الجمعة، 17 يونيو 2022

قراءة في رواية "اللّواجيست" لعبد المجيد يوسف،،، المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر (1) بقلم صالح مورو/ تونس

 قراءة في رواية "اللّواجيست" لعبد المجيد يوسف

المجهر اللّغويّ النافذ للبواطن عبر الظّاهر (1)

بقلم صالح مورو/ تونس

توطئة

عبد المجيد يوسف كاتب تونسيّ، مكانه بين الشّعر والرّواية، النّقد والتّرجمة، البحث والثّراء الفكري... لا يهدأ... الكتابة ديدنه الوحيد... ورث القراءة في مفهوم المطالعة عن والده منذ الطفولة... أصيب بالنّهم وبقي كذلك... تهاجمه القصيدة في لحظة فارقة، مشحونة ومكثّفة... أمّا مولد الرّواية لديه فينبعثُ من خلال تأمّل عميق ورويّة ثاقبة في منحًى من مناحي الحياة... ولكم أعجبتني روايته الأخيرة "اللّوّاجيست أو نجمة الرّاعي" وإعجابي بها دفعني لمحاولة قراءتها في هذه الورقة... على طريقتي ومن وجهة نظري... زادي في ذلك القارئُ المُعجَبُ بهذا الأثر وكلّ أملي أن لا أسيء لمضمونه ولو بشائبة.

 تقديم الرّواية

تصديرا لروايته، تبنّى الكاتب مقتطفا من الآية 29 من سورة غافر متمثّلا في قولةٍ لفرعون: "ما أريكم إلا ما أرى"... فِرعون هذا، أشهر طغاة الزّمان والإنسانية على الإطلاق كما يقولون... لو نظرنا في قِيله لانتهينا إلى أنّ كلَّ ما سيُروى داخل هذا الأثر، سيكون بعلاقة متلازمة بـــــ"التّناصّ القرآني" في المعنى داخل المقتطف من الآية، لكن بعيدا عن مخيالنا الدّيني الذي قد يعمد أحيانا إلى "لَيِّ أعناق النّصوص" كما يقول الباحثون. قِيلُ فرعونَ جاء ردّا على قِيل المؤمن من آلِهِ، نَاهٍ إيّاه عن قتل موسى...

المجهر اللّغوي النّافذ من الظّواهر إلى البواطن في البناء الرّوائي:

يقولون: "إنّ الشّاعرَ تُرجُمان النّفس، كما أنّ اللّسان تُرجمان القلب مثل هذه المسلّمات تُحيلني مباشرة إلى لُبِّ رواية الكاتب عبد المجيد يوسف "اللّوّاجيست"، وما اعتمد عليه من واقعيّة وخيال ولغة بأساليبَ فنّيّةٍ راقيةٍ، لبلوغ سبر أغوار شخصيّاته داخل روايته هذه التي نروم الوقوف عند مضمونها لتفكيك ما يمكن تفكيكه ووضعه أمامنا للنّظر فيه مليّا إن استطعنا إلى ذلك سبيلا...

عقدة الرّواية وفكّها

انبجست عقدة الرّواية، وفي جوهرها "عاطفيّة"، من رحم ذاكرة المسافرة الرّابعة وهي شابّة "طبيبة"، قد جمعتها الصّدفة ذات مرّة في سفرة مع "اللّوّاجيست" من بنزرت إلى تونس العاصمة حيث تشتغل بمستشفى الرّابطة... قالت بعد أن رَكَنتْ حقيبتها في مؤخرة السيارة واقتربت من مقعد الباب الأمامي يمين السائق وكان به رجل، قالت للّوّاجيست: "ما نعرفش وين لاقيتك، وجهك موش غريب عليّ بالمرّة... أنا شبه متأكّدة..." اكتفى بأن تمتم: "ممكن... علاش لا؟". رفضت الصّعود متعلّلة بما يُصيبها من دوّارٍ بالرأس وغثيانٍ وتقيّءٍ وما يمكن أن تُحدثه من تعطيلٍ خلال الرّحلة... أصرّت على البقاء واقفة، نظر إليها الرّجل الأمامي بعد أن سمع قولها فبادرها قائلا: أنا مثلكِ تماما، بل أفدحُ منك بكثير وانبرى يقدّم حُجَجًا علميّة دامغة أفضت بالسّائق إلى إمكانيّة ركوبهما معا في نفس المقعد بما أنّ السيّارة مازالت شبه فارغة، وكان الأمر كذلك... نزل الرّجل الأمامي، صعدت الطبيبة، زحفت سنتمترات إلى الشمال، صعد الرّجل وأغلق اللواجيست الباب فزحمه وتراصَّا مثل سردينتين في علبة... انطلقت اللّوّاج بأربعة مسافرين في اتجاه صفاقس فالجنوب. طلب السائق وضعَ حزام الأمان، ما أجبر الطبيبة على أخذ طرف الحزام وأطالته وغرزته في المنشب الذي عن يسارها وهكذا دخلت (هي والرجل في قميص واحد). نظر الرجل الأماميّ إلى الحزام وقد نزل بين نهديْ الطبيبة وفصلهما فصلا وأبرز نتوءهما. فقال: (بينهما برزخ لا يبغيان). نحن أمام لوحة سورياليّة. نظر إليه من في السيارة ولم يبدُ أنّ أحدا فهم مقالته. نلاحظ أنّ المقطعين الواردين بين قوسين جاءا في تناصٍّ قرآنيٍّ ثابت: المقطع الأوّل وردت الجملة "هي والرّجل في قميص واحد" في إشارة إلى قميص يوسف شاهدا على صراعه مع امرأة العزيز إن كان قميصه قُدّ من دبرٍ أو قُبلٍ لإثبات الخائن. إمكانيّة قدّ أو شقِّ قميصٍ واحدٍ من طرف اثنين لا تَرِدُ إلا في حالة قميص يوسف بناء على الآية 25 من سورة يوسف ((واستبقا البابَ وقدّتْ قميصه من دُبر وألفيا سيّدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يُسجن أو عذاب أليم)). أمّا المقطع الثاني "بينهما برزخ لا يبغيان" فهو الآخر يُبرزُ تناصّا قرآنيّا بليغا في تشبيه النّهدين المنفصلين بحزام الأمان ببحرين لا يلتقيان، هذا عذب وهذا مالح، لأنّ لكلّ واحد منهما خصائصه التي يتميّز بها، فوضع الله بينهما برزخا، في شبه حزام الأمان، فاصلا لكيلا يبغي أحدهما على الآخر، بناء على الآيتين 19 و20 من سورة الرّحمان: ((مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان)). مشاهد كانت مباشرة بعد الانطلاق من العاصمة. بعد مسافة هامّة، وقفت السيارة بمحطةِ استراحةٍ وصبِّ البنزين، نصفُ ساعةٍ ورجع الجميع إلى أماكنهم. أخذ الرجل الأمامي حزام الأمان وسحبه مليّا حتّى يبلغ المنشب البعيد شمال الطبيبة... أحسّت بتماسٍّ جليٍّ بينها وبين جارها حتّى لامس مرفقُه نهدها الأيمن... تحرّكت قليلا لتبتعد، لكنّ الرّجل ما فتئَ يُلقي نظرة مواربة على جيب قميصها من حين لآخر... واتّضح البغْيُ وانكسرت حرمةُ البرزخ على اليابسة... ركن اللّوّاجيست إلى مقعده، ماسكا مقوده بين يديه، موزّعا بصره على بهو الطريق في نظرة استشراف وقيادة، يتحكّم في مُكوّنات السيّارة بما فيها من أشخاصٍ وآلة... خيّمَ الصمت على المجموعة لريبةٍ ما... أحسّ الرجل الأمامي بالضّيق، طلب من السائق الوقوف قائلا: "بربّي أوقف لحظة... ما فيش فايدة..." ثمّ نظر إلى الطبيبة، فهمت رغبته، فكّت حزام الأمان، نزل وبيده حقيبته، فتح الباب الجانبيَّ وصعد إلى الخلف تماما داخل السّيارة وراء المسافريْن الآخريْن ويبدوان مُتكتّميْن كأنّ على رأسيْهما الطّير... رآه اللّواجيست في المرآة العاكسة الدّاخليّة قد استقرّ في مقعده، ابتسمت الطبيبة مُستَجِمَّةً بالاتّساع الحاصل بعدَ رحيل الجار الثقيل، ونظر إليها مبتسما كأنّ هناك ارتياحا شعُرا به معا... وانطلق الحديث فيما بينهما وتوالت الابتسامات... لكنّ الرّجل الأمامي الذي أصبح خلفيّا ما انقطع عن مشاكسة الطبيبة من حين لآخر، عارضا عليها خدماتِه إن رغبت في ذلك... نهاية الرّواية ستكون كفيلة بتأكيد ما رصدناه من "عقدة" وما توصّلنا إليه من فكٍّ لها بحكمةٍ وبراعةٍ مردّهما ذكاءُ اللّوّاجيست مع صبره وأناته.

(يتبع)

بقلم صالح مورو/ تونس

الخميس، 16 يونيو 2022

كتاب مجمع البحرين، لناصيف اليازجي، بقلم الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

 

كتاب مجمع البحرين، لناصيف اليازجي

بقلم الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

الأجناس الأدبية تنبعث وتتناسل بعد طول ركود. قد تنبعث في شكل جديد كما تحوّلت التراجيديا إلى أجناس أخرى... قد تحافظ على مقولاتها المتعالية التي لا تكون إلاّ بها وقد تفقد بعضها كما هو الشأن الآن في المسرح الأوروبي حيث التراجيديا مجزّأة أو محوّرة وقد اختفى منها ما كان يميّز التّراجيديا: الغناء والرقص.

وفي خصوص الثقافة العربية فإنّ المقامة هي الجنس الذي لم يصمد صمودا كاملا أمام الإرهاصات الثقافية والتّحولات المجتمعية والمعرفية كما صمد الشعر مثلا، فعرفت المقامة إمّا تقليداPastiche قد يصيب من الأدبية ما لا يتدنّى به دون النموذج وقد يتدنّى أحيانا إلى درجة الباروديا   Parodie وأحيانا تنبعث في شكل أقصوصيّ، فكان أستاذنا البشير خريّف قد حوّل المقامة المضيرية للهمذاني إلى أقصوصة بعنوان "النقرة مسدودة" ضمن مجموعه القصصي "مشموم الفل" (انظر كتابنا: تلوينات على وشاح طائر. دار رسلان للطباعة والنشر تونس 2015) ولكن هذا التّحويل يظلّ بعيدا عن ذهن القارئ غير المتبصّر، ولم نجد من تفطّن، بعد سنوات من الصّدور، إلى الصّلة الوثيقة بين مقامة الهمذاني المذكورة وبين قصّة أديبنا البشير خريّف.

وقد شهد العصر الحديث مجموعة من التّقليدات لجنس المقامة ظلّت محتفظة بالمقولات العامّة المتعالية المؤسّسة لجنس المقامة:

الحادثة الطريفة المفارقة

ثنائية الخادع والمخدوع أو التعتيم والكشف

الرّاوي بضمير التّكلّم والذي عادة ما يكون المخدوع

الخطاب القصصي المسجوع المحمّل بالمحسّنات البديعية

ومن مظاهر التقليد والرّبط بالنّموذج أنّ المقلدين، فضلا عن احتفاظهم بالمقولات المتعالية التي أشرنا إليها والتي تؤسّس جنس المقامة  وتجعله خطابا مخصوصا، يجعلون الخطاب في نصوصهم لا تاريخيا  متجاوزين بذلك خصوصيات عصرهم الحضارية والمعرفية، جاعلين من اللغة صورة ثابتة غير محكومة بالتّطور التّاريخي، فضلا عن ذلك قد يجعلون -بالتبعية- الأطر التاريخية لنصوصهم  لا تاريخية أيضا فتتمركز وقائع نصوصهم في أحقاب خالية (انظر المقامة العبسية حيث نزل سهيل بن عباد مستجيرا بقبيلة عبس...(ص 331 من الطبعة المذكورة) وهكذا يتّسع عند دراسة المقامة مجال النّصّية العابرةtranstextualité   التي - بدراستها - تتحقّق أدبيّة النّص.

وقد ساهم الكاتب اللبناني ناصيف اليازجي في هذه المحاولات الإحيائيّة فوضع كتابا سمّاه "مجمع البحرين".  والنّسخة التي لديّ صادرة ببيروت عن المطبعة الأدبية (مطبعة حجرية فيما يبدو) سنة 1885 في 436 صفحة من الحجم الكبير24/16 وقد احتوى على ستين مقامة. (الطبعة الرابعة)

ناصيف اليازجي (1800/1871) كانت أسرته تمتهن الكتابة لدى أمراء لبنان ولدى الأسرة الشّهابيّة (الشهابيون سلالة حكمت لبنان تحت الحكم العثماني، تسلّموا الحكم عام 1697م انتهى حكمهم عام 1861 ) ومن هنا جاء اللقب اليازجي أيْ الكاتب باللغة التركية، وهو مترجم وهو ناقل كتاب العهد القديم والإنجيل إلى العربية. وقد كان له دور مهمّ في ترسيخ اللغة العربية ومحاولة إحيائها بعد إذ كادت تضمحلّ في القرن التاسع عشر (انظر ما في المؤلفات والمراسلات السّياسية في هذا القرن من ضعف المستوى اللّغوي لدى مؤلّفين كبار وما اعترى نصوصهم من إخلال بالنّظام النّحوي وبالنظام التركيبي وما خالط مؤلفاتهم من لحن)

الشخصية القاصّة الموحّدة هي سهيل بن عبّاد، والمقامات السّتّون تنقسم إلى أنواع:

مقامات قصصيّة تحدث فيها خدعة تنكشف في النّهاية وتنسب في عنوانها إلى المكان الذي صارت فيه وقائعها (المقامة البدوية، المقامة الحجازية، المقامة الشّامية... ومنها ما نسب إلى أقوام أو قبائل: المقامة التّغلبيّة/ المقامة العبْسيّة/ المقامة الحِمْيَرِيّة...

مقامات تعليميّة مثل المقامة الخزرجيّة وفيها أسماء المطاعم والنّيران والسّاعات والرّياح وخيل السّباق.../ المقامة الحِمْيَريّة فيها مباحث لغوية ومسائل شتّى من فقه اللّغة ومسائل من النّحو والصّرف... كما في المقامة الأزهرية والمقامة الفلكية وفيها ذكر للكواكب السّيّارة والبروج والمنازل...

مقامات حجاجيّة كالمقامة الجدلية وفيها مفاضلة بين العلم والمال/ والمقامة الكوفية فيها جدال حول مسائل نحوية.

مقامات إلغازية كالمقامة اللغزيّة والمقامة الأزهريّة وفيها إلغاز بلفظيْ الحرف والنون واسم الصوت... والمقامة الحِلية فيها معميات وأحاجي.

ويحتوي الكتاب على جهاز للشّرح المعجمي للمفردات الغريبة القديمة ولملاحظات لغوية تعليميّة كالملزومة التي أوردها في الهامش حول المواقع التي تثبت فيها الهمزة في "ابن وابنة" أو التّمييز بين عطف البيان وعطف البدل... وفيه كذلك في الهوامش تعريف بالأعلام الواردِ ذكرُهم وبعض الأخبار المأثورة.

والواضح أنّ هذه الهوامش الثريّة جدّا هي من وضع المؤلف نفسه لأنّ الطبعة الرّابعة التي لدينا صدرت بُعيْد وفاته، كما أنْ ليس هناك عمل تحقيق قام به غيره.

ويظل "مجمع البحرين" عمل شديد الأهمية لا في قيمته الأدبية فحسب بل هو مفيد للدراسة اللسانية -التّاريخيّة أيضا.

ورقة من إعداد: الباحث عبد المجيد يوسف/ تونس

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين