وضع
الأفلاطونيّة اليوم (1)
بقلم:
جون فرنسوا ريفال Jean François REVEL
ترجمة: المترجم والباحث عبد المجيد يوسف/ تونس
ما هي مساهمات
الأفلاطونيّة التي لا تكتفي بكونها اكتسبت حداثة جديدة بل هي تشهد في عصرنا الحالي
ممارسة واهتماما متزايدين . فماذا يوجد في آثار أفلاطون الّذي يفصلنا عنه حوالي ألفين
وخمسمائة سنة صالحا لنا اليوم؟
بقي لنا من
آثار أفلاطون لذّة القراءة أوّلا، فهو الكاتب العبقريّ الّذي لا يحتاج لا إلى إثبات
وحتّى إلى فهم لتستلذ قراءته.
إنّ صفة الملهم
التي رافقته عبر العصور بهمسة إعجاب تنطبق قبل كلّ شيء على أسلوبه وعلى الطلاوة البارزة
لمعجزته الأدبيّة التي لا تكاد تضاهَى إذ يتناول مواضيع في غاية التعقيد، كما أنّ الإعجاب
ينثال عليه في مواضيعه الأخرى، ففي محاوراته الفلسفية نجد ما يتجاوز الفلسفة.
هذه المحاورات
هو الذي ابتدعها ورفعها مباشرة على القمّة بتلك المهارة الفكهة والتّلقائيّة في التبذّخ
ممّا لا يضاهيه فيه أحد، فهو فنّان مثلما – أو ربما اكثر- ممّا هو مفكر، فقد توصّل
بمهارة خفية إلى جعل قارئه يندمج كليّا في مناقشاته العالمة المشوقة باستثناء ثلاث
أو أربع تتّسم بالجفاف.
فكلّ منّا اليوم
له أن يشعر بسحر "غورجياس"(1) أو "فادر"(2) كما شعر به في كل الأحقاب
معاصرو لوران دي ميديسيس(2') أو "سيسرون"(3) أو أفلاطون نفسه حيث تتناغم
الكياسة واللطف والفكاهة ورفض كلّ تحذلق أو استعلاء معرفيّ في أشد مجالات الفكر تعقيدا
مع التّوالد المنساب أو السّاخر للأفكار عن الحياة الأثينيّة والمواقف الهزلية والألاعيب
المشحونة لطفا.
ذات يوم كان
سقراط مستلقيا عند جدول صغير يتنسّم ويتناقش حول قضيّة الجمال في جين السّفسطائي اللامع
بروتاغوراس(4) متوتّرا يذهب ويجيء منذ الصّباح الباكر في بهو منزل الوجيه الثريّ
"كالياس" مضيّفه في أثينا في الوقت الذي كان فيه تلامذته يبادرون إليه شرهين
إلى كلماته متزاحمين حوله لاستيعاب الشّرح لمقولته الشّهيرة " الانسان هو مقياس
كلّ الأشياء، ما وُجد منها وما عُدم" عندما ظهر "ألسبياد" (5) فجأة
وهو نصف سكران تحيط به طائفة من المحتفلين الصّاخبين، كان ذلك إبّان المأدبة حيث كان
المدعوون يتناقشون حول حقيقة الحب، فدُعيَ "ألسيبياد" للجلوس وتناقص حرجُه
بفضل أسئلة سقراط، فعنّ له أن يصوغ أفخم صورة وأطرف امتداح يمكن أن يُسبغ على
"المعلّم"... هذه الصّولات الجدليّة التي لا تضاهى من حيث الكياسة كما لو
كانت ندًى فكريّا ستبقى حسب عبارة المؤرخ "ثوسديد"(6) كنزا أبديّا.
هذا عن مسرّات
الأفلاطونية، أمّا عن الجانب الجادّ أو النّظرية فماذا بقي من آثار أفلاطون مفيدا،
فكريّا وأخلاقيّا لعالم اليوم؟
(يتبع)
الهوامش الخاصة بهذه الورقة
الهوامش
لا نجد في المقالة
الأصل إحالات رقمية تشير إلى مواقع محددة من المصادر المذكورة لاحقا فنوردها كما وردت
ونردفها بإحالات مرقمة خاصة بالترجمة العربية.
- المعرفة الإغريقية: معجم نقدي بلإشرف جاك برونشويغ
وجفري لويد. فلاماريون 1966
- عن كونفوشيوس ينظر "مختارات من كونفوشيوس"
(بالأنجليزية) ترجمة سيمون ليس وتعليقه نيويرك/ لندن نشر نورطون 1997
- مسائل الديمقراطية الإغريقية / جاكلين دي روميلي.
لارماطون وآغورا 1975
- تاريخ الفكر، فلسفات وفلاسفة ج1 / لوسيان جارفانيون
كتاب الجيب قسم المراجع 1989
- أفلاطون والأكاديمية / جون برون سلسلة "ماذا
أعرف" 1996
- في سبيل معرفة أفلاطون/ سيمون مانون. بورداس
1993
- تاريخ الفلسفة الغربية / جون فرانسوا ريفل (مؤلف المقال). نيل 1995
2/ إحالات الترجمة العربية
(1) - القرجياس: إحدى محاورات أفلاطون جادل بها
السفسطائي"غورجياس" الذي كان مدرّسا للبلاغة بأثينا. وفي هذه المحاورة نقض
أفلاطون بلاغة السفسطائيين وعارضها بخطاب الحقيقة الدافع بالبشرية إلى الخير والعدل،
كما دحض فيها قانون "كاليكلاس" الذي دعا قبل نيتشه إلى القانون الطبيعي القاضي
بالبقاء للأفضل والأقوى، فدعا إلى الدفاع عن المستضعفين.
(2) فادر Phèdre في الميثولوجيا الإغريقية
هي ابنة ملك جزيرة كورنت مينوس استغل أسطورتها علماء النفس في تعيين الانحراف المتمثل
في كلف المرأة المتزوجة بربيبها ويدعى أيضا مركب زليخة. وقد خصص افلاطون اسمها بمحاورة
موضوعها فن الخطابة حيث تناول مواضيع المآدب ومناقشاتها حول مسائل الحبّ والجمال وغاية
هذه المحاورة دجض مغالطات السفسطائيين.
(2') لورنتسو
دي ميديتشي(1449/1492) أحد أمراء فلورنسا كان شاعرا موهوبا فأهمل الاقتصاد والسياسة
واهتمّ بالشعر. ترك قصائد شهيرة تغنى فيها بالنور والجمال والحبّ ، متأثرا في ذلك بمبادئ
أفلوطين
(3)
سيسيرون: سياسي وخطيب لاتيني(43/106)م
(4)
بروتاغوراس: سفسطائي إغريقي (485/411(ق م اشتهر بنظريته المذكورة في المقال وقد خصص
له أفلاطون محاورة باسمه عارض فيها أنّ الإنسان هو مقياس كلّ شيء.
(5)
ألسيبياد: (بالإغريقية: ألسيبياديس): (450/404) ق م قائد عسكري ورجل سياسي أثيني كان
من تلامذة سقراط اللامعين.
(6) ثوسيديد: (حوالي 460/ 395) ق م مؤرخ إغريقي كان تلميذا للسفسطائي غورجياس.
ورقة يصدرها الباحث والمترجم: عبد المجيد يوسف/ تونس