صَحْوةٌ مُتَأَخِرة
كمْ أَصبَحَ هذا العالمُ صاخِباً... فَوضى عارِمةٌ...
نُصبِحُ ونُمْسي على أخْبارٍ مجنونةٍ كلّ يوم... خوفٌ وهَلَعٌ... حُزْنٌ ويأسٌ...
اضطرابٌ وتوتُر... ولكنْ... أتَعلَم يا رفيقي... لا يُحزنني حالُ العالمِ اليوم...
لا يُحزنني هذا الهُدوء الّذي خيّمَ على الكوكب... ولا تلكَ الأسواق الخالية... ولا
تلكَ الشوارعُ الحزينة الّتي فقدتْ سُكّانها... ولا تلكَ المقاهي الّتي اشتاقَتْ لمُحتسيي
قهوتَها... إنّي لأَحزنُ على أيّامِ الماضي... الّتي ما أدْرَكنا بديعَ جمالِها
إلّا بَعدَ فواتِ الأوان...
أنظُرُ الآن إلى حالِيَ القديمة... قبلَ هذهِ
الأزمة... كمْ كنتُ أتذمّرُ من أيّامٍ تقليديّةٍ... أصبحتُ أراها اليومَ جنّة...
أبكي على لحَظاتٍ مضتْ دونَ أن أستغلّها بالطّريقةِ الأمثل… وأَتَساءل… ماذا لَو
لَم أُهدر ذلك اليوم دون لقاءِ صديقي؟ ما كُنت لأشتاقَ إليهِ حدَّ الجُنونِ كما
أفعَلُ الآن... ماذا لَو أَخبَرْتُ تلكَ الفتاة الّتي أعجَبتني في ذلك اليَوم أنّي
أُغْرمتُ بها منَ النّظرَةِ الأولى؟ كُنتُ سَأراني اليومَ أُداعِبُ يدَ مولودِنا
الأوّل بكل رقةٍ ونعومة... ناظِراً إلى عَيْنَيها موفياً بوعديَ الأوّل لها
" أُحبُكِ من النَظرَة الأولى حتّى أنفاسِيَ الأخيرةِ "... ماذا لو رافقتُ
والدي عند زيارَتِهِ لعمّه المُسنّ... الّذي ما كُنت قد قابَلتُهُ من قبل... كنتُ سَأُودّعهُ
قبلَ مماتِه الّذي مرَّ مُرورَ الكرامِ دونَ بيت أجر... ولكنْ... ما فائدةُ النَّدَم؟؟
فيومها فَضّلتُ الرّاحة على لقاءِ صَديقي وقلتُ "غَداً أَلقاه"... ويومها
مررتُ أمامَ أعيُن تلكَ الفتاةِ وقلتُ "غداً ألقاها"... ويومها تَخلَّيتُ
عن رفقةِ والدي وقلتُ "غداً ألقاه"... وإذ بالسّاعةِ تَقِفُ... ولا يأتي
ذلك الـ"غداً"...
توَقّفَ الوقْتُ... ومضت الحياةُ... وإلى الآن
أرى نَفسي عالقاً هُنا... عندَ التِقاءِ عَقربا السّاعةِ عندَ مُنْتصفِ ليلِ ذلكَ
اليَوم... أَدرَكتُ أنّ تلك اللَّحظاتِ الّتي كنّا نجلسُ فيها بين أهلنا هيَ نِعمةٌ
لا مثيلَ لها... وأدركتُ أنَّ لقاءَ أحبّتي على رصيفِ طريقٍ قديمٍ هو متعةٌ لا مثيلَ
لَها... وأنَّ تَقبيلَ يد أُمّي هوَ امتِنانٌ وليسَ عادة... وجُلوسي في المَنزلِ
صَفاءٌ وليسَ فرضٌ... وأنَّ البَوحَ بمشاعِري هوَ حُبٌّ وليسَ ذَنْب... سألقى صديقي
عِندَ أوّلِ فُرصة... سأعتَرفُ بِحُبّي عندَ أوّل التِقاءٍ بينَ أعينِنا... سأرى
عائِلتي عندَ أوّل مُناسبة... سأعيشُ يَومي دونَ انتظارِ الغد... فأنا لا أُريدُ
أن أَنظُرَ إلى تلكَ الفُرص مرّةً أخرى على أنّها... صَحْوةٌ مُتَأَخِّرة.
كتابة: فيصل الكردي
رسم:فيروز يوسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يتم نشر التعليق بعد المراجعة