عن
الجنون في الحضارة العربيّة،
من
خلال: نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء للأنباري
ورقة
من إعداد الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس
الورقة الثانية
2/
كلام المجنون
لمّا
سُئل أبو العباس المبرد عن سبب اختلافه إلى مواضع المجانين والمعالجين قال: "إنّ
لهم طرائف من الكلام".
يعتبر
جواب المبرد تثمينا لكلام المجنون. وهو بهذا الموقف إنّما يؤكد موقفا قديما ورد علينا
من الإغريق، فقد تحدّث أفلاطون عن الجنونMania في المحاورة التي تحمل اسم "فادر"Phèdre فقابل بين الهذيان والاعتدال والسّيطرة على الذات... وجعل الهذيان متعاليا
وسماويّا فقال: "إنّ أرقى الفضائل يأتي إلينا بواسطة الجنون الذي هو هبة إلهية"
وقال: "إن نبيّات دلف Delphes (معبد
تتلقّى فيه النبيّة تعاليم أبوللون) وراهبات دودون.Dodone (معبد خاص بزيوس وللإلهة الأم
ديوني) وهنّ يتخبطهنّ الجنون وهبن اليونان أعظم الأمور وأجملها سواء للأفراد أم للمجموعة".
(انتهى النقل عن أفلاطون).
ويستفاد
من خطاب المجنون الذي لقيه المبرد أنّه أبعد ما يكون عن الحمق والهذيان فهو من ناحية
ذو بُنية منطقيّة سليمة لا خلل فيها، ثمّ إنّ كلامه فيه محمول معرفيّ بأهل الثقافة
وبالشعر. قال وقد رأى معي محبرة: "معك آلة رجلين أرجو أن تكون أحدهما، تجالس أصحاب
الحديث... أو الأدباء أصحاب النّحو والشعر؟" (نهاية النقل) وفي بعض مراحله ذو
بنية حجاجية حين تعلّق الأمر بالجدال في نسب المبرّد...
ونستخلص
من هذا أنّ كلام المجنون خضع للأنساق اللسانية القياسية للخطاب وفارق الوضع اللساني
المعروف للهذيان بمخالفة سُنن التخاطب. فماذا يبرّر أن يصنّف هذا الشيخ مجنونا ويجبره
على الإقامة بالمارستان؟
ها
هنا قضية أخرى كان فوكو أثارها وليس لدينا في النّص المدروس مستند لمناقشتها وهي: من
يعيّن المجنون؟ من له صلوحية تصنيف إنسانا ما مجنونا؟
وليس
أقلّ استقامة من حديث مجنون المبرّد حديث مجنوب أبي بكر الأنباري. فهو يجادل في القرآن
وتأويله وفي القراءات وفي اللغة.
وبهذا
فإنّ الوضع اللساني لكلام الجنونين مفارق تماما لوضع الهذيان الذي يعتبره الفروديون
فوضويا لا يخضع لا لبنية ولا لسُنّة من سنن التخاطب في حين يعتبره جاك لاكان ذا بنية،
مهيكلا تماما مثل اللغة وله نسقه الخاصّ.
والسؤال
الذي يطرح: لماذا شغف المبرد بكلام المجانين الذي هذه صفته وقد كان يجد شبيها به في
مجالس اللغوين والأدباء؟
ربّما
كان الدّافع -وقد تكرّرت زيارته لمواضع المجانين حسب سؤال المازني- أن يعثر على خطاب
مفارق لما كان ينبغي أن يصدر عن مجنون من الهذيان والحمق. والغاية العميقة تبدو رغبة
في اللعب والتّفكّه. وهناك وضعية شبيهة نعيشها ببراءة شديدة هي استماعنا إلى الأطفال
الموهوبين الذين يصدر عنهم خطاب متعال على الخطاب الطفوليّ، خطاب متّسم بالمعرفة أو
الحكمة التي لا ينبغي للطفل امتلاكها، فيثير فينا ذلك الاستغراب والغبطة. وإذن فقد
كان للمبرد غاية لعبيّة Ludique متمثلة في
الحصول على خطاب طريف أي مخالف للسّنن، وهذه عادة الناس مع المجانين. قال ميشال فوكو
في محاضرته: "المجنون كما في المجتمعات البدائيّة ذو وضع متفرّد في مؤسّسات اللعب،
ويجب أنْ نلاحظ أوّلا أنّ المجنون موضوعُ لعب، فالمجنون يُلعب به، يتخذ موضوع سخريّة
(وهو) موضوع لعب وموضوع ضحك" (نهاية النقل عن فوكو).
وما
حدث مع المبرّد أنّه هو الذي كان موضوع سخرية للمجنون، فقد جاوزه دون السلام عليه،
فقد ورد في جواب المبرد: "دخلت يوما إليهم فمررت على شيخ منهم... فجاوزته إلى
غيره، فقال: سبحان الله، أين السّلام؟ من المجنون؟ أنا أم أنت؟ فاستحييتُ منه فقلتُ:
السّلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: لو كنتَ ابتدأتَ لأوجبتَ علينا الرّدّ، على
أنّنا نصرف سوءَ أدبك على أحسن جهاته من العذر، لأنّه كان يقال: للدّاخل على القوم
دهشةٌ..." (انتهى النقل من جواب المبرّد) وهذا يتّفق تماما مع قول فوكو:
"والأغرب من هذا أنّ المجنون يَتّخذ الآخرين موضوعَ لعب، ويتّخذ جِدّ العقل لعبا،
إنّه يلعب بجدّ العقلاء ويتّخذه هُزُؤا" (انتهى النقل عنه).
وخلاصة
القول فيما يخصّ ما ورد في كتاب أبي البركات الأنباري "نزهة الألبّاء" متعلّقا
بالجنون أنّه في الحضارة العربية في القرن الثالث الهجري كان الجنون معترفا به مرضا
يعالج وقد عزل المجانين في أمكنة خاصة بهم، لكن هذا الأمكنة كانت مفتوحة للعامة فالعزل
كان ذا اتجاه واحد وعومل المجانين معاملة خاصة يُحبسون داخل هذه الفضاءات ويقيّدون.
ولسنا
نعلم (انطلاقا من كتاب نزهة الألبّاء) من كان بيده تعيين المجنون ووضع تشخيص لحالة
الجنون... ويظهر الجنون في اعتراء سلوك المجنونين غرابة، قال المبرد وقد تعرّف المجنون
على هويته استخلاصا من طرح الأسئلة عليه: "أنت المبرد أنت المبرد، وجعل يصفق وقد
انقلبت عينه وتغيّرت حليته...فبادرتُ مسرعا خوف أن تبدر لي منه بادرة ونجوت ...منه"
(انتهى النقل من قول المبرد) وفي سلوك المجنون الثاني تمثل السلوك الغريب انغماسه في
النّجاسة.
بيد أنّ كلّ هذا يخالف تماما ما دأب عليه المجانين من الهذيان الخارق لسنن التخاطب، فكان كلام المجنونين منسجما ذا بُنى منطقية، خائضا في أعقد المسائل المعرفية وفي المعارف السّائدة في العصر كاللغة والشعر والأنساب.
الباحث:
عبد المجيد يوسف/ تونس