عبد المجيد يوسف/ تونس |
إصلاح المنطق لابن السّكّيت
ورقة من إعداد الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس
من النّاس من لا يعرف كتاب "إصلاح المنطق" لابن
السّكّيت لأنّه قليل التّداول في المكتبات التّونسيّة وقد مضى على طبعته الثالثة خمسون
سنة. والطبعة التي لدينا هي الطبعة الأفضل إذ حقّقها أحمد محمد شاكر وعبد السّلام محمد
هارون تحقيقا علميّا صحيحا معتمدا على مقارنة المخطوطات الباقية وهي أربعة،
ونشرتها دار المعارف بمصر بالتحقيق الذي أشرنا إليه، متضمّنة مقدّمات وشروحا
وفهارس ضافية وهي النّشرة الكاملة الأولى وقد نُشر قبلها جزءٌ من "تهذيب
إصلاح المنطق" بصنعة أبي زكريا الخطيب التَّبريزي، شارح المعلقات (421 - 502 هـ).
والمؤلّف هو يعقوب بن إسحاق بن السّكِّيت الأهوازي، من
أيمّة اللغة في القرن الثالث الهجريّ أصله من خوزستان، تعلّم ببغداد ثم اتّصل
بالمتوكّل العبّاسي، فعهد إليه بتأديب أولاده ثم قتله لتشيّعه القويّ سنة 244 للهجرة،
وقد فصّل الإخباريّون ظروف قتله وفيها اختلاف في الرّوايات.
ولعلّ العنوان الذي اختاره المؤلف لكتابه هو الذي جعل تداوله محدودا أو على الأقلّ لم يساعد على التّعريف به، إذ يذهب الظنّ بمن يقع بيده أنّه كتاب في علم المنطق الباحث في قوانين التّفكير بتنظيم البراهين، المميّز للصّواب من الخطإ، في حين أنّ العنوان لا يعدو أن يكون مصدرا ميميّا من "نطق" أيْ "تلفظ". والاستعمال شائع معروف في القرآن: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ" ﴿النمل﴾16
كما استعمل العبارةَ فريد الدّين العطار عنوانا لمنظومته الرمزية البلغة 4500
بيت موضوعها بحث الطيور عن الطائر الوهمي المعروف بسيمورغ.
وقد أوقع العنوانُ في الخطإ دارسا كبيرا ومحقّقا فذّا هو جرجي زيدان إذ نقل
عنه المحقّقان قوله في "تاريخ آداب اللغة العربيّة" أثناء التّرجمة لابن
السّكّيت إنّه "ألّف في علم المنطق".
ومن هنا تظهر غاية التّأليف وهي توجُّهُ الكِتاب نحو
إصلاح ما في كلام العامّة من لحن ومخالفة لقواعد الاشتقاق خصوصا وعدم التّمييز بين
مختلف الوظائف التي تؤدّيها الأصوات في الإعراب عن الدلالة. مثلُ هذا العمل منخرط،
من ناحية أنثروبولوجية في مقاومة التّأثير البالغ لغير العرب في لغة التّواصل
اليوميّ. فإذا علمنا أنّ ابن السّكّيت من أصل غير عربيّ بَانَ لنا درجة حماسه لهذه
اللغة وحضارتها وللجنس العربيّ، ولعلّ ذلك جاء من جهة تشيّعه. ومن وجهة نظر لسانيّة
يمكن القول إنّ الكِتاب يحمل نظرة آنية (سنكرونية) للغة العربيّة في مرحلة زمنيّة
معيّنة من تاريخها هي زمن التّأليف دون النّظر إلى ما قبل ولا إلى المآل اللاحق.
ولعلّ العنوان ليس هو وحده المسؤول عن ندرة تداوله أو
الرّجوع إليه، بل ربّما أنّ سبب ذلك تشيّع صاحبه الذي دفع بالمتوكّل العبّاسي إلى
قتله، ولهذا أيضا يحظَى مؤلفنا بإجلال كبير في أدبيّات الشّيعة... وفي ذات السّياق
فإنّ كُتبا قيّمة للشّيعة الإسماعيليّة "كالمجالس والمُسايرات" للقاضي
النّعمان (توفي سنة 363للهجرة) (تحقيق الحبيب الفقي وإبراهيم شبّوح ومحمد اليعلاوي1978)
أو "أساس التّأويل" لذات المؤلف (تحقيق عارف تامر) قليلة التّداول في
بيئة سُنّيّة، مثلما أنّ شعراء الخوارج من قبيل قَطَريّ بن الفجاءة وصالح بن عبد
القدّوس والطرمّاح بن حكيم... قلّ من يعرفهم من غير المتخصّصّين.
وكتاب ابن السّكّيت يحتار المرء في تصنيفه بين المُعجميّة
والفيلولوجيا. جمع فيه الألفاظ المتّفقة في الوزن الواحد المختلفة في المعنى، والمتفقة
في الوزن المتفقة في المعنى، وما فيه لغتان أو أكثر حسب المتداوَل في القبائل
العربية، فقال في غضون كتابه: " قال أبو عبيدة: تميم من أهل نجد يقولون "نِهْي"
للغدير وغيرهم يقول "نَهي"، ويقال "السَّلَم" للصُّلح ويقال "السِّلم"
(انتهى النقل عنه). وخصّص بابا لما يُعلّ وما يسلَم من العلّة، وبابا لما يُهمز
وما لا يُهمز، وما تلحن فيه العامّة وخاصّة من غير العرب.
ففي باب ما يُهمز ولا يهمز ذكر: "أوزعه يُوزعه
إيزاعا إذا أغراه وقد أوزعه إذا ألهمه. قال الله جلّ ثناؤه﴿رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ...﴾ " (النمل 19) أيْ ألهمْني.
والمهمّ أنّه توخّى وصف اللغة في واقعها التّداولي فيما نَصِفُهُ اليوم
باللسانيات الوصفيّة.
وبما أنّ مؤلفنا
معجميّ فضلا عن كونه فقيها لغويّا فقد أثبت للمفردات دلالة ودعّمها بالشّواهد من
القرآن ومن الحديث ومن الشّعر والأمثال. وهذه الشّواهد إنّما تعبّر عن التزامه
بالواقع اللغويّ العربيّ الصّافي من الدّخيل ومن اللّحن مصدرا لتعريفاته.
أمّا طريقة ترتيب مادّته على أوزان الكلمات على
النّحو الذي بيّنّا فلم يكن غريبا وقتئذ لهيمنة الدّرس اللغويّ على غيره من
المعارف المتّصلة باللغة، فقد سبقه الخليل بن أحمد إلى ترتيب مادة
"العين" بحسب مقياس صوتيّ، مبتدئا بصوت أقصى حلقيّ هو العين Pharyngal (وبه سُمّي
الكتاب) منتهيا بحرف شفتاني Bilabial (حسب معجم د. رشاد الحمزاوي اللساني). وهو الميم.
كما إنّه – من النّاحية التوثيقية- دالّ على الخطوات الأولى للعرب في علم المعجميّة
والبحث عن معايير لترتيب مادّة المعجم وإن كان أبو البقاء العُكبري (توفي سنة 616
للهجرة) قد رتّبه على حروف المعجم وسمّاه (المشوف المُعْلم في ترتيب الإصلاح على
حروف المعجم). (طبع بدمشق سنة 1983). لكنّنا لم نطلع عليه ولم نتحقّق في طبيعة النّظام
المتّبع في هذا التّرتيب.
ونقول على سبيل الخاتمة إن إصلاح المنطق يكتسي أهمية من جهة أنّه:
*في باب المعجميّة يمثل تطوّرا بالقياس إلى المعاجم السّابقة له حيث مثّل
مرحلة مهمّة من البحث المعجميّ الهادف إلى إرساء أسس للمعجم العربيّ واعتماد لطريقة
صرفيّة لترتيب مادّته غير الطريقة الصّوتية المتوخّاة في كتاب العين.
*ومن وجهة نظر لسانيّة يمثّل الكتاب مظهرا طريفا في البحث اللغوي يتمثل في
اعتماد منهج وصفيّ للغة كما تُتداول في مرحلة ما من تاريخها.
ورقة بقلم الباحث: عبد
المجيد يوسف/ تونس