عن
الجنون في الحضارة العربيّة،
من
خلال: نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء للأنباري
ورقة
من إعداد الباحث: عبد المجيد يوسف/ تونس
هذا
الموضوع لسنا السّابقين إليه، لِنُشِرْ فحسب إلى أطروحة ميشال فوكو حول تاريخ الجنون
وكذلك إلى محاضرته حول الجنون والحضارة التي ألقاها بتونس في نادي الطاهر الحداد أواخر
الستينات من القرن الماضي ونشرت بالكراسات التونسية... وهي التي عرّبناها وسوف تصدر
قريبا عن دار المنتدى للنشر والصحافة. وقد أشار فوكو في محاضرته هذه إلى أنّ الحضارة
الإسلامية من أوائل الحضارات التي اعترفت بالجنون مرضًا... وهذا أمر له أهمية شديدة
لأنّه تجاوز التفسيرات الخرافية والميتافيزيقية لسلوك المريض وأحواله، لكنه لم يشر
– في المحاضرة- إلى مصدر من المصادر العربية أو الإسلامية التي تحدّثت عن الجنون وصنّفته
مرضا صريحا نظرا للطبيعة الشفهية للكلام في إطار المحاضرة. وربّما كان اعتمد على وجود
مؤسّسة المارستان المخصّصة لهذا المرض في تاريخ متقدّم. ولا شكّ أنّ العرب أوجدوا مؤسسة
المارستان بناء على ما تلقوه من تأثير من اختلاطهم بالفرس وما نقلوه عنهم. وما يهمّنا
في هذا المقال أننا وجدنا حديثين في كتاب "نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء"
لأبي البركات الأنباري يتعرّضان للجنون ليس باعتباره موضوعا خالصا للتأمّل ولكنّه حادث
عَرَضَ في سيرة أحد اللغوين المرموقين في القرن الثالث الهجري هو أبو العباس المبرّد
(210/285) للهجرة. وفي سيرة أديب لغوي آخر هو أبو بكر الأنباري شارح المعلقات
(271/328) للهجرة.
تروي
سيرة المبرد أن اللغوي أبا عثمان المازني سأله في أحد المجالس: "بلغني أنك تنصرف
من مجلسنا فتصير إلى مواضع المجانين والمعالجين، فما معنى ذلك؟"
1/ العزل
وسؤال
المازني هذا يحمل ملحوظات مهمّة فيما يخصّ الجنون، منها أنّ المجانين يعزلون في موضع
خاص بهم، لكنّنا لا نعلم بشكل قاطع طبيعة هذا المكان... بيد أنّنا نجد في النصّ الذي
يتحدّث عن سيرة أبي بكر الأنباري أنّه دخل البيمارستان بباب المُحَوّل (ببغداد/ انظر
ياقوت) فسمع صوتا يجادل في مسائل القرآن وتأويله فقال لصاحب البيمارستان: من الرّجل،
فقال: إبراهيم المُوَسْوَس، مجنون. فقال ابن الأنباري: ويحك هذا كعب بن أُبَيّ، افتح
الباب عنه. ففتحه فإذا أنا برجل منغمس في النّجاسة..." (لا يختلطنّ عليك أمره
بأُبَيّ بن كعب الذي تُرجّح وفاته في خلافة عمر حوالي سنة 22 للهجرة).
فما
يستفاد من الحديثين أنّ المجانين كانوا يعزلون عن العامة... فمنهم من يجلس في العراء
داخل هذا المكان أيّ في فضاء مفتوح لكنّه يكبّل، ومنهم من يُحبس في غرفة ويغلق دونه
باب. وإذ نقارن بين الوضع العقلي للمجنونين نرى أنّ صاحب المبرد لم يذكر عنه أنّه
"غارق في النّجاسة" عكس صاحب ابن الأنباري وهذا قد يدلّ على أنّ كيفيّة العزل
تحدّد بحسب خطورة الحالة وإغراقها في العته.
وهكذا
نستنج صورة عن فضاء المارستان : غرف تغلق من الخارج خاصة بالمجانين الذين قد يمثلون
خطورة أو يخرقون إجراء العزل وفضاء مكشوف أو مفتوح يخصّص للمجانين الأقلّ خطورة مع
الاحتياط منهم بتكبيلهم والتكبيل دلالة لا شك فيها على رغبة المجنون في مغادرة المارستان.
ففي حديث المبرد: "...فرأيتُ القيد في رجله إلى خشبة"... والعزل إنّما يتمّ
باتجاه واحد فيُعزل المجنون عن الاتصال بالعامة لكنّ العامة لا يمنعون من الاتصال بالمجانين
لأسباب لعلها هي ما أشار إليه فوكو في محاضرته: "المجنون موضوع سخريّة وموضوع
لعب وموضوع ضحك" لكنّ هذا السّبب ليس هو ما قد يحدو برجل كأبي العباس المبرّد
صاحب "الكامل في اللغة والأدب" إلى أن يتردّد على مكان المجانين.
2/كلام
المجنون
يتبع...
(الورقة الثانية)
الباحث:
عبد المجيد يوسف/ تونس