|
الأستاذ: مختار الماجري/ تونس |
البحث عن الذّات
حين تعامل الآخر بأخلاق حضاريّة
وتجد نفسك تُعاملُ بشكل غير منتظر من قِبل فئة تشتغل بفضاء يدّعي التأسيس للثقافة، تُدرك أنّ الأخلاق ليست
المذهب الذي يعلّمنا كيف نكون سعداء، بل هي المذهب الذي يعلّمنا كيف نكون جديرين
بالسّعادة. ويهيم فكرك باحثا عن مفاهيم كنت تظنّ أنها واضحة المعالم في تصوّرك
كالثقافة أو الأخلاق أو الشخصية، أو بالأحرى كيفيّة تحقيق الذّات داخل هذا الخضمّ
الذي يدفعك إلى الإحساس بالاغتراب، بالظلم، بالقهر، فتستفيق من وقع الصدمة لتُدرك
أنّ "الثقافة بداهة خاطئة، كلمة تبدو وكأنّها ثابتة حازمة والحال أنّها كلمة
فخّ خاوية منوّمة ملغّمة خائنة..." بتعبير إدغار موران. ولكن هل يمكن أن أعيش
بشخصيتي منفردا بعيدا عن الضجيج الكاذب والقيم المغلوطة التي تُخفي أكثر ممّا
تصرّح؟
إنّ الشخصيّة تكمن في الشخص ولكنّها
تتجاوزه لترتبط بالمواقف المتعدّدة والمؤثّرات الخارجيّة المتغيّرة، ولعلّ نيتشة
قد عبّر عن ذلك فلسفيّا في جملة عميقة ومقتضَبة "كُنْ انطلاقا ممّا أنت"
تعبيرا عن تزاوج الثابت والمتحوّل وجدل إرادة الإمكان لما هو كائن وتوحّد القيمة
بالطبع وملابسة القناع الظاهري للعمق الباطني، فالأنا المنفصلة والمستقلّة عن
المجتمع ليست إلاّ وهما وضلالا. إنّ مَنْ تحمله أنانيته على معاملة الآخر كشيء،
إنّما يفقد إنسانيته، والتاريخ مُفعمٌ بأمثلة عبيد الربح الغريبين عن الشخصية
الإنسانية. تُطرح في هذا السياق علاقة الفرد بالجماعة من حيث الخضوع والتفرّد،
إشكاليّة التغيير وإمكاناته، وفي ذلك غاية البحث الحضاريّ، والأبعد منها سعادة
الإنسان. وهل يحدث التغيير في بقاء المثقف وحيدًا أعزل، ووعيًا مفردًا؟
إنّ تحقيق الذّات عمليّة
مستمرّة و متقدّمة، و الإنسان مطالب في نفس الآن بأن يعلو على إرثه البيولوجي في
ردود الأفعال والاستجابات الغريزيّة وعلى إرثه الاجتماعي في الروتين والخضوع
القطيعي، أي كيف يكون الفرد حاضرا هو ذاته دوما في كلّ ما يفعله أو ما يجرّبه بما
يحمله في ذات الحين حضوره من غياب يهمس بضآلة الدور الذي يلعبه الاختيار الواعي و
التفكير الواقعي في تعيين الفعل الإنساني فإذا "لم يحدث سابقا للغوّاص في
أعماق النفس أن كشف نفسه للرّحالة و المغامرين" كما يقول نيتشة، فليفعل حتى
يجعل كلّ لحظة من الحياة البشريّة لا مجرّد تجربة عابرة و إنّما مناسبةً خطيرةً
إرضاءً لشهوة الوجود و حتّى تكون علاقة الشخصيّة بالشخص الإنساني علاقة الموطن
المستنبت فلا يتحوّل الأشخاص إلى ذوات يترصّدهم اليأس و الجنون.
في هذا السياق
السوسيوثقافي تسعفنا محاكاة خطاب أحد الجنرالات لجنوده: ليتصرّف كل واحد منكم كما
لو أنّ الحرب بكاملها تتوقّف عليه.. كما لو أنّ تغيير المجتمع يتوقّف على خيار
الفرد الحرّ وإرادته الواعية؛ على أن يكون كالحصاة ترمى في بركة ماء راكد فتحدث
دوائر تتّسع لتشمل صفحة الماء؛ وإن تلاشت، فهي بإمكانها أن تعكّر صفو هذا اليقين
على أقلّ تقدير.
إلاّ أنّ مهمّة كهذه لا يمكن أن تقوم بها إلاّ عقول حرّة لا تجزع إذا رأت من
الأفكار ما يخالف المألوف، بل إنّها تعمل على تحطيم كلّ الأصنام وإزاحة الأقنعة
لتتخلّص من هيمنةٍ لوعي تاريخي ضاجّ وكاذب، فللعقل الحرّ الحقّ بأن يخلق من
الأفكار الجديدة ما يستطيع، انطلاقا من عمليّة هدم كلّي وأساسي لكلّ ما شكّل عبئا
أثقل كاهل الإنسان تاريخيّا. لذا إذا كان لابدّ من "فلسفة المطرقة"
فكذلك لابدّ من مطرقة تهدم زيف القيم وتظهر بطلانها.
كثرٌ من يمتلكون الوعي بالحق والعدالة، ومن
لديهم رؤية للتغيير؛ إنّما من يمتلك شجاعة القول وإرادة الفعل قد يكونون قلّة.
لتبقى الإجابة، في ختام القول، معلّقة عن سؤال سعادة الفرد خارج قطيعه؛ في حين أنّ
ألبير كامو يتصوّر سيزيف سعيدًا في شقائه، وفي وعيه بهذا الشقاء الأبدي. لكنّ الوعي بالشقاء يزيده شقاءً تبعا لقول كارل ماركس
“أن نجعل القمع أشدّ قمعا بأن نظيف إليه وعي القمع"، وحالنا كالمسافر في دروب
غامضة يبحث عن معنى لحياته، حالة وصفها نزار قبّاني في قصيدة " المسافر"
قائلا في بعض أجزائها:
"وخبزنا مبلّل بالخوف والدموع
إذا تظلمنا إلى حامى الحمى قيل لنا: ممنـــوع
وإذا تضرعنا إلى ربّ السما قيل لنا: ممنوع
وإن هتفنا.. يا رسول الله كن فى عوننا
يعطوننا تأشيرة من غير ما رجوع
وإن طلبنا قلماً لنكتب القصيدة الأخيرة
أو نكتب الوصيّة الأخيرة قبيل أن نموت شنقاً
غيّروا الموضوع"
مختار الماجري/ تونس