السيّارة مُتفاجئا، لقد ركل الطفل الرّجل ركلة قويّة
على ساقه وهو يصرخ: "ما تخزرش لأمّي... مِن وقت طلعنا وأنتَ تبقّقْ عينيك
فيها... أخزرْ قدّامك"...
ابتلع
الرّجل الخلفيّ الصّدمة مُحاولا مُحاورةَ الطفل: "وعلاش ما تحبّشْ نخُزرْلها؟"
فأجابه: "مَامَا متاعي أنا موش متاعك أنتَ. ما نحبْ حتّى حدْ يخُزرْلها."
حاولت الأمّ
تهدئة ولدها، لكنّه كان قاطعًا، حاسمًا. أجبرته أمّه على مبادلة أخته بالمكان. لمّا
استقرّ بالقرب من والدته ظلّ يلتفتُ ويُرسلُ بنظراتٍ شزراءَ باتّجاه الرّجل. أمّا
أخته فقد التصقتْ بالنّافذة. اعتذرت السيّدة للرّجل، أمّا هو فقد حاول أن يفسّر
الأسباب، لكنّ الطفل انتصبَ واقفا مُتمرّدا، رافضٍا كلَّ تعليل. وتواصلت السفرة
حتّى الصّخيرة حيث نزل الجميع للاستراحة والغداء... لسوء الحظّ أو لحسنه، لاحظتْ
دوريّةُ أمنٍ الرّجلين المُتكتّمين والسّاكتين طوال السفرة، أوقفتهما، طلبت
هويّتهما فإذا بهما مطلوبان لديها. تمَّ تَكبيلهما، هما جزائري ومغربي مهرّبان
للسّلاح من ليبيا إلى الارهابيّين، مطلوبان من الأمن الجزائري. انتهت الاستراحة
والغداء وانطلقت السّيّارة بمن تبقّى من المسافرين في اتّجاه مدنين فتطاوين...
عَنوَنَ الروائيُّ عبد المجيد يوسف روايته بِــــــــ "اللّواجيست أو نجمة الرّاعي" لغايةٍ في نفس يعقوب. الإشارة إلى "نَجمة الرّاعي" هذه، وقعتْ عند فجر اليوم الثاني، بعد وصول اللّوّاجيست إلى "تطاوين-قصر أولاد دبّاب"، مُتخلّصًا من كلّ المسافرين إلاّ الطبيبة. "نجمة الرّاعي"، كُنية أسندها اللّواجيست للطبيبة، التي حلّت بأرضها المُبتغاة من أقصى شمالها "بنزرت" حيث كان مَقامها إلى أقصى جنوبها "تطاوين" على مشارف بلدة "رمادة"، حيث سيكون مَقامها الثاني، وبذلك يُصبح وجودها نورا على كامل بلدها... النّجمة؟ أ ليستْ هي علامة "امتياز" للمرأة، كائنةً مَنْ تكون... هي إشارة انطلاقٍ للرّاعي عند الفجر، تُضيءُ سبيله ساعة الخروج مع الماشية وهي تتلألأ شرقًا، أو العودةَ بها مع المساء بإشارةٍ دوما من نجمته وهي تُشِعُّ غربًا... ذلك ما فسّره "اللّوّاجيست" للطّبيبة، بحسب الأسطورة، وهو يُغادرها رجوعا إلى شمال "تونس" في ذهابه وإيّابه المعتاد بين الشمال والجنوب... ودّعها على موعدٍ للرّجوع إليها وهي باقية كما قالت في انتظاره: تبادلا اسميهما، نسبت لها اسمَ "نجمة الرّاعي" واختارتْ لصاحبها اسمَ "راعي النّجمة " بعد أن سجّلا رقميهما كلٌّ في هاتفه... "بُهِتتْ وصمتتْ مطوّلا، وظلّتْ رانية إليه وملامحه لا تبين، تماما كالنّخلتين، لا يبدو منهما إلاّ شبحان معتنقان وأهدابٌ تخفقُ... لقد مثّل اللّوّاجيست "القائدَ" وبكفاءةٍ في حاضر هذه السّفرة مكانا وزمانا، على العكس من غريمه، رجل المقعد الأمامي-الخلفي، فيما مضى من رحلاته عبر (الاسترجاع) سائق سيارة أجرة بليبيا وسائق شاحنة إغاثة تابعة للأمم المتحدة بجنوب ليبيا باتجاه دارفور... كان عرضة للكثير من الأهوال، لم يسلمْ حتّى من الجنجويد الذين نكّلوا به ومرّغوا أنفه في التراب... بالرغم من ادّعائه العلمَ والمعرفة والمهارةَ في كلّ شيء... الاثنان، لوّاجيست الحاضر والماضي، كلّ منهما يُمثّل فترة تاريخيّة لنظام سياسيّ-اجتماعيّ معيّن: لوّاجيست الحاضر يمثل أواخر العشريّة الأخيرة من فترة ما بعد الربيع العربي بتونس، أمّا لوّاجيست الماضي فهو مُمثّل لفترة العشريّة الأخيرة قبل ثورة الربيع العربي بالجارة ليبيا... بقيَ قائدها بلا نجمة وهو يبحث عنها بين الوجوه مُتشبّثا بالمكان الأمامي حتّى فقده وفقد الوجه المرغوب في مواجهة مع طفل صغير داخل اللّوّاج، ابنُ أمّه، ابنُ السّيّدة السمراء، ذات الجسد الأسطوريّ، ابن طبيعة وسليقة، يفهم ما له وما عليه، باطنه نسخة من ظاهره لا غبار عليه... مازال أوديبيّا ويبقى كذلك حتّى الشيخوخة. من لا يغار على أمّه فلا دين له... نَشؤٌ آخر لمستقبل آخر ناضج قبل أوانه، ربّما ليتسلّمَ المشعل حين الفُتُوّة من لوّاجيست الحاضر إذا ما زاغَ وهوى وقُيِّدَ مُطلّا من على شرفةٍ على "نجمة الرّاعي" لأنّ هذه المرّة لن تُمسخ ولن تطلع إلى السماء... هي ها هنا باقية في انتظار من سيكون في مستوى قَوامها، منتصبا يُدافع على سلامتها.
*خلاصة القراءة :
...
وأنا أنهي هذه القراءة المتواضعة بما ضمّت من هفواتٍ، بقيتُ مسكونا
بذلك الطّفل الشّهم ذي السنوات العشر، الذي ركل الدّكتور، الرّجلَ
الأماميَّ-الخلفيَّ، ركلةً صاحَ لوقعِ ألمها صيحةً قضّتْ مضجع كلّ من في
السّيّارة... نفخ الطفل كالأفعى صارخا في وجه هذا المسكين: - ما تَخزْرَشْ لأمّي...
من وقت طلعنا وأنت تبقّقْ عينيك فيها... أخزر قُدّامكْ...
أيُّ فحل
هذا الذي انفجر فجأة؟ أ يكون هو البطل الفعلي في هذه الرّواية وأنا عن ذلك من
(الغافلون)؟ وما المانع؟ هو أجرؤهم وأشجعهم وأوضحهم... في (استرجاع) لي لعقودٍ من
السنين خلتْ، في أوّل عهدي بمهنة التّدريس، عثرتُ على قولةٍ لأحد الباباوات الكبار
في نصٍّ باللغة الفرنسيّة يقول فيها متحدّثا عن الطفل وأهمّيّته ما مضمونه: ((كم
يكون العالَمُ أفضلَ لو أنّ مُهمّة عدمِ جرحِ نفوس الأطفال تحتلُّ أكثر عقولَ
الرّجال...)). حفظتها في نصّها الأصلي وعملتُ بها طوال مهنتي مع الأخذ بكلّ شيء من
طرف...
لآلئُ من بحر المطالعة
مقاطع في
صورٍ زادتني نشوة مع ابتسامة:
زَأرَ واحدٌ
صعيديّ "بلغَ الفراتَ زئيرُه والنّيلا": السّتّاتْ أوّلا ااا سيّدة
شابّة سمراء جميلة، ذاتُ جسدٍ أسطوري، بضفيرةٍ طويلةٍ تنسكبُ على ظهرها...
نَحله
أنا... باش أنْطِيحْ في صَحْفَه عسل ااا
اللِّي
حَطْبِتُّو الحَايْرَهْ شَيْحَتْ بِيهْ حْرَامْها...
بقلم
صالح مورو/ تونس