نشأة قصيدة النّثر في تونس،
ورقة أدبيّة يصدرها الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس
... كان لهؤلاء الطلبة ذوي التّوجّه اليساريّ المنتمين إلى
الجامعة مفهومهم المخصوص للكتابة الشّعريّة ولمفهوم القصيد، بل قل مفاهيمهم
المخصوصة المستوحاة من نبض الحياة فاعتُبر الشّعر "مسيرة احتجاج مطالبة
بالحرّية". وفي خصوص الأشكال اعتبروا كتابتهم نماطا "في غير العمودي
والحرّ" وهو تعريف واصفٌ لمظهر خارجيّ وتصنيفٌ أجناسيّ أكثر منه متعلّقا
بالمفهوم المجرّد، فضلا عن الاضطراب في صياغة المصطلح، كلّ هذا في ظلّ مراجعة
للسّابق ومحاولة لتجاوزه، فقالوا بأنّ "الشّعر العربيّ في قوالبه الموسيقيّة
والتّعبيريّة قد أدّى دوره واستنفد طاقته وانتهى" أمّا الشّعر الحرّ"
فهو تجديد منقوص لأنّ المحافظة على التّفعيلة هي ارتباط لا مناص منه بسجن
الأوزان" (الطاهر الهمامي حركة الطليعة الأدبية ص ص 134- 138 دار سَحَر وكلية
الآداب بمنوبة تونس بدون تاريخ)...
وبما أنّ كلّ طليعيّ سيصبح يوما ما كلاسيكيّا بمرور الزّمن
فقد تراجع هؤلاء الطّلبة الثّوريّون عن قناعاتهم حين أصبحوا أكاديميّين وتضاءل أثر
الأدب الطّليعيّ وعزفت الصّحفُ والمجلّات عن نشره وأزمة النّشر للكتب قائمة
متمكّنة لندرة دور النّشر آنئذ، فانكفأ أصحابه وانفضّوا ولم يبق إلاّ يعسوبهم
المرحوم الدّكتور طاهر الهمّامي يناضل فردا. وحاول أن يجد شيئا يجدّد به المسار
فابتدع ما أسماه بالمنحى الواقعيّ في الأدب خلال انعقاد المؤتمر الأول للشّعر
التونسيّ بالحمامات صائفة 1981...
في تلك الظّروف أيْ في منتصف السّبعينات بدأت قصيدة النّثر
التونسية بالظّهور نتيجة للمراجعات العديدة في المستويين الإيديولوجيّ والجماليّ.
ففي المستوى الإيديولوجيّ لطّفت حرب 1973 ما تركته الحرب
السّابقة من شعور بالخذلان وتغيّرت النّبرة القاتمة وتقاوى تيّار القوميّة
العربيّة في طائفة من الشّعراء منهم د. حسين العوري...
وفي المستوى الجماليّ تبلورت ذائقة تستمد قناعاتها الفكريّة
من غير المحليّ أو القوميّ. فإلى جانب الاستمرار في التّيّار المحافظ على نظام
القصيد الحرّ بحكم وجود البيّاتي والسّيّاب ونازك الملائكة وعيرهم من أصحاب القصيد
الحرّ في المقرّر الجامعيّ لطلبة الأستاذيّة (الباكلوريوس) في اللغة العربيّة
فإنّه وُجد تيّار يكتب خارج هذه المنظومة الفكريّة القومية ويتوجّه بكتابته منزعا
إنسانيّا، إنّه قصيد النّثر التي بدأت تتسرّب من أقلام الشّعراء في منتصف
السّبعينات في معزل عن المؤثرات الشّرقية التي يُزعم أنّها كانت ذات أثر في
نظيرتها التّونسيّة في مجال النّشأة على الأقلّ... فنحن نرى أنّ قصيدة النّثر
التّونسية نشأت بمؤثرات محلّية صِرْف. فظهرت جماعة من المؤسّسين لم يجمعهم تنظيم
ولم تربط بينهم آصرة، فكان كلّ منهم يكتب بمعزل، لكنّهم كانوا ولا شكّ يقرأ بعضهم
بعضا... أذكر منهم على سبيل التّمثيل محمد أحمد القابسي الذي أصدر أعماله الكاملة
فيما بعد بمصر وظهر مجموع "البحر في كأس" (1978) نمطا غير مألوف في الكتابة
الشّعريّة التّونسيّة وتلاه "كتاب العناصر" ليؤكّد منحاه هذا إلى جانب
جهوده التّنظيريّة التي كان ينثرها في الصّحافة الأدبيّة.
ومن المؤسّسين أيضا الشّاعر سوف عبيد الذي كان ينشر قصائده
في الصّحافة الأدبيّة منذ منتصف السبّعينات ونشر مجموعه الأول "الأرض عطشى"
سنة 1980 ويتميّز شعره بميزة غير ما اتّصف به شعر القابسي... فإذا كان القابسي
ينزّل مسألة الغموض في إطار من أونطولوجية الشّاعر نفسه باعتباره "تركيبة
معرفية ونفسيّة معقّدة" تتوجّه إلى قارئ يعوّل على التّأويل وعلى وسائله
المعرفيّة الخاصّة ليصل إلى كُنه السّؤال الجماليّ المحمول على القصيد فإنّ سوف
عبيد نظر إلى المسألة من زاوية أنّ القصيد النّثري الخالي من التّعقيد المتّسم
بالسّلاسة البنيويّة القريب الرّمز هو الأرضيّة المعرفيّة التي تلتقي عليها ذات
الشّاعر بغيرها من الذّوات وكلّ القرّاء أيّا كانت مشاربهم مدعوون إلى الحفل
المعرفيّ، كلّ على قدر نصيبه في المعرفة..
ورقة أدبيّة يصدرها الباحث:
عبد المجيد يوسف/ تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يتم نشر التعليق بعد المراجعة