|
الأستاذ: مختار الماجري/ تونس |
السعادة:
واقع أم خيال؟
لطالما أرّقتني مسألة
وجودية ولاتزال منذ أمد إلى اليوم، فجعلتني “تائها في ظلام شكّ ونحس" بتعبير
الشابي، ولا أستطيع تلذّذ أيّ شيء، أو أن أعيش الفرحة بعمق مادامت تُراودني أسئلة
من هذا القبيل: هل يمكن للإنسان أن يعيش السعادة فعلا والحال أنّه ينتظره يوم
"تشخص فيه الأبصار"؟ وهل يمكنه أن يسعد
بنجاح أو فوز أو تألّق أو مكافأة في هذه
الحياة التي يعقبها يوم فيه "تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَمَا هُم بسُكارى
وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ..." ؟ وهل يمكن للإنسان أن
يسعد بعد أن يقرأ قول الله تعالى"{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلًّا وَارِدُهَا كَانَ
عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. وقد اختلف علماء الدين
في تفسير معنى الورود، فمنهم من يقول بأنّه لا يعني الدخول بقدر ما يعني الإشراف
عليها والقرب منها استنادا إلى الآية الكريمة (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ)، أي أشرف عليه لا أنّه
دخله، ويُؤكّده حديث حفصة الذي رواه مسلم قال الرسول "صلى الله عليه وسلم
ـ" لا يدخل النارَ أحدٌ من أهل بَدْر والحديبية"، وقيل ورُود المؤمنين
النار هو الحُمَّى التي تصيبهم في الدنيا، كما روي في حديث”الحُمَّى حظُّ المؤمن
من النار" وقيل الورود هو النظر إليها في القبر، وقيل غير ذلك. هذا من منظور
ديني للمسألة. أمّا إذا ألقينا نظرة فاحصة على الواقع واستحضرنا تفاصيل حياتنا
اليومية بوقائعها المؤلمة لنا أن نتساءل: ما الذي يشرّع اليوم للحديث عن
السعادة ونحن نعاصر المقت والجور والاستخذاء
والتماثل والامتثال وكثرة الحاجة؟ أهي أزمة الفكر العاطل انسدّت أمامه السبل فارتدّ
يُقلّبُ تكريرا ما تصرّم من المباحث والمشاغل؟ ألا يكدّر الموت صفاء النفس ونشوة الحياة؟ وهل نحن في حاجة
اليوم إلى مزيد الحديث عن الموت ونحن نراه تعيّنا حدثيا في الزرع والضرع والنسل؟
أهو الإحساس العدمي والكارثي باللاجدوى وبموت المعنى ممّا يدفع إلى التوجّه جهة
الموت يأسا من الحياة؟ أهو الحزن يطبق على الذات فينهك اقتدارها فتلجأ إلى فكرة
الموت تأسّيا وملاذا؟
وإذا كان
لابدّ من الوجود، فيجب أن يكون هذا الوجود جميلا. فجمالية الوجود ليست اعتباطا
ساذجا يجهل الواقع إنما هي فعل وعمل ودلالة بها يرتقي الإنسان إلى حرّيته. هي سلوك
راق يقرّب الإنسان من الإنسانية من حيث هي فنّ حياة وليست حنينا رومنسيا إلى براءة
أنطولوجية مفقودة أو طلبا لانكفاء الذات على ذاتها لحظة تأزم الوجود الجماعي ولحظة
العجز عن إصلاح فساد الساسة والسياسة.
وبما
أنّ السعادة هي الهدف النهائي للوجود الإنساني كما يقول أرسطو، فهل يمكن للسعادة أن
تتحقّق بعيدا عن الحريّة؟ وهل الحرّية لقمة سائغة تُقدّم لمريديها على طبق من ذهب؟
ألم يقل الشاعر:
"
وللحريّة الحمراء بــــــــــــــــــــــــــــــابٌ بكلّ يد مضرّجة يُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدقُّ"؟
ففي خضمّ توتّر الذات الباحثة عن السعادة وبلغة"
المثقّف الشمولي" يجب أن تكون الغلبة دائما
للغضب وللمقاومة وللرغبة حين تُقبل جميعها جذلى تتصادى بين التوصيف والتاريخ، وبين
الخرائط والأجساد امتدادا من فينومينولوجيا الفقر إلى أنطولوجيا المحبّة مثلما كان
يقول أنطونيو نغري. الفقر قوّة حيويّة مولّدة للمقاومة، والمحبّة جمع ودوام وإيقاع
وحراك يستصحب القاطن والراحل. الفقر والمحبّة معا يحرّكان المادّة ويفتحان اللغة
ويصنعان وجوها أخرى للواقع. ولسنا نقول ذلك تعبيرا عن تفاؤلية فجّة بل نحن نقوله
مدركين مأساة الأحداث وأقدار التاريخ وأعراس الحريّة ودلالات الصيرورات العينية
وصخب الذاكرة خارج مدن الأموات ومقابر الأحياء. ورغم أهميّة المحبّة ودورها في
تغيير الواقع، فإنّ هذه القيمة وأيّ قيمة بشكل عام في هذا العصر لم تعد مرجعا
متعاليا، بل أصبحت القيم معايير نسبية صائرة صيرورة الوضع الإنساني العطوب والمتناهي
والسائر من تعاريق الحياة إلى وجاهة الموت.
قبل النظر في آليات تحقيق "السعادة"
لا بدّ أن نقف على هذا المفهوم الغامض لنكشف حقيقته وجوهره وما يكونه. فهل السعادة
تحقيق لكلّ الرغبات والاستئثار بالمال والسلطة؟ أم هي الرضا بالواقع والبحث عن
حياة سالمة وسليمة بعيدا عن الصراعات والمشاحنات؟ أم هي شعور داخلي يشعر به
الإنسان ليمنحه راحة النفس والضمير وانشراح الصدر وطمأنينة القلب؟ فما هي السعادة؟
وأين تكمن؟ وهل هي قرارٌ أم قدرٌ محتوم؟ وما نظرة الإسلام لها؟
يَختلفُ مفهوم السّعادة من شخصٍ لآخر،
وقد اختَلفَ في تعريفها الفلاسفة كذلك؛ إذ إنّها مُصطلحٌ نسبيّ، فقد يُسعدُ
الإنسانَ شيءٌ يُعدّ لدى غيره عاديّاً، ويودّ الجميع لو يصبحون سعداء، بيدَ أنّك
حين تسألهم: ما معنى السعادة؟ لن يستطيع أكثرهم الإجابة بشكلٍ صحيح، ويرجعُ ذلك
إلى أنّ المفاهيم تعقّدت وتشابكت، فما عاد غالب النّاس يُفرّقون بين السّعادة
والرفاهية والرّضا، وبين النجاة من الموت والألم والسّعي خلف الرّزق ورفاهيّات
الحياة. تُعدّ السعادة مفهوماً مجرّداً لا ينحصرُ بنطاقٍ حسيّ ولا عقلانيّ، بل
يتجاوز ذلك إلى ما هو خياليّ، ومن هُنا تكمنُ صعوبة حصره وضبطه في بضع كلمات تصفه،
ولذلك يذهب الفيلسوف الفرنسيّ نيكولا شامفور إل القول بأنّ السعادة ليست بالأمر
الهيّن، فمن الصعب أن نعثُر عليها في دواخلنا، ومن المُستحيل أن نعثر عليها في
الخارج. ويُعرِّفُ أرسطو السّعادة بأنها (اللّذّة، -أو على الأقل أنها تكون مرتبطة
ارتباطاً وثيقاً باللذة- واللذة بدورها يتمّ تفسيرها باعتبارها غياباً واعياً
للألم والإزعاج) حيثُ يحصرُ الفضيلة بالتّأمُّل والفلسفة في التفكير، ويصلُ أخيراً
إلى أنّ الحياة التي تتصّف بالسّعادة هي الحياة التي تُعنى وتتمحور حول النشاط
العقليّ، أمّا سبينوزا فيقول في كتابه الأخلاق: (السعادة هي الغبطة التي ندركها
حينما نَتحرّر من عبوديّة الأهواء ومن الخرافات والأحكام المسبقة). وقد تطرّقت
خبيرتا السّعادة لارا كور وديبرا ريكوود لمعنى السّعادة، فقالت كور: (السعادة من
وجهة نظري هي القُدرة على تجربة أوسع نطاق من العواطف والمشاعر بطريقة صحية)، كما
قالت ريكوود: (السعادة هي الشّعور بالرضا في ظلّ غياب القلق أو الاضطراب أو تعكّر
المزاج). أمّا الإمام الغزاليّ، فيقول: (إنّ اللذة والسعادة عند بني آدم هي معرفة
الله عز وجل)، ويُتبع ذلك بقوله: (اعلم أنّ سعادة كلّ شيء ولذته وراحته تكون
بمقتضى طبعه، كل شيء خلق له، فلذة العين الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات
الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة، ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛
لأنّ القلب مخلوق لها).
السعادة
-إذن- هي شعور ممكن دائما؛ فهي لا تكمن في سعادة المترفين وذوي البطون المشبعة؛ بل
تكمن في بهجة الحياة حينما نحبّ، وحينما نبدع فنّا، وحينما نسعد بولادة حقيقة ما.
نحن نسعد بكلّ تغيير بهيج لما يحدث لنا. حيث أنه لا ينبغي أن نتأمّل الوجود وأن
ننعم بدفء أحضان مساحة الراحة والروتين؛ إنّما علينا الذهاب دوما لملاقاة الحدث
وتعلم الجديد. حدث ما؛ هو ذاك الذي يغيّر نظام العالم. وكي ننعم بالسعادة ويتسنّى
لنا عيشها واقعيّا فيجب القيام بأحد الأمرين: إمّا أن نتناسى كلّ ما يهدّد حياتنا ونتظاهر
بالتفاؤل، وهذا قد ينتج سعادة بتراء نتاج انشغال العقل بتلك الأكذوبة المفتعلة ولن
يستطيع التخلّص منها ونسيانها مهما حاول. وإمّا أن نزاوج بين الوعد والوعيد ونغلّب
الأوّل على الثاني بوعي تام وقناعة ثابتة لا يزحزحها شكّ، وهذا يتطلّب جهدا جهيدا
يمكّن من نحت كيان، "وإنّ كلّ كيان لجَهدٌ
وكسبٌ منحوت" بتعبير محمود المسعدي.
وبناء على ما تقدّم، فإنّ السعادة ليست
وهما أو خيالا، إنما تحقيقها رهين اختيارات الكائن البشري وطبيعة سلوكه ومبادئه وأفكاره
ونظرته للحياة. فالسعي إلى تحقيق السعادة مشروع حتّى في أحلك الظروف ولكنّ منهجية
السعي إليها وآليات تحقيقها وزمنها ومكانها كلّها شروط لابدّ من توفرها مجتمعة
لتمهيد السبيل وتعبيد الطريق الموصلة إليها دون عراقيل أو حواجز من شأنها أن تربك
السعي وتجهض المشروع. ولا أحد ينكر أنّ تحقيق السعادة المرْضيّة - إن لم أقل
المطلقة – صعب المنال، ولكن حتّى وإن لم نستطع أن نكون سعداء كما نريد فإننا
بالضرورة سنكون أقلّ شقاء.
الأستاذ: مختار
الماجري / تونس
الهوامش: