‏إظهار الرسائل ذات التسميات ورقات نقدية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ورقات نقدية. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 4 أغسطس 2022

أثر طريقة التدريس في ترسيخ الحجاج نمطا تعليميّا،،، مختار الماجري/ تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس

أثر طريقة التدريس في ترسيخ الحجاج نمطا تعليميّا

تقديم

    يقتضي عنوانُ المبحث التركيزَ على عنصرين أساسيين هما: الحجاج كنمط تعليميّ وأثرُ طريقةِ التدريس في ترسيخه. أمّا العنصرُ الأوّلُ فسنُمهّد له بالإشارة إلى تنوّع الأنماط التعليميّة ونشير إلى الحجاج من حيث هو نمط تعليميّ مهمّ له خصائصه ومؤشّراته، ومن ثَمَّ نمُرّ إلى التعريف به لغة واصطلاحا.

   أمّا العنصر الثاني فسنتناولُ فيه طريقتين لتدريس الحجاج؛ الأولى تقليدية والثانية فعّالة. ثُمّ نمرّ إلى المقترحات أو الحلول المؤدّية إلى ترسيخ قيم الحجاج في العملية التعليميّة.

 تمهيد

    تتعدّد الأنماط التعليميّة وتتنوّع، فمنها ما يتّصل بالبصريّ ومنها ما يتّصل بالسمعي أو بالمقروء والمكتوب أو بالحركي، وإضافة إلى ما سبق ذكره نجد النمط الحجاجي وهو إحدى الأنماط التي تتمّ كتابةُ النصوصِ بها، وتعتمد على الإقناع والتأكيد والتعبير عن الآراء، فهو يركّز شيئا معيّنا ثمّ يعرض القضايا المؤكّدة أو غير المؤكّدة لإثبات صحّة الكلام أو نفيه. ومن مؤشّرات النمط الحجاجي كثرة البراهين والحجج، واستخدام ضمير المتكلّم وضمير الغائب لدعم النص بالحجج والأدلة العلمية المنسوبة إلى علماء متخصّصين في موضوع النص، إضافة إلى الاعتماد على النفي والإثبات، ويُعتبر هذا المؤشّر هو ما يميز النمط الحجاجي عن الأنماط الأخرى، إذ يستعمل الكاتب النفي لتجاهل فكرة معينة وإبطالها، وعلى النقيض الآخر يستخدم الإثبات للإقناع برأيه. ومن المؤشرات الأخرى للنمط الحجاجي استخدامُ أدوات الربط المنطقية المتصلة بالأسباب مع حشد الحجج لإثبات صحتها، بالإضافة إلى استخدام الأمثلة الواقعية.

      وبما أنّ الحجّة أصبحت جوهر الحياة المعاصرة في كلّ المجالات كالسياسة والقضاء والدّعاية والإشهار وغيرها، فإنّها أضحت ضرورة حتميّة لا غنى عنها، وقد أثبت الحجاج فعاليته وقدرته الفائقة على فكّ الكثير من مغاليق الخطاب، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن ماهية الحجاج. فما المقصود بالحجاج؟

    قبل تناول التعريف لغة واصطلاحا لابدّ من الإشارة إلى أنّ الحجاج عرف محطّاتٍ تاريخيّةً متنوّعةً عبر أزمنةٍ متباعدةٍ، إذ لاحت بوادره في المقولات الغربية والعربية القديمة. أمّا الغربية فتجلّت عند السفسطائيين، والسفسطائية حركة فلسفية تميّز روادها بالكفاءة اللّغوية وبالخبرة الجدلية القولية التواصليّة، وربطوا الحجاجَ بالنفعِ. ومن ثمّ أفلاطون فأرسطو مرورا بالفكر الغربي الحديث ولاسيما مع بيرلمان وتيتيكا وديكرو وغيرهم. وأمّا المقولات العربية فبدت ملامحها مع الجاحظ في اتّجاه أدبي خطابي، ومع ابن وهب في اتجاه منطقي فقهي، ومع السكاكي في اتجاه بلاغي منطقي، وصولا إلى المقولات العربية المعاصرة مع الرّواد حمادي صمّود وطه عبد الرحمان وعبد الله صولة ومحمد العمري وغيرهم.

تعريف الحجاج

أ- لغة: تكاد تُجمع المعاجمُ العربيةُ في تعريفها للحجاج على ما جاء في لسان العرب لابن منظور: يُقال حاججته أُحاجُّه حِجاجا حتّى حجَجتَه؛ أي غلبته بالحجج الّتي أَدليْتُ بها... والحجّةُ البرهانُ، وقيل الحجّة ما دافع بها الخَصم، وفي الحديث "حجَّ آدمُ موسى أي غلبه بالحجّة"[1]. وعموما، يُقصدُ بالحجّة في اللّغة الدليل، يقول الجرجاني في كتاب "التعريفات" "الحجة ما دلّ على صحّة الدعوى".

ب- اصطلاحا: وأمّا اصطلاحا فقد جعل أرسطو موضوع الحجاج الخطابي "إقناع الجمهور بوسائل عقلية وعاطفية"[2]

في حين عرّف بيرلمان الحجاج بأنّه:" مجموع تقنيات الخطاب التي تؤدّي بالأذهان إلى التسليم بما يُعرضُ عليها من أطروحات أو تزيد في درجة ذلك التسليم". هذا التعريف أورده د. عبد الله صولة في كتابه" الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته" وكذلك د. صلاح فضل في مقاله "بلاغة الخطاب وعلم النصّ" بمجلة عالم الفكر[3].

    ولكن إذا اعتمدنا آخر التعريفات من الوجهة التاريخية لنعدّه أشمل التعريفات وأصدقها لأنّه يتمثّل كلّ ما سبقه من أشكال التداول التاريخي، فهي إمكانية لا تستقيم لا منطقا ولا تاريخا، حيث أنّ ما نعدّه آخر التعريفات ليس هو كذلك بالنسبة إلى إمكانات المستقبل من حيث أنّه في الصيغة المستقبليّة سيصبح مجرّد تعريف تاريخي، لذلك ارتأينا أن نلجأ إلى التعريف الّذي انبثق عن أكبر عدد ممكن من التعريفات وصيغ في تعريف موحّد شامل استفاد من المشترك في كلّ التعريفات السابقة.

      وبناء على ذلك أجمعت معظم المعاجم على أنّ الحجاج مصطلح يُقصد به المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة لإلزام الخَصم، وهو تقديم لحجج وأدلّة مؤدّية إلى نتيجة معيّنة. فالحجاج فاعليّة حوارية تتأسّس على الاختلاف، انطلاقا من نسبية الحقيقة، وهذه النسبيّة هي المناخ الأمثل الذي ينمو فيه الحجاج. ونستخلص من كلّ هذا أنّ الحجاج هو نمط خطاب غايته جعل المخاطب يشاطر المحاجّ (المخاطَب) فيما ذهب إليه أو دفعه إلى تعديل موقفه أو تغيير رأيه ودحضه وبالتالي يكون الإقناع والإفحام. فما الطريقة المثلى لتدريسه وترسيخه؟

 أثر طريقة التدريس في ترسيخ الحجاج

يمكن أن نميّز بشكل عام بين طريقتين أساسيتين في التدريس:

1- الطريقة التقليدية :

وهي التي تُعطي الأولوية لسلطة المدرّس، وفي هذه الحالة يُصبح المدرّس ممثِّلا لحجة السلطة التي تجعل المتعلمين يتقبلون رأي المدرّس دون مناقشة أو مراجعة، وفي هذه الحالة يكون المدرّس ضامنا لاستماع الجمهور(المتعلّمين)، باعتباره الناطق الرسمي باسم الجماعة الّتي ينتمون إليها، بحيث يكون التلاميذ مطالبين بالثقة العمياء في ما يقوله ويصدر عنه. يقول بيرلمان "إنّ المربّي ضامن لسماع الجمهور له ولثقته، دون حاجة إلى مجهود خاص باعتباره ممثلا للمجتمع الذي ينتمي إليه هذا الجمهور، إنّه يتلفّظ بما ينبغي اعتقاده، وينطق بما ينبغي على المرء فعله، كيْ يُقبَلَ كُفْءًا في جماعة، يتطلّع السامع إلى الانتماء إليها. إنّه غير مطالب دوما بإثبات ما يدّعيه: 

 إنّ كلامه موثوق به، فليس عليه أن يتكيّف مع جمهوره بل جمهوره هو الذي يتكيّف معه"[4].

   ولا شكّ أنّ هذه السلطة الحجاجية لا تساعد المتعلمين على تعلّم تقنيات الحجاج، إذ تعلّمهم الامتثال لسلطة أعلى، وهو ما يُضعف تَمثُّلَهم لثقافة الاختلاف والحوار ومناقشة ما يُعرَض عليهم من أطروحات، كما يُضعف لديهم كفايات التفكير النقدي وحرّية الرأي. وفضلا عن ذلك فمهمّة المدرّس تكون هي تلقين المعارف أكثر من عرضها للنقد، ومعارضتِها بأفكار مضادّة، وفي هذا الإطار يقول بيرلمان: "ولن تشتغلَ روحُ النقد لدى التلميذ بشكل جيّد إلاّ بعد أن يمرّ من مرحلة امتلاك المعارف الأوّلية ... ولن يستطيع النقد أن يُثبت أهميّته إلاّ باللجوء إلى نوع من التعارض"[5]. 

2- طريقة التدريس الفعّال :

في هذه الحالة يطفو الحجاج على السطح باعتباره وسيلة أساسية لنجاح العملية التعليمية، يقول بيرلمان "فلكيْ يتعلّم المرءُ ولكي يعرف، ينبغي أن يُدرك وأن يستدلَّ، وكلّ إنسان مزوَّد منذ ولادته بكلّ ما ينبغي، لكي يُجيد الإدراك ويجيد الاستدلال... ووفق هذا التصوّر ليس المربي المثالي من يُكلَّف بنقل التقليد وتكوين عقل تلامذته، بل إنّ دوره هو استعمال قدرات الطفل وحفظها في منآى من الآراء الخادعة"[6]، ومن هنا تُكرِّسُ الطريقةُ الفعّالةُ حرّيةَ الطفل في الحجاج وإبداء الرأي والإيمان بوجود آراء مختلفة، ويترسّخُ لديه أنّ حرّية الرأي حقّ لكلّ فرد.

إنّ طريقة التدريس يجب أن تستند إلى أصول الحوار الذي يقوم على مبدإ التعاون والتفاهم واحترام الآخر، وقد اقترح بيرلمان حلاّ وسطا لترسيخ قيم الحجاج في التربية يقوم على المزاوجة بين حجّة السلطة التي يمارسها المدرس باعتبارها تزوّد المتعلّم بالمعارف والتقنيات الضرورية للحجاج، وبين التكوين الّذي ينبني على إعمال العقل وجعل التلميذ فاعلا في العملية التعليميّة-الحجاجية.

   ولترسيخ الحجاج هناك مهارات متنوّعة كالتعبير والدرس اللّغوي والبلاغي تحديدا لألوان الزخرف والزينة والمحسّنات البلاغية التي ترد في الخطاب، وهو ما أكّده بيرلمان في نظريته وجعل هذه المحسنات من المقوّمات الحجاجية الإقناعية.

֎ مهارات التعبير:

يشكّل درس التعبير والإنشاء مدخلا أساسيّا لترسيخ أخلاقيات الحوار والقدرة على الحجاج، باعتبار ذلك مدخلا أساسيّا يوجّه المتعلّم إلى الدفاع عن وجهة نظره بأساليب حضارية تنبذ العنف ورفض الآخر. فكلّما كان التلميذ أو الطالب قادرا على الحجاج اكتسب سلوكيات حضارية تجعله لا يفرض رأيه بالقوّة، بل يحاجج لإثباته، وقد يتخلّى عنه لصالح رأي آخر إذا أقنعه الآخر بحجّته. وفي هذا الصدد تظهر مجموعة من المهارات التي نسعى إلى ترسيخها لدى المتعلّمين من خلال درس التعبير والإنشاء لتتحوّل من ممارسة تعليمية إلى ممارسة واقعيّة، ونعني المهارات التالية: مهارة إنتاج نص حجاجي، مهارة الدفاع عن وجهة نظر، مهارة المقارنة والاستنتاج، مهارة إلقاء عرض شفهي...

   في كلّ هذه المهارات لا بدّ من الانطلاق من وضعيات تعليمية شبيهة بالحياة، ففي الدفاع عن الرأي ينطلق الأستاذ من قضية إشكالية معيّنة، ويطلب من التلاميذ التحاور بشأنها على أن يجنّد كلّ تلميذ مهاراته الحجاجية للإقناع بوجهة نظره دون أن نفرض عليه رأيا معيّنا. ونَخلُصُ من كلّ ذلك إلى تبنّي وجهة نظر معيّنة أو أكثر حسب وجاهتها الحجاجيّة.

  بهذا تغدو الممارسة الحجاجية سلوكا مترسَّخا لدى المتعلّم ينقله من المدرسة إلى خارجها مادامت المدرسة مجتمعا مصغّرا كما يؤكّد الكثير من المربّين، ما يُعتبر مدخلا أساسيا لتكوين مُواطِن متشبّع بثقافة الحوار والاعتدال وتقبّل الرأي الآخر.

֎ مهارات اللغة:  

         يرى الألسني الفرنسي" أوزوالد ديكرو" أنّ اللّغة تحمل في جوهرها بعدا حجاجيّا، وليست الوظيفة الإبلاغية هي الأساس والوحيدة في اللّغة، بل إنّ الوظيفة الحجاجية هي أهمّ وظائفها. ففي اللّغة نجد العوامل والروابط هي ما يتصدّر المنطلقات أو المبادئ وتزيد في قوّة توجّهها إلى الحجّة، إذ تمثّل الروابط الحجاجية مجموعة من المورفيمات (والمورفيم هي أصغر وحدات المعنى في اللغة) تصل بين ملفوظين أو قولين أو أكثر في إطار استراتيجية واحدة. فهي نوع من العناصر النحوية والظروف (الواو، الفاء، لكن، حتّى، إذن، ثمّ، بل، لاسيما، بما أنّ، إذ...إلخ)

   ويمكن تقسيم هذه الروابط إلى:

- روابط مدرجة للحُجج: حتّى، بل، لكن، مع ذلك

... روابط مدرجة للنتائج : إذن، لهذا، وبالتالي

- روابط مدرجة للتعارض الحجاجي: بل، لكنّ، مع ذلك…

-  روابط مدرجة للتساند الحجاجي: حتّى، لاسيما...

فقولنا: "زيد مجتهد إذن سينجح"؛ تكوّن هذا القول من حجّة ونتيجة قام الرابط الحجاجي بالربط بينهما.

֎ مهارات البلاغة:

 لئن كان الحجاجُ مبثوثا في مختلف الدروس فإنّه يتجلّى أكثر في الدرس البلاغي لما تلعبه المحسّنات البديعية التي ترد في الخطاب من دور حجاجي لا يمكن إغفاله بأي حال من الأحوال، وهو ما أكّده بيرلمان في نظريته وجعل هذه المحسّنات من المقوّمات الإقناعية. فمعظم الأساليب البلاغية تمتلك خاصّية التحوّل لآداء أغراض إقناعية تواصلية منها على سبيل الذكر لا الحصر الاستعارة والتمثيل:

- الاستعارة:

والتي تُعدّ من الآليات الحجاجية المهمّة التي يمارس المتكلّم من خلالها التأثير في المتلقي، ونبّه الجرجاني إلى وظيفتها الإقناعية حين قال: "فقد حصل في هذا الباب أنّ الاسم المستعار كلّما كان قِدمُه أُثبت في مكانه، وكان موضعه من الكلام أضنّ به، وأشدّ محاماة عليه، وأمنع لك من أن تتركه وترجع إلى الظاهر وتصرّح بالتشبيه، فأمر التخييل فيه أقوى، ودعوى المتكلّم له أظهرُ وأتمُّ "[7] .  ومثال ذلك في قول عروة بن الورد:

ثعالبُ في الحرب العوان وإنْ تنجُ          وتنفرجُ الجُلّى، فإنّهُمُ الأسْـــــــــــــــــــــــــــــدُ

فاستعارات عروة استعارات حجاجية، لأنّه يصف قومه في حالتي السلم والحرب، ولا يمكن أن يصفهم إلاّ بالوصف الذي يجعلهم في مرتبة أعلى من غيرهم، ولذلك نظر في السمات التي يمكن أن تحقّق لهم ذلك، فوجد أنّها الدهاء والحيلة في الحرب مع الشجاعة في السلم. ومن ثمّ اختار مستعارا منه وأورده بلفظه في خطابه.

- التمثيل:

وهو من الوسائل الحجاجية المهمّة، يقول محمد العمري في هذا السياق: "يقوم المثل في اللغة مقام الاستقراء في المنطق، والمثل هو استقراء بلاغي، والمثل حجّة تقوم على المشابهة بين حالتين "[8].  أمّا عبد القاهر الجرجاني فيقول: "واعلم أنّ ما اتّفق العلماء عليه أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي في معرَضه، ونُقلت عن صورها الأصليّة إلى صورته، كساها أبّهةً، وكسبها منقبةً، ورفع من أقدارها وشبّ من نارها وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، و دعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً و كلفًا... فإن كان مدحا كان أبهى و أفخم، وأنبل في النفوس و أعظم... و إن كان ذمّا مسّهُ أوجعَ وميْسمُه ألذعَ... وإن كان اعتذارا كان إلى القبول أقرب و للقلوب أخلب... وإن كان وعظا كان أشفى للصدر وأدعى للفكر..."[9].

الخاتمة:

  ختاما نؤكد أنّ الحجاج يبقى عنصرا مهمّا في التربية، وفضلا عن ترسيخه أخلاقيات الحوار وتقنياته، يسعى إلى ترسيخ قيم التعاون والتفاهم واحترام الاختلاف. على أنّ الحجاج يجب ألاّ يبقى مادّة مستقلة تُدرّس ضمن منهاج اللغة، بل عليه أن يشمل مختلف المواد العلمية البحتة والعلوم الإنسانية. والأهم من هذا وذاك يجب أن يصبح الحجاج ممارسة بيداغوجية تتجلّى في طريقة التدريس التي يجب أن تتخلّص من سلطة المدرّس لتفسح المجال لتدخّلات التلاميذ الذين تتكوّن لديهم الاستقلالية، ويتعلّمون طرائق الإقناع والنقد الذاتي وحرّية الرأي واحترام الآخرين المختلفين، وكلّها قيم حضارية عليا تتأسس عليها المجتمعات الحديثة.

بحث أنجزه الأستاذ: مختار الماجري / تونس

الهوامش:


[1] ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مادّة حجج، دار صادر بيروت، لبنان، المجلد2 ط،1-1997 ص 570.

[2] أرسطوطاليس، الخطابة، ترجمة عبد الرحمان بدوي، ط : 1986 ص29-30.

[3] انظر د. عبد الله صولة في كتابه "الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته" ص229، و د. صلاح فضل في مقاله " بلاغة الخطاب وعلم النص" بمجلة عالم المعرفة الكويت 1992 ص 76

[4] شاييم بيرلمان، [وهو أكاديمي بلجيكي (19121984) ، أستاذ بجامعة بروكسل، مؤسس ما يعرف بـ البلاغة الجديدة،] "التربية والخطابية" ص 154.

[5] المرجع السابق ص 155.

[6] المرجع السابق ص 157.

[7] عبد القاهر الجرجاني، "أسرار البلاغة"، تحقيق محمد رشيد رضا، ص 276.

[8] محمد العمري، " في بلاغة الخطاب الإقناعي" ص82.

[9] عبد القاهر الجرجاني، فصل في مواقع التمثيل وتأثيره، "أسرار البلاغة" ص85

الخميس، 28 يوليو 2022

مفهوم الحياة عند ميخائيل نعيمة في كتابه "من وحي المسيح" فصل "يسوع والسامريّة" نموذجا،،، مختار الماجري: تونس

الأستاذ: مختار الماجري/ تونس
 

مفهوم الحياة عند ميخائيل نعيمة في كتابه "من وحي المسيح"¹

فصل "يسوع والسامريّة"² نموذجا

بقلم: مختار الماجري/ تونس

             يختلف مفهوم الحياة من مفكّر إلى آخر انطلاقا من زاوية النظر التي يطلّ منها كلّ ناقد أو أديب أو عالم، فها هو نعيمة يعاطينا الحديث عن معنى الحياة من داخل كتابه "من وحي المسيح" وتحديدا من خلال فصل "يسوع والسامريّة" الّذي يقع بين الصفحتين 161 و171 من الكتاب المذكور، وإذا أردنا أكثر دقّة نقول يقع بين الفصلين "السبت والإنسان" و "يسوع والإيمان". وفي هذا النصّ يشير نعيمة إلى حديث يسوع إلى فرقة السامريّة³ لتلقينها تعاليم عديدة، ويتّخذ الكاتب من هذا الحديث منطلقا لتوضيح مسائل تبدو مهمّة في المعتقد المسيحي كمسألة "الخلاص". وهذه الأخيرة تُعدَّ أرضيّة انطلاق خصبة بالنسبة إلى نعيمة توصله حتما إلى ضالّته المنشودة الّتي شغلت باله طويلا وهي "مفهوم الحياة"، وعبر التدرّج المنطقي وجد في حديث المسيح عن "ماء الحياة" ما من شأنه أن يطفئ ظمأه ويوصله إلى شاطئ السلام. ومن "ماء الحياة" ينتقل إلى "شجرة الحياة" ثمّ إلى إشكالية " المعرفة"، ومن هنا يقرّ كاتبنا بأنّ الخلاصَ رهين المعرفة. فما المقصود بالخلاص؟ وكيف تبدو المعرفة سبيلا إلى الخلاص؟ وأيّ نوع من المعرفة يقصد المؤلّف؟

      لئن كان مطمح الكاتب في هذا النصّ الوصول إلى ملامسة الهدف الرئيس والغاية القصوى ونقصد "مفهوم الحياة" فإنّه مرّ بمسائل أخرى يُفضي بعضها إلى بعض تُعتَبَرُ مُمهّدةً للمسألة الأمّ. وبفضل هذه المسائل ينقسم النصّ إلى أربع وحدات معنويّة تتّصل كلّها بـ "الحياة". وسوف نعمد إلى عدم رسم الحدود الشكلية لكلّ وحدة إيمانا منّا بأنّ التحديد الشكلي ليس سوى عمل إجرائي لا غير، فالخطاب والخبر كلّ لا يتجزّأ – حسب تودوروف - إذ لا يمكن الفصل بينهما. إضافة إلى إمكانية الوقوع في التكرار المعنوي لفكرة قد تُعاد في أكثر من وحدة معنوية. فما محتوى الوحدات المذكورة؟

       تتناول الوحدة الأولى الحديث عن ماء" الحياة الأبدية" ونوعيّته، أمّا الوحدة الثانية – التي تُعتبر همزة وصل بين الوحدة الأولى والثالثة - فموضوعها حول الخطيئة الأولى للإنسان لمّا أكل من الشجرة المحرّمة. ويوضّح لنا الكاتب مفهوم تلك الشجرة ثمّ ينتقل بنا إلى الوحدة الثالثة للتعريف بشجرة ثانية تفوق الأولى من حيث الأهميّة وهي "شجرة الحياة"، ويقرن المؤلف هذه الشجرة بمسألة "المعرفة". وأمّا الوحدة الرابعة فقد اشتملت على كلّ ما ورد في الوحدات السابقة من معان ومفاهيم لتصيغ مفهوما لمعنى الحياة".

      استُهلّ هذا النصُّ بمقولة كان المسيح قد وجّهها إلى فرقة السامريّة لتلقينهم أشياء يجهلونها، أو قل شيئا يجهلونه وهو الماء "الذي يتفجّر حياة أبدية". إنّ المعروف عن الأنبياء والرسل أنّهم جاؤوا لنشر الدين، أي أنّ رسالة دينية أُنيطت بعهدتهم، فما علاقة "الماء" بالدين؟ هل هو ماء مادّي أم معنوي؟ لماذا الماء بالذات دون العناصر الطبيعية الأخرى؟

في البدء، نشير إلى أنّ المعجم المقدّس أشار إليه البلاغيون حين تحدّثوا عن المجاز في المعجم المقدّس والقرآن خصوصا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ الماء مصدر أساسي للحياة به تحيا كافة المخلوقات، فهل تستقيم الحياة بلا ماء؟ ولكن هل إنّ يسوع يتحدّث عن الماء والحياة المادّيين؟

      حين يذكر نعيمة الماء يقرنه بأزليّة الحياة فيقول على لسان المسيح عليه السلام "ماء يتفجّر حياة أبدية"، وبالتالي فهذا الماء هو غير المألوف لدى المخلوقات جميعا في حياتنا المعهودة، بل هو "غير الماء المألوف وهو لا ينبع من أشياء محسوسة بل من ينابيع خارج   نطاق المحسوسات"5.  إنّنا إزاء كلام قد يعسر فهمُه على العامّة لا تفهمه سوى نخبة معيّنة من الناس قد تفهم المجرّدات بحكم طبيعة الوسائل المعرفية التي تمتلكها. وهذا ما سنوضّحه في الوحدة المعنوية الثالثة إضافة إلى " شجرة الحياة" التي تمثل ينبوع هذا الماء أو مصدره. ولكن قبل ذلك يعرّج نعيمة – في الوحدة المعنوية الثانية – على قصة الخطيئة الأولى تعريجا ليست الغاية منه سرد أحداث القصّة بقدر ما يريد أن يذكر مصدر الخطأ المتمثل في "الشجرة المحرّمة" وكأنّه يريد مقارنة بين هذه الشجرة و "شجرة الحياة" التي سنتعرّض إليها فيما بعد.

      إنّ الكاتب يضعنا حيال قصّة هامة ذكرتها كلّ المصادر الدينية أو أغلبها وتتمثّل في الخطيئة الأولى للإنسان التي تسببت في عقابه بحرمانه من البقاء في الجنة والنزول به إلى الأرض حين أكل من ثمار الشجرة المحرّمة. وقد استقى الكاتب هذا الخبر من التوراة من خلال قوله: «حسب الأسطورة التي جاء بها موسى»6. ولكنّ اللافت للانتباه أنّ هذه القصّة على أهميتها اختزلها الكاتب في خمسة أسطر، وهو ما يؤكّد لنا أنّ هذه القصة ليست غاية بقدر ما هي وسيلة عن طريقها يريد الكاتب أن يطرح مسائل تكاد تكون فلسفية لِما تتسم به من طابع تجريديّ بحت يتصل بمفاهيم من قبيل "المعرفة"، "الخير"، "الشر" وغيرها. "والشجرة المحرّمة هي شجرة معرفة الخير والشر"7. إنّ الأمر لا يتعلّق البتّة بمصطلح "الشجرة" في حدّ ذاته بقدر ما يتّصل بمسألة فلسفية عالجها العديد من المفكرين هي ثنائية الخير والشر. ولعلّ تأصيلَهما في الذات البشريّة استدعى حضور لفظ "شجرة" لِما ترمز إليه هذه الأخيرة من تأصّل وتجذّر وثبات. ولكن إذا كانت ثنائية الخير والشرّ متصلة بما هو جِبِلّةٌ في الإنسان، فكيف يتحدث كاتب النص عن إمكانية الخلاص من خلال "شجرة الحياة"؟

     قبل المرور إلى الوحدة الثالثة المتعلّقة بـ “شجرة الحياة" فحريّ بنا أن نوضّح مصطلح "الخلاص". هو مصطلح ديني عادة ما يُستعمل في الخطابات الصوفية، ولئن لم يذكره نعيمة ذكرا صريحا في هذا النصّ فإنّنا نستوحيه – من خلال طرحه للمسألة – إيحاء جدوليا حسب التداعي الجدولي في اصطلاح دي سوسير.

       فالخلاص إذن متّصل بالمعنى الصوفي، أي أنّ الخلاص- حسب نعيمة – هو التخلّص من المعارف الحسّية إلى معارف أخرى تمكّن الإنسان من إدراك ما هو غير حسّي، أي من إدراك "شجرة الحياة". وبذلك يكتسب الإنسان نوعا من الوعي يسمّيه نعيمة بِـ "الوعي الشامل"، يقول: "إنّه حالة من وعي الإنسان لنفسه وعيا شاملا لا مجال فيه لأيّ فاصل أو حاجز بينه وبين ربّه الّذي منه وفيه"8. فالخلاص إذن يتصل بـ “الوعي الشامل" وهذا الوعي يتّصل بالاتّحاد بالذّات العلويّة، وبذلك يكون الإنسان قد حقّق الخلاص وأصبح روحا محضا وتمكّن من معرفة الحياة. وهذه المعرفة لا تتمّ إلاّ بعد تذوّق ثمار "شجرة الحياة" وهي الشجرة التي " لم يتذوّق بعدُ ثمارَها الإنسانُ وهو يوم بتذوّقها يصبح في غنى عن الطعام والشراب فلا يجوع أبدا ولا يعطش أبدا"9.

     إنّ الحياة التي يعنيها المؤلّف هي حياة تُدرك بوسائل معرفية غير عادية، إنّها الحياة التي بموجب معرفتها يتخلّص بالإنسان من أدران المادّة ليتّحد بالذّات العلويّة ويحلّ فيها. إنّها فلسفة الحلول عند نعيمة أو ما تُسمّى بِـ"الأُحادية الروحانية"، وذلك ما يسمّيه نعيمة بـ “معرفة الحياة". ويعتبرها المعرفة الحقيقية الوحيدة وكل ما عداها جهل يقول في هذا السياق: «فمعرفة الحياة هي وحدها المعرفة وكل ما عداها جهالة، إنها وحدها النور وكلّ ما عداها ظلام، تلك المعرفة أدركها يسوع عندما أدرك أنّ الله هو الحياة»10. ولعلّ أبرز وسائل هذه المعرفة هي: الإيمان والحدس، وقد أشار نعيمة إلى ذلك في كتابه "اليوم الأخير"، كما أشار إلى ذلك محمد شفيق شيّا في دراسته النقديّة لفلسفة نعيمة في "اليوم الأخير". يقول نعيمة في كتابه: "من وحي المسيح": فالإيمان في أسمى مظاهره اعتراف المؤمن بحدود العقل المقيّد بالمحسوسات ثمّ تخطّيه تلك الحدود إلى حقيقة الوجود الّتي لا تُحس... ذلك هو الإيمان المبصر. وقليل هم المبصرون»11. أمّا الحدس فهو ضرب من المعرفة الباطنية أو ما يُطلق عليه اسم " الحاسّة السادسة"، فهو نوع من الإبصار الداخلي، ولعلّه يكون عن طريق القلب، إنّه الإبصار بعين غير العين المألوفة، فهو بتعبير هنري برغسون «النظر بعين غير العين العادية»12. ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الحدس هو «التجربة الميتافيزيقية» التي فيها تنكشف لنا ذواتنا، فندرك «المطلق» في صميم نفوسنا. 

     إنّ الوسائل المعرفية التي يطرحها المؤلّف تبدو مستعصية على العامة من الناس، إنها موجّهة إلى فئة معيّنة قد تكون المتصوّفة أو غيرها من الفئات القادرة على استيعاب تلك الوسائل وهم قلّة، ألم يقل هو نفسه: «وقليل هم المبصرون»؟ نلاحظ أنّ نعيمة يسعى جاهدا إلى بلورة مفهوم الحياة من خلال مفاهيم ومصطلحات تنحو منحى تجريديا تتّضح معالمها في الوحدة الرابعة.

     لقد عبّر صاحب الأثر - في أسلوب يقوم على الحدّ والتعريف - عن صفة توحي بنظرته للحياة قائلا: «فالحقيقة هي الحياة والحياة التي هي الروح»13. فنحن إزاء معادلة رياضية كالتالي:

الحقيقة = الحياة

الحياة= الروح

فنستنتج أنّ الحقيقة = الروح.

وإذا أردنا أكثر دقّة يمكن أن نرمز إلى الحقيقة بِـالحرف(أ) وإلى الحياة بالحرف (ب) وإلى الروح بالحرف(ج) فنقول:

(أ) = (ب)

(ب) = (ج)

إذن (أ) = (ج)

ومن هنا نلاحظ منطقيّة نعيمة في الإدلاء بآرائه واستنتاجاته من جهة، ومن جهة أخرى نشير إلى أنّ نعيمة منذ البداية يريد أن يصل بالقارئ إلى هذه النتيجة التالية: الحقيقة تساوي الروح، بمعنى أنّ الحياة الحقيقية هي فناء في الروح التي لا تُدرك بالعقل المحدود. بل الحياة هي الاتّحاد بالله، بل الحياة هي أن يكون الإنسان إلاها، ألم يقل نعيمة في "اليوم الأخير": لا قيمة للإنسان ما لم يصبح إله نفسه»؟ إذا كانت هذه الدعوة ممكنة، فكم من إله يصبح في العالم؟ ولئن اعتمد نعيمة النص الإنجيلي وأشار إلى نظرية الحلول محيلا على إنجيل يوحنّا المعمدان وتحديدا الأصحاح الرابع عشر وكذلك الأصحاح العاشر، فإنّ النص يقرّ بوحدانية الله " أحبّوا الربّ إلهكم «، وإن كانت الدعوة غير ممكنة فلِم يدعو إليها نعيمة؟ هل إنّ تصوّر نعيمة للإله هو ما نملكه نحن من تصوّر أم له معنى آخر؟  يقول نعيمة بأنّ الكون مجموعة عوالم ولكل عالم ربه الذي يهيمن عليه لكنّ الأرباب جميعا خاضعون لسلطان الله. ولقد بيّن نعيمة الفوارق بين الألوهية والربوبية. أمّا الله فقد عرّفه بأنّه الحياة التي لا نعرف لها بداية ولا نهاية، وهو روح وهو منزّه عن الشكل والصورة - وفي هذا السياق تلتقي المسيحية مع الإسلام - وهو مختلف عن الربّ ولا يمكن أن يدرك بالحواس لأنّه روح والروح لا تُدرك إلاّ بالروح. كما تلتقي المسيحية مع الإسلام في مسألة الوحي حين نقرأ ما قيل على لسان السيد المسيح «لأنّي لا أتكلم بشيء من عندي بل الأب الذي أرسلني وأوصاني ما أقول لكم... فالكلام الذي أفوه به أقوله كما قاله لي الأب»14

    أمّا مسألة المعرفة التي يطرحها نعيمة من حيث النوع فهي المعرفة المطلقة التي تسبر أغوار الماضي والحاضر والمستقبل؛ ما كان وما هو كائن وما يجب أن يكون. وأمّا أدواتها فمختلفة، منها "روح القدس" وهو ما يسمّيه نعيمة "روح الوعي الشامل"، إضافة إلى أداة "الحدس" وكذلك أداة "الإشراق"... وهي الأدوات الوحيدة الموصلة إلى الحقيقة التي هي " شجرة الحياة".

    وفي ختام هذا المبحث حريّ بنا أن نشير إلى أنّ ميخائيل نعيمة قد تجشّم صعوبة خوض غمار مثل هذه المسائل التي لا تبدو سهلة البتّة، الأمر الذي جعله يقع في التناقض في العديد من المواضع رغم محاولته إضفاء الطابع المنطقي على خطابه. وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر أنّ موضوع الاتّحاد مع الذات العلوية والأدوات المعرفية المعتمدة في فلسفة الحلول تبدو كلّها مستمدّة من الفكر الصوفي من خلال خطابات روّاده كالحلاّج وابن الفارض وابن عربي والسهروردي وغيرهم، إلاّ أنّ نعيمة يـُنكر اعتماده على رجال الدين، يقول: «إنّني لا أكتب لرجال اللاهوت ولا بوحي منهم...بل بوحي من أعمق أعماقي»15، وهنا يتجلى التناقض. كما يتّضح أيضا في إقرار النص الإنجيلي بأنّ الله له عرش وله يمين ويسار "...وله عرش في ذلك المقر وله يمين ويسار، واليمين هو مقام الشرف. ومن هنا قول يسوع إنه يجلس عن يمين الآب"16. بينما يقول في موطن آخر: «لا يمين له ولا يسار ولا عرش له ولا صولجان».

       لقد كان نعيمة معجبا بالمسيحية مأخوذا بها إلى حدّ الانبهار، يقول: «يا مسيحي! أشهد أنّك حاضر أبدا في حياتي منذ أن وعيتُ نفسي وحتّى الساعة»17، فكانت كل أفكاره نتاج هذا العشق العاطفي الوجداني فبدت أقرب إلى الانطباعية منها إلى المعقولية، يقول موجّها خطابه إلى المسيح: «وأنا فيما أستنتج لا أسير على هدى عقلي بل على نور محبّتي لك ومحبتك لي»18. ولعلّ هذا الإعجاب المفرط بالمسيحية وعدم تحكيم العقل في مثل هذه المسائل هو الذي أوقعه في بعض التناقضات فغابت الموضوعية عن أغلب مواقفه وآرائه.

      صحيح إنّ عيسى بن مريم عليه السلام رسول ذُكر في القرآن الكريم عدّة مرّات، بل دعانا الله سبحانه إلى عدم التفريق بين الرسل إذ جاء في أواخر سورة البقرة «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»19. فالدين المسيحي دين تسامح وهي سمة حميدة، غير أنّه مُغال ومغرق في تلك السّمة مقارنة بالدين الإسلامي الذي هو دين علم وعمل، وتتّضح تلك المغالاة حين اجتمع السيد المسيح بالجموع على الجبل لكي يعلّمهم دستورا أخلاقيا لهدوء النفس وسلامها وسعادتها أيضاً في الحياة فقال لهم: حينما يؤذيك أحدهم لا تقابل الشَر بمثله بل من لطمك على خدك الأيمن (أي فعل الشَر بك) فحوّل له الخد الآخر أيضاً (أي أظهر له الجانب الأخر وهو المحبّة والتسامح. وتتجلى صفة التسامح بوضوح في الإنجيل الرابع ليوحنّا المعمدان.

      رغم بعض المواقف والرؤى الانطباعية عند نعيمة الناتجة عن عشقه اللامتناهي للمسيحيّة ممّا وسم كتابه"من وحي المسيح" بطابع يسوّغ لنا تسميته بالإنجيل الخامس، فإنّنا لا يمكن أن ننكر مجهود الرجل في تقصّية كلّ التعاليم والمبادئ التي تقوم عليها المسيحية. ومن كلّ هذا استقى مفهوما للحياة يتماشى مع تلك التعاليم التي تأخذ طابعا صوفيّا يصعب تطبيقه في واقع الحال. ومفهوم الحياة بهذا المعنى تناولته مصادر أخرى ذات طابع فلسفي- ديني إلاّ أنّ نعيمة تصرّف في المسألة ليضفي عليها طابع التفرّد وطابع التفلسف بحكم ثقافة الرجل الشاملة.

      ولئن اكتسى مفهوم الحياة عند نعيمة طابع الفرادة في اغلب جوانبه فإنّه ظلّ يتأرجح بين النصرانية والإسلام نظرا لطبيعة المسألة وارتباطها بالمقدّس، فالأديان المتصلة بالرّسل وتشهد لها الكتب المقدسة بذلك فهي مهما تنوّعت تسمياتها واختلفت تفاصيلها فإنها سليلة مصدر واحد يمتح من رافد واحد مهما اختلفت المشارب، ويصعب على من يحاول الفصل بينها فصلا جذريا. فأفكار نعيمة القريبة من الفلسفة هي بمثابة أسئلة تلقي بضلالها على مفاهيم مجرّدة أبوابها مشرعة على البحث. وضلال الأسئلة هو التعبير عن الفرادة المكرورة أو عن قدامة الجدّة وعن تصارب الاقتدار والانعتاق تصاربا هو منهما كالجذمور أو الأرمولة الممتدّة بعيدا في أرومة الوجود.

بقلم: مختار الماجري- أستاذ أوّل مميّز لغة عربية/ تونس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- "من وحي المسيح" مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1987

2 - هذا الفصل يقع بين فصليْ " السبت و الإنسان" و " يسوع و الإنسان" من كتاب " من وحي المسيح" لميخائيل نعيمة.

3-سُمّيت بـ"السامريّة" نسبة إلى السامرة في نابلس وهم طائفة من اليهودلا تعترف من العهد القديم إلاّ بالأسفار الخمسة الأولى التي تشتمل على الشريعة. وقد قبلوا رسالة المسيح ولم يكن بينهم وإيّاه صدام عقدي، أمّا علاقتهم باليهود فتقوم على التنافر والتضاد. 

4 - " من وحي المسيح" مؤسسة نوفل ،بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية 1987 ص 163.

5 – المصدر نفسه ص 169.

6 - المصدر نفسه ص 169.

 7- المصدر نفسه ص 169.

8 - المصدر نفسه ص 63.

9 - المصدر نفسه ص170

10 - المصدر نفسه ص170

11 - المصدر نفسه ص175

12 – انظر : Henri Bergson : Essai sur les données immédiates de la conscience, EDITION ORIGINALE, (1889).

13 - " من وحي المسيح" مؤسسة نوفل ،بيروت ، لبنان، الطبعة الثانية 1987 ص171

14 – المصدر نفسه ص112

15 - المصدر نفسه ص35

16 - المصدر نفسه ص103

17 - المصدر نفسه ص7

18 – المصدر نفسه ص8

19 - سورة البقرة الآية 285

بقلم: مختار الماجري- أستاذ أوّل مميّز لغة عربية/ تونس

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين