الاثنين، 13 سبتمبر 2021

نوّة: المسافة بين الشخصية والعنوان، مراد الشابي/ تونس

 

نوّة: المسافة بين الشخصية والعنوان

بقلم: مراد الشابي/ تونس

 

استوقفتني "نوة" وهي تعلن حضورها على صفحة غلاف الرواية بكل قوة وثقة واعتداد. لم أكن أعرفها فلم نكن قد التقينا من قبل ولكن هاهي وحيدة المي تعلنها عنوانا لروايتها. كيف تبوّأت هذه المنزلة وصارت عنوانا وهي لا تحمل تاريخا وعبرة شأن شخصيات قصص الأنبياء في القرءان أو أبطال الروايات التاريخية (جرجي زيدان...)؟ فهل تريد "نوة" التأسيس لمرجعيّتها من داخل النص على غرار "مدام بوفاري"؟

"نوّة". يطالعنا الاسم على صفحة الغلاف معلنا أنه العنوان، عنوان الرواية وعنوان الخصب في المطر وفي الأنثى فهو يحيل على كليهما وعنوان مغامرة في القصّ راهنت على الشخصية لتجعلها مناط السرد ومبعث أسئلة تتناسل في مسارب قراءةٍ تقتفي أثر "نوة" وهي تعرج إلى النهاية وعينها على البدايات تسترجع طفولة مثقلة بالمعاناة وتنوء بماض أليم رسم ملامح حاضرها أو بعضا منها.

أردت أن أسأل الكاتبة وحيدة المي عن هذه المسافة التي يقطعها الاسم ليكون شخصية وتقطعها الشخصية لتكون بطلا بعد أن يؤثثها السارد بأعمال وصفات وأقوال. كانت غارقة بين الجرائد تراجع مقالها قبل أن تنزّله في جريدة "الأنوار" التونسية. سألتها عن "نوة" فأجابتني دون أن تحيد ببصرها عن شاشة الحاسوب: "التقينا ذات رواية، ترافقنا على امتداد 138 صفحة ثم افترقنا"، رفعت بصرها نحوي معتذرة وهي تغادر مكتبها: "عفوا عليّ أن ألتحق بالمطبعة... غدا يصدر العدد الجديد من الجريدة ، يجب أن أكون هناك"

أردت أن أسألها هل كانت تعرف "نوة" من قبل؟ هل التقتها ذات تحقيق صحفي؟... لكن يبدو أنني لن أظفر بجواب يروي غلتي، لذلك عدت إلى الرواية لألاحق "نوة"، هناك حيث الأماكن التي زارتها والشخوص الذين التقتهم والأعمال التي اقترفتها، هناك فقط يمكن أن أجد تفسيرا لهذه المنزلة التي احتلتها حتى صارت عنوانا يستلقي أمام بصري بطريقة تثير فضولي.

في الريف تظهر "نوة" طفلة فقيرة تعاني قسوة الحياة وقسوة أبيها وقسوة المعلّمة ثم نراها في المدينة حيث التقت بنوار الذي أحبته والتقت برجال آخرين لم تحبّهم وكان آخرهم "الغريب" الذي قضت معه أياما في بيته قبل أن تقتله بطريقة فظيعة ثم تعود إلى الريف حيث أخواتها العوانس وأمها شامة التي تحترق وهي تتدفأ  وتحترق معها نوة وهي تحاول إنقاذها. تنتهي المرحلة الأولى بقتل الأب الذي يفضي إلى طور ثان ينتهي بدوره بقتل الغريب وتنتهي الرواية بموت نوة، موتا طقوسيا وهي "تحتضن لمسات أمّها الناعمة" (ص 138)، موتا فيه اكتواء بلظى الحب انتقاما لأمومة مجروحة وأنوثة مغتصبة، في اتحاد بين الأم وابنتها.

تطالعنا نوة في بداية الرواية تلميذة صغيرة أنهكها الفقر والبرد ولكنها تفرح كسائر التلاميذ لأن المعلمة "عقيلة" تأخّرت ذلك اليوم وقد لا تأتي إلى المدرسة، ولكن عقيلة تأتي أخيرا لتبث الرعب في صفوف التلاميذ الصغار الخائفين وتبدأ حصتها بقولها: "لنبدأ" (ص 7) لا يفهم التلاميذ ما تعنيه المعلمة "وتسلل صوت نوة من الحنجرة الخائفة مرتعشا: نبدأ ... ماذا سيدتي؟" (ص8) فتقول المعلّمة غاضبة: "انظروا إنها تسألني ماذا نبدأ؟ هل يعقل لهذه الفاجر أن تتجرأ على سؤالي... انظروا أليست مشروعا فاجرا" (ص 9) ثم نرى عقيلة وهي تخلع ثيابها ثم تسقط عارية في ساحة المدرسة ويسحبها المدير ومن معه الى المكتب "ليظل ذلك اليوم في ذاكرة نوة فتيلا لم يتآكل في ذاكرتها" (ص 10)

 نوة هي الطفلة البريئة ترتاد المدرسة فإذا المعلمة تكيل لها الشتائم وتصدر عليها حكما قاسيا يخرجها من براءة الأطفال ويزجّ بها في عالم الرذيلة، لم تر فيها حلما جميلا وبشرى خير بل رأت فيها بذرة شر وفساد كأنها أصدرت حكمها وسطرت مستقبلها، سدت أمامها الأفق وحرمتها لذة تخيّل مستقبل مشرق. الواقع أليم والمدرسة كانت فضاء للعلم والمعرفة والحلم وثلاثتها منفذ للخروج من الواقع الرديء ولكن المعلمة سدت ذلك الأفق بنبوءتها وبحاضرها لأنها لم تكن تمثّل نموذجا قد تصبو إليه الطفلة.

فالمعلمة لم تر المعرفة ولم تقدسها، والمعرفة لم تحررها من الجسد،  لذلك تعرت، فضحها الجسد الذي كانت أسيرته، لم تكن معلمة بقدر ما كانت عانسا، والمعرفة التي تحملها لم تكن سلاحا. حملت هموم ذات أنهكها الجسد المحروم ولم تستطع أن تكتفي بذاتها وتنهض كيانا مستقلا شامخا يسمو به العلم والمعرفة، وجودها في ذلك الإطار وفي تلك البيئة الذكورية كان خطأ لأن مثلها عاجز عن تغيير ذلك الواقع لذلك جُنّت وتعرّت، كانت المعلمة عاجزة عن تحرير تلك الأرواح البريئة من قبضة المجتمع الذكوري القاسية. كان اسمها عقيلة ولكنها كانت فاقدة للعقل بل كانت كناية عن القيد وانتفاء الحرية.

وتطالعنا نوة طفلة صغيرة في البيت مع اخواتها وأمها شامة وأب أمعن في تعذيب زوجته وبناته حتى رمته نوة بحجر في عينه انتهى بموته بعد مدة أعور و"اخيرا رقد الأعور تحت اللحد" (ص 20).

نظر الأب إلى الجسد بعينين زائغتين حتى أنه لم ير في المرأة إلا الجسد، لذلك حدّت من نظره فطمست احدى عينيه لعله يرتدّ وينظر إلى عاهته، إلى نفسه، ولكنّه واصل غيّه ولم يشغله ذلك عن فحولته الواهمة فكان مآله أن تعفّنت العين التي لم يعالجها، بقي بعين واحدة يرى مأساته يوما بعد يوم ويتمعّن في عذاباته. 

تحركت البطلة في فضاءين: الأول هو البيت والثاني هو المدرسة. في البيت تعاني الأم من زوجها وفي المدرسة تعاني المعلمة من غياب الزوج. فالرجل يمثل مشكلا في الحالين في الحضور والغياب وهذا الاختلال تواكبه البطلة/ الفتاة وتستبطنه وتحاول إحداث التوازن فنراها في فضاء ثان هو المدينة تشبع رغبتها من الرجل/ الذكر. وهي فتاة الهوى، وتشبع روحها من خلال علاقتها بنوار المثقف كأنها تعوّض فقْد الأم لرقّة الزوج وفقْد المعلمة للزوج.

انتقلت نوة إلى المدينة بعد موت أبيها. وقد "غادرت إلى المدينة ترقدها الخالة زنيخة في عينيها" (ص 43) و لكن الخالة زنيخة امراة رهينة المجتمع الذكوري، تخضع لأخلاقه وعاداته وتقاليده، خلّصت نوة من الفقر ولكنها لم تطلق روحها، لم تحررها من ذكورية مقيتة تنتعش في الفقر والجهل ولكنها تمارس سلطتها في الرفاه والاستقرار أيضا، كانت الخالة زنيخة محاطة بالرجال الباحثين عن الجسد  ولم تواجههم، ولم تساعد نوّة على مواجهتهم بل أرادت حمايتها بطريقة سلبية، بإخفائها وإبعادها عن الأعين الشبقة ولكن نوة أرادت ارتياد أماكن أخرى، وأن توسّع رقعة وجودها، لذلك غادرتها نوة. والتقت بنوار "الرجل الذي أسكت أناتها، أكبر فيها الأنثى على نخب الإحساس النبيل ورعى ضيمها وهي تائهة في المدينة تجر غبار الأمس الأليم" ( ص 49) ولكنها التقت أيضا برجال آخرين رأوا فيها مصدرا للذة ومن بينهم "الغريب" الذي رآها مثل "عروس الحلوى" (ص 123) فاقتصت منه بأن قتلته شرّ قتلة. وبهذا الحدث تعود البطلة إلى الفضاء الأول، تعود إلى الريف حيث أخواتها وأمها التي تحترق وتحترق معها "نوة"

 أعلنت نوة رفضها للذكورة في بيئتها الأولى: الريف حيث البداية والبداوة وفي البيئة الثانية: المدينة حيث التطور والمدنيّة. رفضت نظرة الرجل القديمة إلى المرأة أي أن تكون مصدر متعة ولذة فقط ورفضت نظرة المرأة إلى ذاتها نظرة المستكينة الخاضعة أو الناقصة لا تكتمل إلا بالرجل.وأعلنت نفسها ذاتا مختلفة أليست هي التي كانت لديها القدرة على طرح السؤال بينما اكتفى الاخرون بالصمت خوفا من المعلّمة؟ أليست هي التي اقتصت من الأب الظالم بينما رضخت أمها واكتفت بالبكاء وصمتت أخواتها، ولكن نوة لم تصمت بل اقتصت لهن ولنفسها. هزمت نوة السلطة الأبوية والسلطة المعرفية وهي طفلة بريئة واجهت ببراءتها السلطتين فهزمتهما وفي مرحلة لاحقة انتقلت إلى فضاء أرحب، إلى المجتمع الفسيح فاقتصت من الغريب، من مجتمع ذكوري.إنها لم ترض بالسائد أو بالأحرى لم ترض بالخطإ حتى وان صار سائدا ومألوفا ولعل هذا ما يلحقها بالشخصيات التاريخية والأبطال الذين لم يقنعوا بالواقع وحاولوا تغييره.

كانت نوة تعرج نحو نهايتها وهي تمر من برزخ إلى برزخ من الأسرة المحكومة بسلطة أب ظالم والمدرسة التي تطرح درسا لا يفهمه التلميذ ولا يساعده على تجاوز وضعه البائس إلى مجتمع المدينة التي لم تملك من المدنية إلا ظاهرها فحافظت على عقل ذكوري بدائي وأخيرا تعرج إلى النهاية لتفارق رفقة أمها في مشهد طقوسي مطهر تاركة الأب والمعلمة و الغريب في برك من الوحل والدماء.

 نوة عنوان لرؤية جديدة للعلاقة بين الرجل والمرأة ولمجتمع جديد تخلّص من فحولته الوهمية. تذكرت الكاتبة وحيدة المي عندما زرتها في مكتبها تراءت لي والجرائد من حولها وهي تستقبل شاشة حاسوبها تراجع مقالا حول فساد الحكومة فترتسم ملامح نوة مع كل حرف ترقنه وقبل أن أغادر مكتب الجريدة كانت صورة نوة تملأ شاشة الحاسوب.

مراد الشابي

كتاب "نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء" لأبي البركات الأنباري، ورقة من إعداد الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

 

كتاب "نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء"

لأبي البركات الأنباري،

ورقة من إعداد الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

 

كان الشعراء والنحاة والأدباء والفقهاء.... في بديات النقد الأدبي العربي يصنّفون إلى طبقات بشكل تفاضليّ. ولم يكن المنهج المعتمد في هذا التصنيف واضح المعايير بل كان خاضعا لاعتبارات متعدّدة كالانتماء إلى جهة أو إلى فئة اجتماعية أو إلى الأسبقية إلى معنى ما أو إلى صفات في ذات الشاعر، فقيل عن إمرئ القيس "أوّل من اغتدى والطير في وكناتها" (شرح المعلقات السّبع لابن الأنباري) وقال أبو عبيدة "أشعر الناس أهل الوبر" (جمهرة أشعار العرب للقرشي) وقال الذين قدّموا عمرو بن كلثوم "هو من قدماء الشعراء وأعزّهم نفسا وأكثرهم إمتاعا" (الجمهرة) وقال الذين قدّموا النابغة الذبياني "هو أوضحهم معنى وأبعدهم غاية وأكثرهم إفادة" (الجمهرة).

إذن فكتب الطبقات تعتمد المفاضلة على معيار ما، لكن هذه المعايير ليست قياسية ثابتة وعامّة يحتكم إليها الجميع.

والكتاب الذي نريد اليوم تقديمه هو "نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء" لأبي البركات الأنباري. وهو كتاب مهمّ في مادته كما سيأتي بيانه.

وقد نشر الكتاب عديد المرات نشرات مبتورة مشوّهة وغير معتمدة على مقابلة النّسخ المخطوطات بعضها ببعض حتى حققه تحقيقا علميا الدكتور المصري المرحوم عطية عامر أستاذ اللغة العربية بجامعة استوكهولم (1922/2012) نشره لأول مرة في استوكهولم سنة 1962 والطبعة التي لدينا هي الطبعة التونسية الصادرة بسوسة عن دار المعارف سنة 1998.

والمؤلف هو أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري (513/577) للهجرة فلا يختلطن على قارئ هذا التقديم بأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري (271/328) وهو شارح القصائد السبع الطوال (المعلقات).

ألّف أبو البركات في اللغة والنحو والأدب والتاريخ والفقه الشافعي وأصول الفقه وعلم الكلام والأنساب والتصوف. لكن كتبه لم تصلنا كلّها، فما وصل منها وحقّق أشار إليه المحقّق وما لم يصل من هذه المؤلفات استقى عناوينها ومادتها من كتب التراجم مثل بغية الوعاة للسيوطي والطبقات الكبرى للسبكي وكشف الظنون لحاجي خليفة.

وكتابه هذا نزهة الألباء انطلق فيه من مفهوم عام وشامل للأدب مستقرّ عند غيره ممّن سبقه وهي أنّ علوم الأدب ثمانية: النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر وأخبار العرب والأنساب. بيد أنّ أغلب من ترجم لهم في نزهة الألباء هم النّحاة ولا نعدم بعض الأدباء من غير النّحاة كالجاحظ وأبي نواس وحمّاد الرّاوية وأبي تمام وأبي الطيب المتنبي وأبي بكر الأنباري...

لكن المستغرب أنّ أبا البركات لم يصنّف من ترجم لهم كما هو شائع في كتب الطبقات حسب معيار واضح، بل ليس هناك ذكر لأيّ مفاضلة بين المترجم لهم. وعلى هذا فإنّ كتابه أجدر أن يصنّف ضمن كتب التراجم لا ضمن كتب الطبقات. فهذا الصنف من الكتب يحتوي فضلا عن التراجم على رؤية نقدية وإن كانت معتمدة على معايير ذاتية غير ناجعة.

وأمّا ترتيبه فيبدو أنه زمنيّ لأنه بدأ بأوّل من وضع النّحو وهو في نظره علي بن أبي طالب أفضى به إلى أبي الأسود الدّؤلي وانتهى به إلى وفاة أستاذه الشريف ابن الشّجري سنة 542 للهجرة.

ويحتوي نصّ الترجمة على ذكر الاسم مطولا ثمّ الولادة والمنشأ والاختصاص المعرفيّ والأستاذين ممّن تتلمذ عليهم وبعض ما اعترض صاحب الترجمة من الوقائع والحوادث والأخبار.

وفائدة هذا الكتاب أنّه موسوعة للثقافة العربية إلى منتصف القرن السادس تقريبا.

ورقة من إعداد الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس

مرحبا بكم في مجالس الرّكن النيّر للإبداع

23-4-2020

Flag Counter

أصدقاء مجالس الرّكن النيّر

أبو أمين البجاوي إسماعيل هموني البشير المشرقي البو محفوظ العامريّة سعد الله الفاضل الكثيري أماني المبارك أميرة بن مبارك إيمان بن ابراهيم إيناس أصفري بدوي الجبل بسمة الصحراوي بشر شبيب جمال الدين بن خليفة جميلة القلعي جميلة بلطي عطوي حليمة بوعلاق خالد شوملي خير الدين الشابّي رائد محمد الحواري سعيدة باش طبجي سلوى البحري سليمان نحيلي سنيا مدوري سوف عبيد صابر الهزايمه صالح مورو صباح قدرية (صباح نور الصباح) صبيحة الوشتاتي صفيّة قم بن عبد الجليل عبد الأمير العبادي عبد الحكيم ربيعي عبد العزيز جويدة عبد الفتّاح الغربي عبد الله بن عيسى الموري عبد المجيد يوسف عدنان الغريري عزّ الدين الشّابّي عنان محروس غادة إبراهيم الحسيني فاطمة محمود سعدالله فردوس المذبوح فيروز يوسف فيصل الكردي كفاية عوجان لطفي السنوسي لطفي الشابّي لمياء العلوي لودي شمس الدّين ليلى الرحموني محمد القصاص محمّد الهادي الجزيري محمّد سلام جميعان محمّد صوالحة محمّد مامي محمّد مبروك برهومي محمد مبسوط مختار الماجري مراد الشابّي منى الفرجاني ميساء عوامرية ناصر رمضان ندى حطيط هندة السميراني وهيبة قويّة يوسف حسين