منجزات
الأفلاطونية (3)
بقلم:
جون فرنسوا ريفال Jean François REVEL
ترجمة: المترجم والباحث عبد المجيد يوسف/ تونس
نتساءل – بدون
محاولة التمييز بين ما يعود إلى أفلاطون وما يرجع إلى سقراط أو إلى الفكر الإغريقيّ
في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد - : ما هي منجزات الأفلاطونيّة التي لا تكتفي
بكونها ما فتئت محتفظة بحداثتها بل هي تشهد أو تستحقّ اهتماما وتطبيقا في عصرنا الرّاهن؟
يمكن إرجاع
هذه المنجزات إلى ثلاثة عناوين رئيسية:
أوّلا: فنّ
الحجاج أو طرق مجابهة الأفكار.
ثانيا: الإجابة
عن سؤال الموجد: كيف أعيش أو فيم تتمثل الحكمة؟ وما السعادة من وجهة نظر فرديّة علمانيّة
مستقلّة عن النّجاة المحتملة بواسطة العقيدة الدّينيّة؟
ثالثا: الاعتقاد
الرّاسخ في أنّ الفرد لن يعرف الحكمة السّعيدة إلاّ في مدينة ذات مؤسّسات، ممّا يقود
غلى التّأمّل في السّياسة وفي علاقتها بالأخلاق وبالحرّيات الفرديّة.
إنّ المحاورات
السّقراطيّة لمن أعظم الإبداعات الذّهنيّة للحضارة الغربيّة، لكنّنا نتناسى ذلك بشكل
مطرد. وفي الوقت الذي نمارس فيه عادة المحاورة نفهم الحوار على أنّه مونولوغات متوازية
(كلّ يخاطب ذاته) تتمطّط رتابتها الغبيّة بين الصّمّ وتثاؤب المعتاد اليوميّ.
وفي عرف سقراط
كلّ محاورة هي مجابهة لا مهادنة وإلاّ فلا مبرّر لوجودها، و"معلّم التّفكير"(9)
لا يفكر ولكنّه يُسائل. وفي عديد النّصوص لا يصوغ سقراط أطروحات شخصيّة لكنّه يدحض
أو على الأحرى يذهب بمحاوره إلى دحض آرائه الشّخصيّة فيحمله على تسليط الضّوء على هشاشة
وضعه وتناقضاته وعلى استخلاص من آرائه الشّخصيّة ما به يدحض هذه الآراء ذاتها، إنّها
طريقة "الإلينكوس" (التهكم).
هذه اللعبة
البارعة في الاستجوابات والإجابات لا بديل لها، ذلك أنّ المحاورة الحقيقة لا تتمثل
في تناظر رأيين اعتباطيين ولكن في إخضاع كلّ منهما إلى الاختبار على ضوء أسئلة الخصم.
إنّ هذه الطريقة تمرّن على الانخراط في الحياة الفكرية وتدرّب على التّحلي بالأخلاق
الحميدة وبالحكمة، ذلك أنّه، في عرف الإغريقيّ في المرحلة الموالية لسقراط، ستصبح الحكمة
محايثة للمعرفة، وعلى الخصوص معرفة الذات.
وسوف يكون الشّاعر
مونتاني Montaigne (10) العازف المنفرد الذي سوف يعزف بمهارة لا مثيل لها
هذه الأنشودة، أنشودة استبطان الذات المنفتحة على العالم. وبما أنّ لا انفصال لها عن
المعرفة فلا إمكان لها أن توجد من دون الفضيلة لا بمفهوم الطهارة المبتذل ولكن بمعنى
احترام العدل، وكلّ محاورة غورجياس مخصّصة لدحض الفكرة القائلة بأنّ السّعادة هي امتلاك
القوّة وأنّ العدالة هي قانون الأقوى. ويردّ سقراط على "كاليكلاس"(11) الذي
يدافع عن الفكرة القائلة بأنّ القانون هو مجرد مظهر للقوة بقولته الشّهيرة " أفضّل
أن أتلقّى الظلم على أن أكون ظالما".
بهذه الوسيلة
يقود التأمل في الحكمة المتعلّقة بالفرد إلى التفكير السّويّ في الحكومة الجيّدة المقابلة
للحكومة الجائرة الشرّيرة.
إنّ الإغريق
– في معرض التّصرّف في أحوال الإنسان – ابتدعوا العلوم السّياسيّة من ناحية، ووضعوا
لأوّل مرّة سيرورة الحياة خارج السّياق الدّينيّ دون نفي هذا السّياق، من ناحية أخرى.
كما برهنوا على أنّ المسألتين (12) لا يمكنهما الانفصال مطلقا وليس لإحداهما أن تنفي
الأخرى نفيا تامّا كما هو الشأن في الأنظمة الكليانية التي تصادر الحرّيّة الفرديّة،
وليس لإحداهما أيضا أن توجد في معزل عن الأخرى. وفي هذين الميدانين المتباينين المترابطين
في آن يكون حكم المدينة لنفسها – كما حُكمُ الأشخاص لسلوكهم – مسبوقا بمعرفة العدل
والحقّ.
إنّ السّياسة
تمثل امتدادا للأخلاق، وعليها أن ترتكز على المعرفة، ونحن نلاحظ بكثير من الاهتمام
أنّ الصّينيين قد سبقوا أفلاطون بقرن ونصف حيث أنّ كونفوشيوس(13) قد وضع ذات المبادئ
السّياسية، ولا شكّ أنّ نظريّة الطبيب الفيلسوف عدو كانط اللدود "برنارد دي مندفيل"
(14) القائلة بأنّ " رذائل الفرد تؤسّس الفضائل العامّة" تكون مثارا للسّخريّة
لو وُجدت في عصر سقراط، حيث أنّه – مثل أرسطوطاليس- يعتقد العكس: الفضائل الفرديّة
هي التي تؤسّس فضائل الجماهير وأنّ المعارف الدّقيقة هي التي تؤسّس الحكومة الصّالحة.
لقد ابتدع الإغريق
الدّيموقراطية لكنّهم في الآن نفسه كانوا شديدي الارتياب بها. لقد كانت في نظرهم أفضل
أنظمة الحكم لكنّها أيسر السّبل إلى الدّيماغوجية والفوضى والطغيان الأعمى للجماهير
وإلى ما ندعوه اليوم بالتّسيّب وغياب السّلطة. ففي اعتبار مثقفين إغريق يبدو الحكم
بإعدام سقراط سنة 399 ق م من طرف محكمة شعبيّة متكوّنة من خمسمائة مواطن ومواطن واحد
دليلا على أنّ الدّيمقراطية يمكن أن تغدو حمقاء ومجرمة، ولهذا نجد في كتاب الجمهوريّة
حلم أفلاطون الطوباوي بإخضاع المدينة للدّكتاتورية المستنيرة للفلاسفة دون غيرهم. وفي
هذه النّقطة بالذات يتمرّد أرسطوطاليس على معلمه حيث يؤكّد أنْ لا وجود لعدالة في غياب
الحرّيّة. لكنّ سقراط وأفلاطون ومفكرين إغريق آخرين يؤكّدون بدورهم على أنْ لا حرّيّة
بدون عدالة وعلى أنّ الدّيمقراطية يمكن أن تنتهك لا من طرف الحكّام الجبابرة فحسب ولكن
من طرف الشّعب أيضا.
......
الهوامش:
(9)
علامة التخصيص من وضع المؤلف.
(10)
مونتاني (ميشال إيكيم حي....) (1533/1592) شاعر فرنسي.
(11) Calliclès محاور ظهر في "غورجياس" معارضا لقانون المدينة ومفضلا أن يسود
قانون القوة.
(12)
المقصود ب"المسألتين" التصوّر الديني والتصوّر العلماني لسياسة المدينة.
(13)
كونفوشيوس: (551/479) ق م وهذه التسمية مأخوذة من التحريف اللاتيني للاسم الأصلي وهو
كونغ فو تسو ممّا يدلّ على مورد معرفتنا به. فيلسوف صيني معلم للحكمة يبدو أنّه أوّل
من وضع تصورا للإنسان الفاضل وللمجتمع المنسجم حيث يقع احترام كلّ فرد لموقعه ولمواقع
الآخرين ضمن تركيبة اجتماعية فئوية كما يبدو أنّ هناك صدى لأفكاره في كتابات ابن المقفع
خاصة الأدب الكبير والأدب الصغير ورسالة الصحابة وهو افتراض يحتاج للبرهنة.
(14) Bernard de
Mandeville (1670/1733) فيلسوف وشاعر
وطبيب هولندي استقر في بريطانيا له قصيد شهير(صدر في كتاب) بعنوان امثولة النحل
The fable of bees سنة 1705
ورقة
يصدرها الباحث والمترجم: عبد المجيد يوسف/ تونس