من مظاهر التناصّ الذاتي في
مدوّنة محمود المسعدي
إنّنا لا نضيف أمرا بكرا حين نزعم أنّ هناك
علاقةَ قرابة بين نصوص محمود المسعدي جميعها، فهي إمّا ترتبط بعضها ببعض بعلاقة
توالد وانتشار وإمّا تتناول جوانب محدّدة من مفهوم عامّ تتضافر فيما بينها على
إخراجه على صورة من الاكتمال، ممّا يؤسّس نسقا أو بناءً أو صرحا، كلّ أثر من
مدوّنة المؤلّف يمثّل مرحلة منه. وسوف نهتمّ في هذه المقال بنصّين للمسعدي هما
المسافر ورواية السّد، ذلك إنّ القراءة العابرة للأثرين كفيلة برصد هذا التّقاطع،
لكنّ ذلك لن يمنعنا من الإشارة إلى آثار أخرى من مدوّنته عند الاقتضاء، وسنهتم
بمظاهر هذا العلاقة كيف أجراها المؤلف سعيا إلى استكهناه بعض آليات الكتابة لديه.
من النّاحية التّاريخية، وضع نصّ المسافر
بالفرنسية أوّلا ونُشر بمجلة "التفاهم "روح الشرق" بفيشي بفرنسا في
غرة أكتوبر سنة 1942. ثم أعاد المؤلف وضعه بالعربيّة ونشره بمجلة النّدوة سنة 1954
أمّا السّدّ فقد نشرت لأوّل مرة سنة 1955 وكانت قد وضعت بين سنتي 1939 وسنة 1940
وهذا الاختلاف في الزمن يمثل في الظاهر وضعا مناسبا لنشوء علاقة ما بين النّصّين،
لكنّه لن يكون حاسما أو معتمَدا بشكل أساسيّ في الجزم بوجود هذه العلاقة، وربّما
كان خاليا من التأثير في هذا الأمر.
مظاهر التعالق بين المسافر والسد:
بقطع النظر عن الحيثيّة التاريخيّة الّتي قد
تضع أمامنا إشكالا تحليليّا وتبطل افتراضات مريحة للإقامة وشائج القرابة بين النصّين
مما سيأتي بيانه، فإنّ القراءة تثبت هذه الصّلات حيث نستقصي تعالقا بين العناصر
التالية:
1/ تعالق عناصر القصّ:
يترابط النّصّان في مجال القصّ بواسطة استبدال
متشابه العناصر بل متطابقها. فمسرح الحكاية في المسافر "جبل جلاميد من الصّخر
كقطع العذاب يتراكم ثمّ يقوم فيها فجأة كالجدار جنبَ الجبل عاريا كجنبٍ
مقروح"... وفي السّدّ "هو منحدر جبل أخشب حزيز نباته كالإبر وأرضه ظمأى
وغباره كثير". ومؤدّى هذا الاستبدال صورة تتّفق في النّصّين على طبيعة أرض
وحشيّة لا أثر للحضارة فيها، بل هي غير مسخّرة للوجود الإنساني... هذا الرّسم
لمسرح الأحداث يمثل مجالا لتعالق الاشتغال التّدلالي في النّصّين كما سيأتي بيانه.
والقوس المشيدُ في قرية مكثر(المسافر) هو عمارة
السّدّ. ونشير إلى رمزيّة القوس حيث يكتسي في الميثولوجيا والحضارات القديمة قيمة
رمزية سواء أكان معدّا لإطلاق السهام (الإلهة ارتميس أو ديانا، الإلهة الصّيادة)
أو كان قوس قزح حيث يتحلل طيف الضوء رامزا إلى تمثل آلهة السّماء وظهورها الطيفيّ
للبشر. وفي الديانة البراهمانية يظهر براهما باني الكون بأربعة أذرع يحمل في
إحداها قوسا، وفي القرآن طلب فرعون أن يُنفخ له في الطين ليبنى له قوسا (صرحا) لعلّه
يطلع إلى إله موسى. (القصص 38) وعلى العموم فإن القوس أيّا كان توظيفه الأرضيّ
يحمل صفة مشتركة هي الانحناء المختزلة لقبّة الكون وشكل السماوات وهو معراج
إليها... ممّا هو مقصود في نصّيْ المسافر والسّدّ.
من القوس تراءى للمسافر عروج إلى السّماء. بيد
أنّ التّناصّ الذّاتي لا يعني أن يتكرّر النّصّ أو بعض أدواته على ذات الهيأة
وبذات الأبعاد والمقاييس وبذات التّوظيف. فإن كان القوس معراجا للسّماء في المسافر
لأنّه رمز الشّرق فإنّ عمارة السّدّ هي فعل الإنسان في الطّبيعة ورمز نباته منها
وتجذّره فيها وهو ما جسّمه مآل العمارتين في النّصين ينتهيان نهاية متناقضة.
فالعمارة في السّدّ إلى الانهيار والقوسُ في المسافر إلى العروج والتّرامي إلى
أبعاد الفضاء. والمهمّ في الأمر هو علاقة الشّخص بالبناء، فإن كان المسافر قد وجد
قوسا بناه الرّومان وتركوه إذ رحلوا زمانا ومكانا فإنّ قوس غيلان مشروع منظور...
واختلف التوظيف أيضا، فحيث كان قوس المسافر معراجا إلى السّماء وإن وهْمًا فإنّ قوس
غيلان نــُدب إلى إمساك الماء، وبذلك تتعارض الوظيفتان ويتحقّق انزياح المُتناص عن
مُناصّه في إطار حركة الكتابة تردّدا بين النّشأة الأولى وانبعاثه في إهاب جديد.
ومن عناصر القص المتكررةِ العينُ... لا يكاد
المعجم يختلف هنا وهناك، فهي في المسافر: "... جانب الجبل... تنشج في أسفله
عين ماء باكية تسيل إلى الصّخر فتأكل من أصل الجبل ثم تقع إلى الغور تحته فتتشتت
وتضيع... وهي في السدّ "عين بديعة
تنفجر عن جنب الجبل... تركوها منذ آلاف السنين تذهب فتغور مياهها وحياتها في
الهاوية بمنقطع الوادي"
إنّ التصوير المشهدي المتطابقَ المستعملَ لمعجم
متجانس لمؤكدٌ على صلة القرابة بين النّصّين وجاعلٌ أحدَهما أصلا والآخر تنويعا
عليه، وتنضاف هذه الجزئية إلى غيرها لتؤكّد على فكرة النّصّ الجامع، ليس بالمعنى
الذي أراده جينيت ولكن بمعنى مخصوص أردناه له وهو وجود موادّ قصصيّة محدودة العدد
تتشكل بها أبنية مختلفة... مواد صالحة لإعادة الاستعمال في خدمة مفهوم موحّد هو
فلسفة الكاتب حول منزلة الإنسان في الكون والتقاء بالفلسفات وبالنّصوص الدّينية
التي تجعل من الماء أصل الحياة. والجهدُ الإنسانيّ الباني للحضارة إنّما يتمركز
حول الماء. ويتجلّى عنصر العين الجارية أيضا في مولد النسيان ولكن بصفة أخرى وفي
إهاب غير الذي كانت عليه في المسافر وفي السّدّ: إنّها عين سلهوى، عليها قيّمٌ هو
رنجهاد، قد اتخذتْ لها إسما وجعل لها المؤلف توظيفا هو مغالبة الموت وإحياء
الموتى. في حين كانت العين نكرة تغور باطلا في الوهد في النّصّين السّابقين. وحركة
الماء كانت هناك نزولا وتشتّتا بمنقطع الوادي أمّا عين سلهوى فإنّ ماءها يعرج
بخارا لا تردّه عن وجهته ريحٌ... (يتبع)
ورقة أدبيّة من إعداد الباحث:
عبد المجيد يوسف/ تونس
Bas du formulaire