آخر أحفاد البدر
(1)
كُنّا بدوًا نسير طويلا تحت الشّمس ونتأبّط
البلغة لنحافظ على لمعان جلدها المدبوغ وللأقدام أن تتحمّل عوضا عنها العثرة والشّوكة
ولسعة العقرب. نعم كنّا بدوا نأكل ما حضر ونلبس ما ستر ونصبر على الجدب أعواما ونتحمّل
العطش أيّاما ننزل ونرحل في أرض الله الواسعة ولا نحني رؤوسنا لأحد من البشر وقد
يهلك الرّجل منا ودونه قطرة الماء الأخيرة يؤثر بها رفيق الطريق!
(2)
نعم كنّا بدوا إذا تكلّمنا صدقنا فالكلمة
عندنا – وما أدراك ما الكلمة – نقول إنّها تخرج من الحلق كالرّوح تماما فإذا وعدنا
أنجزنا وإذا توعّدنا فخُذْ حذرك ولكن لا خوف عليك ولا أنت تحزن، إذا مررت على
البدوي ضيفا فهو سيرحب بك وسيهتف لك من بعيد على المدى ومن النّظرة الأولى أهلا
وسهلا ومرحبا والجود بأحسن الموجود طيلة ثلاثة أيّام!
(3)
أجدادنا البدو
كانوا يعرفون السّاعة بانكسار الظلّ
يعرفون الأرض المعطاء بقبضة التراب
وباتّجاه البرق يعرفون المطر
وباقتفاء الأثر
يعرفون الّذي مرّ
فأجدادنا البدو
كانوا يؤرّخون بعام الصّابة
أو بعام الجراد
أو بعام الوباء
محمد وعلي وعائشة
عندهم أحسن الأسماء
وليس في الدّنيا عندهم أحبُّ
من الأولاد
والخيل
... والنساء!
(4)
كُنَّا بدوًا نشتاق إلى البحر فنتخيّل
الأمواج والماء والأسماك بالوصف فنتصوّر الرّمال مياها زرقاء كالسّماء تماما
لكنّنا نقف حائرين عند تصوّر السّفينة والسّمك. وحدث مرّة أن سافر جماعة من
الأقارب إلى البحر فحملوا معهم إلينا ماء البحر في بعض الزّجاجات. كانت أعجب شيء
عرفناه في صِبَانا فجعلنا نتذوّق الملوحة العذبة. ذلك أنّ البدويَّ لا يشتاق إلى
ماء زمزم كاشتياقه إلى ماء البحر. فماء زمزم عنده بركة وشفاء أمّا ماء البحر فهو
شيء آخر يُثير الخيال والمستحيل!
(5)
نخلة في الشّموخ
وجَمَلُ في الجَلد
ذلك هو البدويّ.
(6)
كُنّا بدوًا في الأرض نصول ونجول وسابع
السّموات لم تكن أطول من أنف أقصرنا قامة ولكنّه الزّمان يمضي ويأتي زمان العمارات
الشاهقة الّتي لا نملك فيها لا أرضا ولا سماء إنّه زمان المدن القصديرية وزمان
المخيّمات إنّه زمان الهزائم والمسلسلات: مسلسل التّلفزات ومسلسل الانشقاقات والخلافات
العربيّة. نعم كُنّا في زمن البداوة حيث الشهامة والعزّة فدخلنا في زمن سجائر رعاة
البقر حيث التبعيّة والمذلّة... إنّه زمن التشيّء فلا شيء كما هو كلّ شيء في محلّ
نظر إلى أن يأتي ما يخالف ذلك!
سوف عبيد/ تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يتم نشر التعليق بعد المراجعة