نُثار الذّكريات: إليك بنيّـــتي
منذ ساعات وأنا أراقب الظّلام. أنتظر
أن يزورني النّوم. ولكنّه أبيّ عَصِيّ هذه اللّيلة كما هو دائما في اللّيالي الّتي
تسبق مناسبات هامّة في حياتي. هذه اللّيلة سيشرق صباحُها فيكون أوّل يوم تستقبل فيه
كبرى بناتي حياتها الجامعيّة.
أوّل يوم في الجامعة، أراه شبيها بأوّل
يوم أخذتها فيه إلى روضة الأطفال، وما أكبر شبهه بأوّل يوم دَخَلَتْ فيه المدرسة الابتدائيّة.
ليس الأرقُ ما يمنعني من النّوم ولا الخوف
عليها، وإنّما هذه الصّور المتهاوية من ذاكرتي في فضاء الغرفة فتثقب الظّلام وتنير
قلبي.
هنا... أراها تلعب، وفي هذه الزّاوية
من البيت أراها منشغلة بدميتها، وهنا ألمحها منكبّة على قطع متناثرة لصورة تركّب أجزاءها
بحماس، وفي هذا الرّكن أراها منزوية تكتب على دفتر خاصّ تخفيه كلّما دخلت عليها، وهناك
أراها وفي يدها كتاب تطالعه، وها هي في الحديقة بين الأزهار البريّة تحاول مسك الفراشات،
وها هي تتعرّف إلى كلّ حمامة تقف على سور البيت وتسمّيها باسمها الّذي اختارته لها،
بل ها هي تلقي الحَبّ للدّجاجات.
هنا أراها تبتسم للشّمس وتضحك. وهنا أراها
على شاطئ البحر تلاعب موجه ويلاعبها وتندفع إليه برجليها الصّغيرتين في صخب بريء. وها
هي توسع الخطى كي لا يفوتها درس من دروسها. أراها تدخل فتلقي محفظتها في أقرب مكان
لتتهالك على أقرب كرسيّ تطلب الرّاحة، وأراها تجلس أمام الكمبيوتر تداعب مفاتيح لوحته
بمهارة.
بل أسمعها. إنّها ترسل ضحكاتها الصّاخبة،
أو هي تغنّي متعمّدة إزعاجي وتطلق العنان لصخب تعرف أنّني لا أحبّه. وها هي ترفع صوتها
بالنّقد لكلّ ما تراه أو تقرأه. صوتها الآن يصلني مستهزئا ساخرا من مواقف لا تعجبها.
أسمعها تناديني، وتسألني ترجمة كلمة أو عنوان أغنية، أو عنوان كتاب أو اسم كاتب. وأسمعها
تضحك بجنون لأنّها تسمع منّي لفظا لا تعرفه تقول إنّه من قاموس لغة غريبة لم يعد لها
محلّ في لغة أبناء هذا الجيل.
صوتها يرتفع تارة وينخفض أخرى حسب المواقف
الّتي تعيشها، ولكن يكثر صمتها، لأنّ حديثها مع الكتب كثير ومع لوحة مفاتيح الكمبيوتر
صار أكثر، وصوتها أجمل عندما يكون صمتا إذْ هو دراسة أو مطالعة أو كتابة أو تفكير في
حلّ مشكل رياضيّ أو فيزيائيّ أو تصميم لما لا أفهمه على الكمبيوتر.
أصغي إلى الظّلام الصّاخب في غرفتي وفي
نفسي، أميّز من بين كلّ الأصوات المتعالية في أرجاء البيت، صوتها الغاضب يرتفع بالشّكوى
من فوضى إخوتها. بل ها هي تلاعبهم وتنصحهم وتشجّعهم أو تعينهم على دروسهم، أسمعها الآن
وهي توشوشهم فيصمتون وينتبهون إليها ويأتمرون بأوامرها ويسود الهدوء.
كم هي رائعة عندما تكون هادئة، ولا يصدر
من غرفتها غير موسيقى كلاسيكيّة لبتهوفن أو موزارت أو تشايكوفسكي، أو موسيقى أوبيراليّة
إيطاليّة، أو تكون مستمتعة بسماع أمّ كلثوم وأسمهان، وحتّى «المالوف» ووصلات «الرّشيديّة»
والموسيقى التّونسيّة من العتيق تسمعها بمتعة.
صار للظّلام عطر مميّز يحمل أوّل عطور
ابنتي، رائحة مولودة جديدة، أميّزها به عن كلّ المواليد، إلى اليوم لا أحد من المواليد
الجدد أو إخوتها له عطرها. ولكن كلّ شيء يتغيّر وصارت تختار لنفسها ما تستحسن من العطور
ثمّ اختارت أن نستعمل أنا وهي نفس العطر. فرحتُ للفكرة فقد شعرت أنّها تحاول أن تتشبّه
بي، وليس في الدّنيا أجمل من أن أرى ابنتي تقلّدني مع أنّي أسعى إلى أن تكون مستقلّة
في شخصيّتها وأن تكون لها بصمتها. وهذا أيضا ألاحظه عليها جيّدا.
يتسرّب من ظلام الغرفة عبق الورد والياسمين
وها أنا أمسح عنها ما تبقّى من قطرات ماء على جسمها الصّغير بعد حمّامها الصّباحيّ
المنعش وأغمرها قُبلا فتضحك وتغطّي وجهها بيديها وتحاول أن تبعدني ثمّ تدفعني إلى أن
أغمرها أكثر. كم لعبنا معا، وكم كبرت اليوم عن مثل هذا اللّعب ولم أعد ألاعبها كما
أريد أنا. أصبح لها اختيار خاصّ وذوق لا يجب أن أناقشها فيه.
ما زال الظّلام يُسْقِطُ عليّ صورا من
هنا وهناك، وتغزوه بقع من الضّوء خافتا مرّة وساطعا أخرى. وها أنا أرى السّنوات تمرّ
وأرى ابنتي أمامي تنظر إليّ فلا أجد غير صوتي يدعو لها.
كَبُرْتِ بنيّتي، ولا يسمح الوقت بالنّصيحة،
فقد انتصحتِ بنصحي دائما، وليس الوقت يسمح لأُثْقِلَ عليك بخوف الأمّ. بنيّتي، الآن
ليس لي غير عطر الدّعاء أرشّه عليك وعلى أحلامك الهادئة ليحفظك الله من كلّ سوء. فاجعلي
دعائي عطرا تتجمّلين به وتحملينه تميمة وليس غير قدرة الله ترعاك.
بنيّتي، حتّى الدّعاء صار يكتظّ في صدري
وعلى لساني فلم أعد أعرف أيّ الأدعية أفضل في مثل هذا الوقت، يستجيب الله لكلّ دعاء
فلا تشغلي بالك بما يزدحم في قلبي من المشاعر وأعلمي أنّ هذا القلب في صدري يتعطّر
نبضه بعطر وجودك فيه. وسيرافقك حيثما كنت.
بدأت خيوط الفجر تنشر نسمات رقيقة في
مثل رقّتها. وأراني الآن أمشط شعرها وأعدّها ليومها الأوّل في روضة الأطفال، وها هي
تغرقني أسئلة بصوت عذب وبكلام لا تنطق نصف حروفه. وتسألني عن الهديّة الّتي سأكافئها
بها لأنّها ستكون هادئة وأفضل البنات. كانت كذلك حتّى صار هذا الهدوء يزعجني. كلّما
سألت عنها منشّطة فصلها تخبرني أنّك الهادئة الوحيدة وأنّها تخفي وراء الهدوء نبوغا
وتميّزا لأنّها الوحيدة أيضا الّتي كانت تنجز أنشطتها دون أخطاء، حتّى صار خوفي عليها
أضعافا. فكلّ الأطفال يلعبون في الفصل أثناء التّنشيط وهي تهدأ وتُظهر خجلا لتندفع
في البيت بكلّ الأسئلة وبالأناشيد الّتي حفظتها إضافة إلى الهدايا المفروضة الّتي ألزمتني
بها منذ أوّل يوم.
بنيّتي، هل تريدين هديّة لمثل هذا اليوم؟
بكلّ حبّ نختارها معا وترسمين بها ذكرى أوّل يوم في الجامعة. ما أجمل ذكرياتنا إذا
تساقطت منها بقع من النّور على عتمة المكان، أعيشها من جديد وأراكِ كما أنتِ، وكما
كنتِ. هل تذكرين أوّل درس اتّخذتِ فيه دور المدرّسة المجتهدة؟ كان في وسط العاصمة أمام
الإشارة الضّوئيّة في أكبر شارع، لم تتجاوزي حينها الرّابعة. وقفنا أمام الضّوء الأحمر
فأمسكت يدي بيدك الصّغيرة ونظرتِ إليّ بعينيك اللّامعتين وأفهمتني متى علينا أن نعبر
الطريق ومتى على السيّارات أن تعبر، وأجمل ما في الدّرس عِبْرَتُهُ «علينا احترام إشارات
المرور حفاظا على أنفسنا من حوادث الطّريق».
وسرنا في الطّريق. وكم مرّة وقفنا عند
نفس الإشارة. نعبر الطّريق لنصل إلى المكتبة، صار من عاداتك ألّا رجوع إلى البيت قبل
تفقّد جديد الكتب وقبل شراء مجلّة أو كتاب، وكم مرّة لم نكن نجد جديدا فكنت أشتري رضاك
بالشوكولا. ومفاجآت الشوكولا. أنا أحبّ الشّوكولا وكنت أحلم بأن أذهب إلى سويسرا لآكل
الكثير منها، ثمّ فكّرت أن أزور باريس في عيد رأس السّنة فيحمل إليّ «بابا نويل» شوكولا
كثيرة كما يفعل في الفلم مع الصّغار هناك لأنّه لا يزور ربوعنا.
حاولت أن أكون معكِ أكرم منه وبغير مواعيد
وطيلة السّنة. فكلّ أيّام السّنة تنفع للهدايا. ولم أجد أفضل من الكتب ومن الشوكولا
لأنّني ألبّي رغبة في نفسي. فسامحيني. إذْ كنتُ بذلك أرضي نفسي قبل أن أرضيك.
ليس هذا فقط، بل كنت أقترح عليك شراء
لعب معيّنة أشتهي أن ألعب بها. حتّى الدّمية المغنّية الّتي سمّيتِها «أمل» كانت فكرتي.
الرّائع أنّك قبلتها في عيدك الثّالث بكلّ فرح وحفظت ما كانت تغنّيه وكنّا نستمتع بالأنشودة
معا «على جسر أفينيون»، كنتُ حفظتها في المدرسة وحفظتها أنتِ قبل المدرسة.
والحمد لله أنّ فكرة الدّمية المتحرّكة
لم تكن لي، أنت أردت دمية تمشي، فأوصيت من جاءني بها من إسبانيا، وسمّيتِها «دنيا».
لم تحبّيها كثيرا ولكنّك استمتعتِ بها، ولم أرغب بها أنا كثيرا أمام دمية «الباربي»
وألعاب التّركيب.
دفعتك إلى الدّمى واخترت أنت السّيّارات
والطّائرات ولعبة الجنود، ولمّا كبرت صارت ألعاب السباقات والعنف هي المفضّلة لديك
كأنّك تنتقمين من الهدوء الّذي أنتِ عليه غالب الوقت. عندما سألتك لِمَ تعجبكِ مثل
هذه الألعاب لم تجيبيني بغير أنّها مثيرة وتصلح للأذكياء ليتخلّصوا من المآزق، إجابتك
لم تكن تقنعني ولكنّي لم ألحّ في السّؤال، أعرف أنّ لكلّ شيء نهاية وأنّك لن تلعبي
كلّ الوقت. وما كان يخفّف من انزعاجي حبّك للكتب والمطالعة.
تذكرين عندما تسابقنا من منّا ستطالع
كتبا أكثر في العطلة الصّيفيّة؟ كنت لا تفعلين شيئا غير القراءة، حطّمتِ أرقاما قياسيّة،
كم مائة
صفحة في يوم واحد، كم كتابا؟ ما أذكره أنّك في تلك الصّائفة التهمت كلّ مؤلّفات توفيق
الحكيم التهاما وأنّك كنت تحدّثينني بعدها عن محتوى الكتاب وتنقدينه وتضحكين. لم أكن
أعرف أنّك ستحبّين كتب توفيق الحكيم مثلي. وأذكر أنّ ثلاثيّة نجيب محفوظ أخذت من وقتك
ثلاثة أيّام، حتّى خفت أن تنتهي مطالعتك لكلّ ما عندنا من الكتب قبل نهاية العطلة.
هل تذكرين كم فرحت بنسخة ثرثرة فوق النّيل عندما وجدتها قديمة؟ أخبرتك أنّنا نملك الكتاب،
فقلت لي بأنّ للنّسخة الّتي اقتنيتِها رائحة مميّزة، هي رائحة الورق القديم، أجمل رائحة.
وكنتِ لا تقرئين كتابا إلاّ بعد أن تشمّيه وتتعرّفي على رائحته. كم قرأنا من الكتب
معا؟ وكم طلبت رأيي في كتب قبل قراءتها. ويوم طلبت منك قراءة كتاب «الحضارة أمّاه»
لإدريس الشرايبي، وجدتك تتفاعلين معه من بدايته، ولأوّل مرّة وجدتك تقطعين قراءتك لكتاب
بكثير من الكلام عنه، بعدها قدّمت إليّ ورقات مطالعة لتكشفي قدرتك على الفهم والتّلخيص
وتحليل القضايا والشخصيّات، ولولا أنّني أتابعك لقلت إنّك نقلت العمل. احتفظت بأوراقك
كما احتفظت برسالة بعثتها إليّ في أوّل سنة في الإعداديّة. وكانت أروع رسالة من بنت
إلى أمّها عنوانها «أبصرت النّور في ينبوع ذلك القلب»، كتبتِ فيها:
(تيّمتني، أحببتها. لماذا؟ لحسنها ولجمالها أو
لرقّتها؟ لا أدري. كلّ ما أدريه أنّني أصبحت كالسّنبلة الخضراء المنتظرة أشعّتها لتنضج
وتُقطف. من دونها أكون مَجرّةً تنتظر كواكب وكواكب لتملأني. بل البحر الخالي من الأسماك،
والجملة المجرّدة من المعاني والكلمة الخالية من الحروف، لقد صرت قلبا لا يعرف معنى
المحبّة إلاّ بها، قلبا محبّا لدنيا اسمها «أمّي»، الكلمة الّتي بقيت تغنّي الفرح في
قلبي وتنشد لك لحن الحبّ الجميل وتقول لك من القلب إلى القلب: أحبّك أمّي.)
ربّما أسأت إليك بنيّتي عندما لم أقبل
فكرة اختيار شعبة الآداب وحفّزتك على العلوم، لم أكن أنوي الوقوف أمام طموحك ولكنّ
تميّزك في العلوم كان يضمن لك ما تحلمين به. ألست أنت من حلمت بأن تكوني مهندسة وأن
تصعدي إلى المرّيخ وأن تصلي إلى الكواكب البعيدة؟ أنا كنت أحاول أن أضع أقدامك على
الأرض في تصوّر علميّ فيزيائيّ، فنحن نعيش على الأرض بفعل الجاذبيّة ونطير بأحلامنا
ثمّ نعود لننفّذها على أرض الواقع، وأردت أن تكوني على أرض الواقع لتحقّقي أحلامك.
اليوم عندما تدخلين أوّل دروسك ستحلمين
أكثر، وستجدين أنّ الأحلام ممكن تحقيقها بالاجتهاد وأنّ المعادلة الحقيقيّة الّتي نعيش
بها هي أن ننفّذ في الواقع ما نحلم به وإلاّ فما فائدة الأحلام؟ وما قيمة الواقع؟
افتحي الباب بنيّتي، واخرجي إلى هذا العالم
الكبير ولا تَرهبي. لن تبتعدي. فكلّ ما في الأمر أنّك تعودين إلى العاصمة حيث كانت
دروسك الأولى قبل المدرسة، وهي كما احتضنتك صغيرة ستحتضنك اليوم.
أنا أيضا أحاول أن أستوعب فكرة ألّا تكوني
معي كلّ اليوم وأن تعيشي بعيدة عنّي، ولكن هذا الابتعاد ضروريّ لتكوني كما تريدين.
ولأراك تحصلين على شهادة عليا. أطلقي العنان لطموحك وحلّقي بجناح الأمل وعودي إلى الأرض
لتجعلي حلمك واقعا. سنكون معا دائما وردتي الجميلة وسأسقيك من حناني وحبّي كما فعلت
دائما.
ابتدأتِ طريقكِ بخطواتك الأولى إلى الجامعة،
وافتتحتُ نهاري بالدّعاء لك وبخفقات من قلبي أرسلتها وراءك تحرس خطاك وتحدو طموحك.
حفظك الله ملاكي، كم تمنّيت أن أمسك من
جديد يدك لأدخلك قاعة الدّرس، وتودّعينني بلمعان عينيك وتورّد خدّيك وهمسة حبّ من شفتيك
تطردينني بها زاعمة أنّك كبرت ويمكنك الاعتماد على نفسك.
وهيبة ڤويّة/ تونس
سبتمبر 2011