قصيدة
النّثر وحركة الكوجيتو، ورقة أدبيّة يصدرها الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس
هيمن الفكر
على الحياة في أوروبا حتى قبل القرن العشرين (منذ القرن الثامن عشر) وصارت حتى الرّياضيات
والفيزياء في حالتهما التّجريديّة مرفوضتين باعتبارهما عِلما ماقبليّا
(أشير هنا إلى حلقة فيينا صاحبة الوضعيّة الجديدة في بداية القرن العشرين).
حيويّة الفكر الغربي حينئذ جعلته يراجع مفاهيمه
بصفة منتظمة. فبعد مراجعة الميتافيزيا ورفض مقولاتها واعتبارها لا تعني شيئا يطاله
المنطق لأنّها متكوّنة من عناصر غير حسّية صارت العقلانيّة المُفرطة هي الأخرى موضوع
مراجعة من طرف نيتشه أوّلا ثمّ من طرف فلاسفة ما بعد الحداثة لوثوقيتها بالعقل الإنسانيّ
وسعيها إلى تحصيل حقيقة ثابتة.
حركة
الفكر في ظلّ هيمنة اللوغوس:
-من الذّات إلى العالم:
هيمنة العقل
على ذات الإنسان ومركزية هذه الذّات تتجلى بوضوح في الكوجيتو الدّيكارتي "أنا
أفكر إذن أنا موجود" فالتّمظهر الأوّل للوجود هو حركة العقل بالتّفكير... أنا
أفكر متأمّلا ذاتي وكاشفا لإمكاناتها لأكتشف أنّي موجود في العالم... فحركة اللوقوس
متّجهة من الذّات إلى العالم والخطاب الشّعريّ الذي نحن بصدده معبّر بوضوح عن هذه الحركة.
انظر مثلا هذا
المقطع الصّغير من "التّراب الذي فوقه سماء" للشّاعر التّونسي شمس الدّين
العوني:
ما
علّتك الفادحة؟
أراك
الآن تخرج من عينيك لترى اللّاشيء...
ما
علتّك الفادحة إذن؟
سوادٌ
يحرسه سواد
والفراغ
أثاثه فراغ.
فحركة الفكر
جليّة، منطلقة من الذّات المتمثّلة معجميّا في ضمير الخطاب (ويمكن أن يكون للتّكلم
أو الغياب لا فرق)، وفكريّا في الاستفهام عن العلّة... ممّا هو داخل في صلب العمل التّأمّليّ
spéculation/
، والعلّة لها في المعاجم معنيان: المرض، وحتى هذا المعنى يُعيده التّهانوي
إلى المعنى الذي سنذكره عن حكماء الإغريق، والثّاني عّلة الشّيء أيْ ما يتوقّف عليه
وجوده ويكون خارجا عنه ومؤثّرا فيه.
ووظيفة العقل
في الشّاهد هي الكشف عن الوجود واستكناهه وفهمه، وهو الوظيفة الأساسيّة للفلسفة في
مداها الكلاسيكي: إدراك وضعيّة الإنسان في الكون...
بيد أنّ المنحى
الشّعريّ للخطاب يحمّله بالطّابع المأساويّ كما هو الشّأن في بدايات عمل التّفلسف حيث
كانت التّراجيديا هي الفعل النّبيل للعقل في مجابهة القوى الغيبيّة وحيث يجانِبُ الشّعرُ
الفلسفة دون الانفصال عنها... فتصاب حركة العقل بالعَمَهِ Cécité ولا تصيب الإدراكَ المنشود
وهو ما يولّد النفَس المأساويّ.
والمجال لا
يسمح لنا باستعراض مزيد من الشّواهد وتحليلها. وما أردناه هو بيان نموذج من قصيدة النّثر
المنتسبة في أبعادها الأونطولوجية إلى نموذج التّفكير الدّيكارتي: الانطلاق من الذّات
العاقلة المتمركزة حول اللوغوس باتّجاه العالم لاستكشافه وإقرار وجودها فيه وتحديد
كيفية هذا الوجود وصنعه. هذا النّمط من الكتابة أدعوه "قصيدة النّثر الكلاسيكيّة"
رغم أنّها تاريخيّا تأتي في سياق تيّار الحداثة.
(في الورقة
القادمة: تحوّل حركة اللوقوس من العالم إلى الذّات).
ورقة
من إعداد الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس